أعادت المبادرة البرلمانية لإدراج مادة ”التربية على وسائل الإعلام والاتصال“ ضمن المناهج الدراسية إلى الواجهة ملفًا ظل لسنوات حبيس الأدراج، رغم الأدوار الرئيسية وأحيانا الخطرة التي تلعبها الميديا في التأثير على الشعوب وتوجيه الرأي العام المحكوم بنسق الاستهلاك السلبي. يعود هذا الطرح إلى الواجهة في السياق الحالي المتحرك، ليعاد فيه التفكير في الأدوار التربوية وضرورة تمكين الناشئة من فك شفرة آليات الإنتاج الإعلامي بدل الاكتفاء بالاستهلاك السلبي للمحتوى. مبادرة تستجيب على صعيد آخر لأحد المطالب الاجتماعية للصحفيين خريجي معهد الصحافة بالانتداب وخلق مواطن شغل قارة علها تطفئ نار سنوات من البطالة والتشغيل الهش تحت رحمة مؤسسات إعلامية يسيطر عليها منطق الربح والتقرب من السلطة دون أدنى وازع تثقيفي تربوي. لكن هذا المقترح، رغم وجاهته الظاهرة، يثير تساؤلات متقاطعة حول جدواه، وسياق تبنّيه.
التربية على وسائل الإعلام: مشروع قديم يعود إلى الواجهة
قبل أن تتحوّل إلى مبادرة برلمانية تحظى باهتمام إعلامي ومؤسساتي، وُلدت فكرة إدراج مادة ”التربية على وسائل الإعلام والاتصال“ في أروقة معهد الصحافة وعلوم الإخبار، في لحظة فارقة من تاريخ الجامعة التونسية. فقد بدأ النقاش حول هذا المقترح زمن استبداد بن علي وحزب التجمع الدستوري المنحل حين أبدى عدد من الأساتذة والطلبة، داخل الفضاء الأكاديمي، وعيًا مبكرًا بالحاجة إلى مقاربة تربوية جديدة تضع المتعلّم في موقع فاعل في علاقته بالإعلام، لا مجرّد متلقٍ سلبي.
رغم أن المقترح البرلماني الأخير، الذي لعبت نقابة الصحفيين دورا محوريا في اقناع عدد من النواب بتبنيه، بتدريس مادة ”التربية على وسائل الإعلام والاتصال“ طُرح كأنه خطوة جديدة في مسار إصلاح التعليم، إلا أن خلفيته تمتد عميقًا في الذاكرة الأكاديمية والطلابية التونسية. فقد بدأت بوادر هذا المشروع نهاية سنوات التسعين بداية الألفية الثانية، في سياق سياسي واجتماعي مختلف، حين كان لخريجي معهد الصحافة وعلوم الإخبار إمكانية تدريس مواد مثل الفرنسية والتربية المدنية في المعاهد الثانوية. آنذاك، بدأت تظهر تساؤلات داخل الأوساط الجامعية، خاصة في معهد الصحافة، حول الحاجة إلى مادة تربوية جديدة تُعنى بالإعلام وتعيد التفكير في موقعه داخل المنظومة التعليمية، ليس فقط كوسيلة، بل كموضوع للتكوين والنقد والتربية على المعنى والسلطة والمواطنة.
يُؤكد الصحفي صبري الزغيدي، الناشط السابق بالاتحاد العام لطلبة تونس بمعهد الصحافة وعلوم الاخبار، أن فكرة تدريس التربية الإعلامية لم تكن وليدة أزمة مؤقتة أو مطلبًا ظرفيًا، بل تشكّلت على مدى سنوات طويلة، وتحديدًا منذ بداية الألفيات، في أوساط طلابية وأكاديمية كانت تدرك مبكرًا التحولات القادمة في علاقتنا بالمعلومة، وبنمط إنتاجها واستهلاكها. وفق شهادته، فإن الطرح انطلق داخل حلقات نقاش داخلية، ثم تطوّر تدريجيًا إلى مبادرة واضحة المعالم، تبناها الاتحاد العام لطلبة تونس رسميًا، لتصبح من بين أبرز المطالب التي جرى النقاش حولها مع إدارة المعهد، والتي لاقت بدورها دعمًا من عدد من الأساتذة وأعضاء المجالس العلمية.
