المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة


حوار مع فيصل الأحمر

ماذا كان موضوع الحملة؟ الرواية مخلة بالحياء والآداب العامة ومحتوية على كثير من التعابير المرفوضة (دون تحديد الغاضبين لنقطة هامة: التعابير مرفوضة من قبل من؟)

ما السبب الخفي للحملة؟ أن مجموعة من ”رجال الأدب“ الجزائريين يعتقدون أن النساء يجب أن يكتبن تحت وصاية الرؤية الأخلاقية وتحت ضغط وجهة النظر المتدينة (دون الخوض في تفاصيل الدين والتدين والحدود بين الحياء والأخلاق ثم بين الأخلاق والأخلاقيات) … على المرأة – كاتبة كانت أم غير كاتبة – أن تظل تحت أعينهم الساهرة، وربما تحت إملائهم أيضا. هؤلاء ينزعجون من مجرد ذكر ألفاظ قواميس الرغبة والجنس والغضب في رواية… وهذا يحدث في عام 2024.

من بين مخرجات خطابهم الغاضب الناقم الذي بلغ حد الشيطنة، فكرة أن استخدام اللغة اليومية التي تعكس الجزائر الحقيقية من خلال شخصيات الرواية يُعد ”مساسًا بالثوابت الوطنية والأخلاق الإسلامية“، و”ترويجًا للفساد والدعارة“ يستوجب توجيه ”نداء إلى السيد الرئيس“ واستدعاء تدخل القوى البرلمانية. ووفقًا لإعلان أحد ”الصحفيين“، فإن الحملة قد قامت بهدف ”تطهير الثقافة الجزائرية من الانحلال“، و”التخلص من الحيوانات المنوية التي خلفتها فرنسا“، كما أضاف أحد ”الأئمة“ الذي يُفترض أن ينشر الفضيلة والعقل بين الناس.

فيصل الأحمر، أستاذ الأدب العربي والإنجليزي في جامعة بومرداس بالجزائر، وأحد الكتّاب الجزائريين الأكثر إبداعًا وغزارة في الإنتاج باللغة العربية في مجالات متعددة مثل الرواية والشعر والنقد الأدبي والفلسفة. وهو متقن للغة الفرنسية كتابةً وحديثًا، إضافة إلى اللغة الإنغليزية التي يدرس بها في الجامعة، وإلى اللغة الإيطالية. وقد وافق على الإجابة عن أسئلة … حول ما صار يُعرف الآن بـ”قضية إنعام بيوض“.

بصفتك أكاديميًا وكاتبًا، ما تفسيرك لهذه الحملة المتطرفة السخيفة والخطيرة التي قادها من يُفترض أنهم ”صحفيون“، ”كتّاب“، و”أساتذة جامعيون“ ضد رواية إنعام بيوض وشخصها؟

فيصل الأحمر: تُفسَّر هذه الحملة التي يمكن وصفها ”بالرجعية“ ضد رواية هوارية، وضد شخصية إنعام بيوض – وهذا غريب جدا- على عدة مستويات، لا سيما أن الرواية تخطت نظامًا من القواعد الأخلاقية المحافظة التي يعتبرها البعض غير قابلة للمساس، بل يعدونها جوهر الأخلاق ذاتها. ومن هذا المنطلق، فإن تداخل القيم شديد التعقيد، فهي مسألة مفاهيمية قبل أي شيء آخر… والمشكل يصبح مضاعفا إذا ما تلقف هذا النوع من الجدل المفهومي أناس بلا أسلحة عقلية كافية على أرضية شديدة الانزلاق مثل مواقع التواصل الاجتماعي حيث يقل التمحيص، وتكثر التعميمات المخلة والتعتيمات الخطيرة… في هذه القضية مثلا تم الخلط بين الحق في الأدب وما يُراد فرضه من أخلاقيات دينية كمبدأ فني غير قابل للتجاوز، كما تم الخلط بين الأخلاق في المجالين الخاص والعام وبين تلك التي تخص المجال الأدبي. اللغة البذيئة والشتائم التي تنطق بها شخصيات خيالية تُختزل لتصبح محسوبة على الكاتبة وتبرر بذلك اعتداءً شخصيًا ظالما ومجنونا على الكاتبة.

