مشروع يجمع بين علم الكيمياء والدقة الصحفية التاريخية، بين المؤثرات الصوتية وديكور مخابر الكيمياء المعقدة الدقيقة، بلباسها وعالمها الخاص..قد تبدو التوليفة في البداية شبه مستحيلة، لكن مسار يافا السعيدي العلمي والفني جعل المستحيل ممكنا بلمسة ابداع وذوق راق. درست يافا السعيدي الكيمياء وتحصلت على شهادة الهندسة في هذا الاختصاص، لم تكتف بمجال اختصاصها، بل توجهت أيضا إلى الفن فهي عازفة على الكمنجة ومنسقة في مجموعة دبّو الفنية، ورغم أنه من الصعب أن تتقاطع الكيمياء مع الفن، إلّا أنّ عرض ”رقصة الذرّات“ مزج الاختصاصين ببراعة كبيرة.
تقول يافا لنواة:
أنا مهندسة في الكيمياء وأمارس الفن. ترعرعت وسط عائلة مناضلة بين الكتابات الماركسية والأدبية، عشت كل حياتي وسط هذه الثلاثية، وفي عرض رقصة الذرات، أردت ربط هذه الأجزاء الثلاثة التي تمثل ركائز حياتي ببعضها وهي الكيمياء اختصاصي العلمي، والفن والنضال.
ذرات الصبر والغضب
حين وقفت يافا السعيدي مرتدية لباس المختبر أمام طاولة رصفت فيها خلطات كيميائية، حاكت صورة الآلهة الإغريقية هيكاتي التي ارتبطت في الميثولوجيا اليونانية بالسحر والضوء وتقاطعات الطرق، فكلاهما تجيد أسرار التوليف العجيب.
في مختبر ”الذرات الحية“، استحضرت يافا 6 محطات من تاريخ تونس تبدأ من العام 1987، حين استولى الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي على السلطة، لتصل إلى اندلاع الثورة، ثم حقبة حكم النهضة وتحالفاتها السياسية وصولا إلى فترة الاغتيالات والإرهاب ثم الغضب والقهر الاجتماعي وصولا إلى فترة الرئيس الحالي قيس سعيّد. :تقول يافا السعيدي
حاولت من خلال مشروع رقصة الذرات أن أروي قصة أهم محطات تاريخية منذ اعتلاء بن علي السلطة إلى غاية الآن وذلك بالاعتماد على مكونين أساسيين في الكيمياء وهي الألوان والانفجارات.
أنا متخصصة في الكيمياء وأعلم أنني حين أمزج مكونين سأحصل على لون ما أو تفاعل يعبّر عن الغليان أو الهدوء، لذلك أطلقت على كلّ تجربة من التجارب الستة أسماء مستلهمة من الواقع في تلك المحطات، عوض المصطلحات الكيميائية.

استخدمت يافا السعيدي مصطلحات لكل خلطة كيميائية مثل القمع والصبر والصمت والشعب والخيانة، ولم يكن ذلك الاختيار عشوائيا لأنه مع خلطة الغضب مثلا، تبدأ بإضافة مواد كيميائية تدريجية لينتج تفاعلا تفور معه المادة وهو تعبير خالص للغضب.
يقف زوار المخبر لاكتشاف المحطة الأولى في عرض ”رقصة الذرات”، وهي محطة القمع على امتداد العصور وتنوع ضروبه وألوانه، عبّرت عنها بواسطة الألوان حيث يبدأ القمع في فترة حكم بن علي بمحلول بنفسجي اللون، سمته القمع، ثم تضيف محلولا آخر يحمل الاسم ذاته، ليتحول اللون تدريجيا إلى اللون الأزرق وهو رمز حكم حركة النهضة، وتواصل في زيادة قطرات من محلول القمع ليتحول إلى اللون الأخضر وهو رمز الشعبوية في حكم الرئيس الحالي قيس سعيّد. تقول يافا السعيدي لنواة ”مهما تغيّرت الألوان السياسية، يظلّ القمع قمعا حتى لو تغيّر لونه“.

