نحيي اليوم ذكرى اندلاع الشرارة التي التهم لهيبها ظلم نظام المافيات البنعليني، ظلم لم ينتف برحيل نظام وتعويضه بآخر، بل دخل أفخم صالونات التزويق لتجميل قبحه ثم تسلل بيننا فوجد له أبواقا اشتاقته وأخرى استلذت مرارته، ظلم تأسلم واطلق العنان للحيته بعد ان كان لعقود بربطة عنق وبدلة غربية غير متناسقة الألوان، ظلم نراه اليوم متنام، تعاظم وتعملق حتى كاد يبتلع البلاد برمتها، تفاصيل ضروبه موزعة بإحكام بين مراكز البوليس وفرق البحث، بين المحاكم والسجون، بين كبرى المدن والقرى ساحلية أو مجاورة لحدودنا الغربية والجنوبية.
فاليوم من أجل كلمة حق ورأي رفض البقاء حبيسا للخوف والتوجس تتجند الوظائف في مشهد تكرر حتى الرتابة؛ مجموعات وصفحات روبوتات المريدين تطلق حملات العويل الكاذبة الجبانة صوب كل صوت وفعل حر رفض الانبطاح للرداءة والتسلط، لتسارع النيابة العمومية وفرق البحث البوليسي في التقاط المشعل وتكييف هذا العويل الكاذب إلى اتهامات رديئة الحياكة والتلفيق لكنها كافية لإيقاف النشطاء والمعارضين والزج بهم.ن في السجون، تجنبا للعقاب الإداري والحط الوظيفي والنقلة العقابية بعيدا عن العائلة، لتعوض مقولة العدل أساس العمران بالجملة الانتهازية ”تبكي أمه ولا تبكي أمي“.
قد تعتقد أن مسلسل الظلم ينتهي مع ظلمات السجون لكنه في الحقيقة يغلق فصلا ليفتح آخر قوامه العقاب المزدوج بسوء المعاملة والتنكيل لكسر المعنويات، فما إن تشارف العقوبة السجنية على الانتهاء حتى تعود ذات الآلة لاستنباط اتهامات جديدة كافية لتمديد الإقامة بالسجن كما حصل ويحصل مع عدد من المعارضين السياسيين والنشطاء الحقوقيين والصحفيين والمعلقين الإعلاميين.
وسط هذه الأجواء ”المنعشة“ يعود 17 ديسمبر ليذكرنا بأسباب اندلاعه وبالشعار المركزي الذي أطلقته حناجر الغضب واهتزت البلاد لصداه المرعب للاستبداد ”شغل حرية كرامة وطنية“، شعار يقتضي توفير الشغل والتمتع بالحرية لتكريس مفهوم الكرامة الوطنية، شعار ظل لعقد من الزمن يتقدم بسرعات متباينة، فالحرية أطلقت العنان لركابها وابتعدت أميالا عن الشغل الذي رزح مكانه أو بالكاد تقدم خطوة ليسارع في التقهقر خطوات إلى الوراء.
فيبدو ان السلطة حبيبة العدالة والمساواة حز في نفسها أن ترى الحرية متقدمة أميالا عن الشغل في السباق نحو خط الكرامة الوطنية، فقررت خدمة للمصلحة الوطنية تكبيل أجنحة الحرية حتى يلتحق بها ركب الشغل المتعثر، إلا ان ركب الشغل أبى التزحزح من مكانه لتلجأ السلطة، بعد ان عجزت عن دفعه، إلى خيار ارجاع الحرية إلى مستوى التشغيل المتدني، فهل يعقل ان تنتعش الحرية وشقيقها الشغل مريض مأزوم؟ طبعا لا، عدالة السلطة أدرى وأعمق بصيرة؛ فلا مجال في منظورها لحرية تسخر من حالة الشغل المتردية. اليوم لا يسخر هذا من ذاك، بل إننا نرى الشغل المعطوب يتلذذ بضرب شقيقته الحرية وحبسها لتنجح السلطة نجاحا منقطع النظير في اقناع الشغل بأن يكف عن التحرك والمطالبة المحرجة وأن يسخّر طاقته تلك في سحل الحرية وجذبها أميالا إلى الخلف تحقيقا للمقولة الشهيرة الأخرى ”الشنقة مع الجماعة خلاعة“.
اليوم نرى ثورة 17 أشبه بالفرقة 17، وهي التسمية التي أطلقت على إحدى أشهر فرق بوليس بن علي تنكيلا بأبناء وبنات أحد أعرق الاحياء الشعبية بتونس العاصمة، اليوم نرى بوليسا يداهم ويطارد مخلفا الضحايا معيدا الكرة مرات ومرات بعد اطمئنانه إلى حتمية افلاته من العقاب. اليوم نرى الخوف والريبة في كل مكان لكننا نرى الشجاعة كلما رفعت قبضتها وصوتها إلا وغيّر الخوف والارتباك مكانهما، فالشجاعة على رأي غيفارا ليست غيابا للخوف، بل السيطرة عليه والتحكم فيه من أجل تحقيق ذلك الشعار المركزي: شغل حرية كرامة وطنية.
iThere are no comments
Add yours