الهجمات المعادية للنساء التي وُجِّهت ضد هوارية ومؤلفتها لا يمكن تبريرها إلا من خلال الهواجس الأخلاقية والهوياتية لبعض ”الأساتذة“، ”الكتّاب“، و”المثقفين“ الجزائريين. في الأدب العربي والتراث الثقافي الإسلامي، الأمر واضح تمامًا: اللغة الجنسية والمفردات المتعلقة بالجسد حاضرة بشكل كبير لدرجة أنها تعتبر عادية… والحدود بين الكتاب والفضاء العمومي، ثم بين العالم التمثيلي الرمزي للأدب وبين عالم الحقيقة مرسومة بوضوح. ولنا في ذلك تقاليد قائمة لا مجال لمراجعتها ”علشان عيون“ فلان أو علّانة.

تحت ذريعة ”الدفاع عن الثوابت الوطنية والقيم الإسلامية“، قام ”أساتذة جامعيون“ و”كتّاب“ جزائريون، معظمهم من الرجال، بحملة واسعة من الشتائم والتشهير ضد كاتبة أصبحت ساعتها أكثر عزلة من أي وقت مضى. كيف تفسرون هذه الكراهية تجاه النساء في الأدب، وهذا الخلط بين ”النقد“ و”الدفاع عن الهيمنة الذكورية“؟

 رد الفعل العنيف تجاه منح رواية ”هوارية“ جائزة أسيا جبار الكبرى يعكس رفضًا واضحًا من بعض الأوساط الجامعية والثقافية لمنح النساء الكلمة الإبداعية والعلمية. إن حقيقة أنّ امرأة قد تحصل على رأسمال رمزي كبير عبر مثل هذا التتويج قد هزت أركان الهيمنة الذكورية في الجزائر، حسب تعبيرك البورديوي الجميل… يؤسفني أن أعترف بأن العديد من الرجال الجزائريين لم يصبحوا بعد مستعدين لقبول أن امرأة يمكن أن تعبّر، في عمل علمي أو فني أو حتى روائي، عن رؤيتها للواقع الاجتماعي أو لوضع حقوق المرأة المثير للجدل… تمثيل العالم من قبل امرأة لا زال يخضع للترسيمة البدوية القديمة المتجددة التي ترى في المرأة مواطنا من الدرجة الثانية.

الهيمنة الذكورية لا تزال فاعلة جدًا، بحيث لا تستطيع عقلية الرجل (التي يحدث لها كثيرا أن تحملها امرأة لتقود ما يمكن تسميته بحرب بالوكالة: امرأة تحارب ابنة جنسها بتهم من صناعة الرجل) أن تتحمّل كتابا يصف تدمير الرجال للنساء بلغة جريئة ومتمردة. حتى في الجامعات، لا يُسمح للنساء بأن يكن قائدات حركات اجتماعية أو مؤسسات أفكار فلسفية وسياسية جديدة. لكن هذا التحفظ ليس حصريًا للرجال؛ بعض النساء، سواء كن متعلمات أم لا، يشاركن في اضطهاد النساء الأخريات كما أسلفت قبل قليل. والدليل على ذلك هو النساء اللواتي اتهمن إنعام بيوض بـ”الترويج للفساد“ في روايتها. جهاز التبعية معقد وله وجوه متعددة وطرق ملتوية.

هل ترى في هذه الجدالات ذات الادعاء الأخلاقي والمعرجة على مواضيع الهوية عودة إلى الواجهة لانقسامات سياسية وأيديولوجية متجذرة في مسارات تأسيس الدولة الجزائرية؟

أرى في هذه القضية إعادة ظهور لصراعات أيديولوجية كانت معلقة لفترة طويلة ولم يتم حلها بسبب بعض السياسات الثقافية التي تم تبنيها عقب الاستقلال. هذه الصراعات التي تتعلق بقوة بموضوعات الهوية، واللغة، والنسوية، أصبحت أدوات لصنع المشاكل التي يختبئ خلفها السياسيون لتجنب معالجة القضايا الجوهرية التي تشغل الجزائريين.

ومع ذلك، وربما يكون هذا هو الشيء الإيجابي الوحيد في هذه الجعجعة الرجعية، أرى ظهور وعي معين، وهوية سياسية جزائرية تدافع عن حق إنعام بيوض في الخيال والتخييل من خلال استخدام حجج المواطنة وحرية التعبير والفردية. هذا يبعث في نفسي البهجة ويدفعنا نحن الكتّاب والفنانين إلى إعادة التفكير في الفضاء الثقافي الجزائري بطرق جديدة.