تنتقل يافا بزوار مخبرها إلى المحطة الثانية وهي تعبيرة كيميائية عن الغليان وانفجار الثورة، محطة صاحبها كغيرها من المحطات، تعليق صوتي وموسيقى يعلو وينخفض نسقها بالتوازي مع سكون المحلول الكيميائي أو فورانه أو تغير لونه. في هذه المحطة، يشاهد جمهور العرض غضب التونسيين حين تضيف يافا إلى محلول هادئ يعبّر عن صمت التونسيين، محلولا آخر يتسبب في رغوة كبيرة تعبّر عن انفجار غضب التونسيين، ليتغيّر المشهد ويعلن عن بداية المحطة التي تليها.
القهر والخيانة
المحطة الثالثة التي تسميها يافا السعيدي ب”لمّة القهر“ والتي تعبّر عن اتحاد التونسيين رغما عنهم في فترة تحالف حركة النهضة ونداء تونس وأحزاب أخرى من إيديولوجيات مختلفة تقاسمت الحكم بينها بعد الثورة، وعبّرت عن هذا التحالف بخلط محلول زيتي ومائي. تقول يافا :
من المعلوم أن الزيت والماء لا يمتزجان، لكن بإضافة محلول كيميائي آخر يمكنهما الامتزاج، لكنه امتزاج غير كامل. أردت من خلال هذه التجربة التعبير عن أن التحالفات السياسية في تلك الفترة هي تحالفات هشة وان اتحاد التونسيين لم يكن اتحادا قويا بسبب الاختلافات الأيديولوجية، رغم محاولتهم ذلك.
ينتقل جمهور ”رقصة الذرات“ إلى المحطة الرابعة الذي تعبّر عن عمود الموت، حيث يعبّر محلول أبيض شفاف عن الشعب ثم يُضاف له محلول جديد وتبدأ يافا بتحريكه ليخرج منه عمود قاتم وهو تعبير عن الخوف الجماعي وعن الإرهاب والاغتيالات التي عاشها التونسيون. تقول غاية وهي إحدى من حضروا عرض ”رقصة الذرات“ ”حين شاهدت لون الدخان المظلم، شممت فعلا رائحة الموت، وأحسست بالخوف تماما كالخوف الذي عاشه التونسيون في فترة الإرهاب والاغتيالات. دفعني الفضول لدخول العرض رغم أنني خشيت ألا أفهم شيئا خاصة أن الكيمياء عصية على الفهم بالنسبة لي، لكنني اكتشفت عرضا مبتكرا وفريدا“.

تبدأ المرحلة الخامسة بمحلول اللون الأزرق وهو لون الصبر في هذه المحطة، وخصصت هذه المحطة لصبر الطبقة الشغيلة وعاملات الفلاحة. يبدأ المحلول بفقدان لونه لكن بتحريكه يعود اللون إلى طبيعته، وهو تعبير عن الأمل الذي يخفت ثم يعود.
تقول ريم التي زارت عرض ”رقصة الذرات“ في اليوم الثاني من مهرجان نواة :
أبهرني استخدام مجالين الأول علمي والثاني فني للتعبير عن محطات تاريخية عشناها أو سمعنا عنها.
عبرت صاحبة التجربة بواسطة مواد كيميائية عن مواضيع اجتماعية وسياسية عاشها التونسيون وتعودنا على قراءتها في الصحف او نقلها بواسطة الصورة أو الفيديو أو في أفلام أو من خلال تعبيرة جسمانية مثل الرقص. أما أن تعبر عن الغضب أو خيانة الثورة بمركبات كيميائية فهذا إبداع لقد شاهدت الغضب بعيني خلال العرض وأحسست فعلا بالغضب والحسرة. عبّرت يافا عن كل ذلك عبر تفاعل المواد الكيميائية التي مزجتها وصاحبتها خلفية موسيقية تماهت مع التجارب ومع معاني تلك المحطات إضافة إلى نص التعليق المتقن. هذه التعبيرات طريفة جدا وتحمل ابتكارا وتجديدا حقيقيا.
تبدأ المحطة السادسة التي تعبّر عن خيانة الثورة بتجربة سوائل ثابتة تتحوّل إلى ظلام وهي اختصار لخيبات عاشها التونسيون مثل وفاة عمر العبيدي الذي لم ينل قاتلوه جزاءهم وسجن مراد الزغيدي وآخرون وسقوط جدار المدرسة في المزونة الذي أودى بحياة تلاميذ. كلّ تلك الخيبات، في فترة حكم قيس سعيد وقبلها بقليل، رسّخت شعورا بخيانة الثورة.
ينتهي عرض ”رقصة الذرات“ بمحطة أخيرة يشارك فيها الجمهور بتجربة خلق تفاعلات بنفسه، ليصل إلى الحل الكيميائي الذي يرى فيه المستقبل وكأنها دعوة، عبر الكيمياء والجزيئيات والذرات بتجميعها وتفاعلها الإيجابي او السلبي، إلى الاتحاد بهدف التغيير ونبذ الخمول والاستكانة.
طوّعت يافا السعيدي في عرض ”رقصة الذرات“ الكيمياء وحولتها من علم تحكمه معادلات دقيقة إلى تعبير فني عن أحداث تاريخية، فجمهور العرض بعد مروره بمختلف مراحل التجارب الكيميائية السياسية وقيامه بتجربته الخاصة، يكتشف الجدول الدوري للعناصر الكيميائية الشهير، لكن الجدول الدوري ليافا السعيدي تغيرت مكوناته من مختصرات الجزيئات والوحدات الكيميائية إلى أسماء شخصيات وطنية وعالمية بارزة كنجيبة الحمروني ولينا بن مهني، كحسن السعداوي وفرحات حشاد والهادي شاكر، كعمران المقدميني والمولوي الجندوبي، كماركس ومارلي وغاندي وغيفارا وغيرهم ممن اقترنت ذكراهم بالنضال و التحدي من اجل حرية الشعوب.
iThere are no comments
Add yours