لكن، وبالعودة إلى سؤالك، يجب على المثقف النقدي في الجزائر أن يتصدى للتهم الرجعية الموجهة إلى الكتّاب بناءً على اللغة التي يستخدمونها: أن تكون ”مع الإسلام“ عندما تكتب بالعربية، أو ”ضد الإسلام“ عندما تكتب بالفرنسية، أو ”ضد تصور مهيمن عدديا للوطن“ عندما تكتب بالأمازيغية. هذا ليس له أي معنى مطلقًا، والتجزئة المؤسفة للمشهد الأدبي الجزائري إلى ثلاث لغات لا تتواصل فيما بينها لا تخدم عمل الكتّاب. يجب أن يهتم النقد الجاد بجميع الأعمال الروائية في الجزائر، بجميع اللغات الفاعلة أو المفعّلة في البلاد.

ماذا يمكنك أن تخبرنا عن الكتاب الجزائريين الذين يكتبون باللغة العربية، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، والذين دافعوا عن إنعام بيوض ودعوا إلى استعادة الإرث المفتوح والتعددي للحضارة العربية؟

من المهم أن نشير إلى أن الكتّاب الجزائريين الذين أثاروا نار الكراهية والقدح والشتيمة ضد ”هوارية“ وكاتبتها كانوا في الغالب شعراء، ونقادًا للشعر، من المختصين في دراسة اللسانيات ، وحتى من المشتغلين على علوم اللغة التقليديين، وليسوا روائيين ولا نقادا مختصين في الشأن السردي، باستثناء حالات نادرة جدًا. حمولاتهم المعرفية والعلمية ومقاربتهم الفكرية للرواية وللتمثيل السردي للعالم ضعيف جدًا؛ ولهذا السبب لم يتمكنوا من الدخول في نقاش بنّاء ومبني على الحجج مع من يسمونهم ”أعداء الأمة والدين“…. واكتفوا بما يشبه التهريج والجعجعة الجماهيرية على الفيسبوك وباقي مواقع التواصل الاجتماعي.

أما بالنسبة للكتّاب الذين دافعوا عن حق إنعام بيوض في الإبداع، فقد انتقد بعضهم بعض الجوانب الشكلية والأسلوبية وحتى اللغوية، ولكن دون الإشارة إلى ”الثوابت الوطنية والمبادئ الدينية“ التي لا علاقة لها بالرواية في مستواها السطحي على الأقل، فإن وجدت على مستوى تأويلي فنحن في انتظار باحثين جادين يبيّنون لنا ذلك وسنخر لهم ساجدين ساعتها. كانت هذه الانتقادات علمية منهجية موضوعية بالكامل، وأنا سعيد جدًا بوجود مثل هذه الأقلام في الجزائر. لقد قلت هذا سابقًا، لكنني أكرره مع إضافة تفصيل مهم: الكلاسيكيات العربية المتعلقة بأدب الجسد كانت من تأليف رجال دين، قضاة، وعلماء متعمقين في القرآن والتقاليد الإسلامية. وجهل (أو تجاهل) هؤلاء الذين ينددون بـرواية ”هوارية“ بناءً على دوافع دينية مثير للسخرية أولا وللأسف ثانيا.

كيف عشت إغلاق دار ميم للنشر، التي نشرت أعمالك؟

أعتقد أن هذا هو الأمر الأكثر حزنًا وخطورة في كل هذا الضجيج الفارغ. دار ميم للنشر هي مؤسسة جادة وتحظى باحترام كبير نظرًا لجودة إصداراتها. العديد من المتخصصين في الكتب، قراء ومكتبيين، وكتّابا، وثلة معول عليها من النقاد الأدبيين يعتبرونها أفضل دار نشر في الجزائر. قرار الإغلاق الذي شهدناه ونحن عاجزون عن فعل أي شيء قد أحزنني بشدة… وإن كانت الأصداء تتحدث عن مشاركة الدار في المعرض المقبل، مما يجعلنا متفائلين لكون مديرة الدار الكاتبة والمثقفة الراقية ”أسيا علي موسى“ قد راجعت موقفها بالتماس رائع من المجتمع الثقافي الذي هب هبة كبيرة داعيا الدار إلى مواصلة عملها.


تصريحات جمعتها وقدمها فارس لونيس
صحافي مقيم في باريس.