يبرز هذا المسار حسب الزغيدي كتعبير عن وعي مزدوج: من جهة، محاولة مواجهة أزمة تشغيل خريجي معهد الصحافة، الذين وجدوا أنفسهم في مناخ تغلب عليه اعتبارات الولاء والمحسوبية بدل الكفاءة، ما جعل الكثيرين منهم يقصون من سوق الشغل أو يُجبرون على تغيير مسارهم المهني؛ ومن جهة أخرى، استشراف لأهمية إدراج مادة من شأنها أن تمكّن التلاميذ من أدوات الفهم والتحليل النقدي للخطاب الإعلامي، والتمييز بين الخبر والتضليل، والانفتاح على قيم حرية التعبير وحقوق الإنسان وفهم الدور التوجيهي الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في تشكيل الرأي العام.
غير أن هذا الوعي المبكر اصطدم بجدار سياسي صلب، حيث قوبلت المطالب، رغم وجاهتها، بالتجاهل من قبل مؤسسات الدولة، ولم تحظَ بأي تجاوب رسمي. ويشير الزغيدي في حديثه مع نواة إلى أن النضال الطلابي من أجل هذه المادة امتدّ لسبع سنوات، من 2002 إلى 2009، في شكل عرائض واعتصامات وتحركات داخلية لم تفلح في اختراق منطق الصمت والرفض السائد آنذاك. واليوم، بعد عقدين من تلك المحاولات، يرى محدثنا في المبادرة البرلمانية الحالية فرصة جديدة لإعادة الاعتبار لهذا المشروع المؤجل، شريطة ألا يُختزل في مجرد استجابة ظرفية لضغط اجتماعي أو محاولة لتسكين أزمة تشغيلية، بل أن يُبنى على أساس رؤية تربوية شاملة تعيد رسم العلاقة بين المدرسة والإعلام.

في نفس السياق تقول الأستاذة بمعهد الصحافة عايدة الفيتوري في حديثها لنواة، أنه في سياق المطالب المتكررة لإدماج مادة التربية الإعلامية ضمن البرامج التعليمية، تبرز محطتان أساسيتان شهدتا طرح هذا المشروع بشكل رسمي، دون أن يُكتب له التفعيل. تعود أولى هذه المحطات إلى سنة 2004، حين بادر معهد الصحافة وعلوم الأخبار، في إطار ملتقاه السنوي، بتناول هذا المبحث أكاديميًا، واقترح بعث شعبة لتكوين مدرّسين في التربية الإعلامية يكون بإمكانهم لاحقًا الالتحاق بالتعليم الثانوي. ورغم الطابع المؤسسي للمقترح، والدور الذي أراد المعهد أن يضطلع به كقطب علمي وتكويني وطني ودولي في هذا المجال، لم تحظَ المبادرة بأي تجاوب من وزارة التربية آنذاك.
أما المحطة الثانية، فجاءت من المجتمع المدني، وتحديدًا من خلال ”المرصد الوطني للصحفيين التونسيين“، الذي انطلق سنة 2018 في مشاورات مع وزارة التربية لعرض مشروع وطني متكامل للتربية على وسائل الإعلام. وقد أفضت تلك المشاورات إلى عدد من التوصيات، من بينها إعداد دليل بيداغوجي، بعث نواد مدرسية، وتخصيص يوم للصحافة المدرسية، إلى جانب صياغة مشروع اتفاقية شراكة لإطلاق ”شهر التربية على الإعلام“ خلال أفريل 2019، يتم فيه تأطير التلاميذ وتدريبهم على استخدام الإعلام، مع إمكانية إشراك خريجي معهد الصحافة في التنفيذ.
لكن، ورغم نضج المشروع من حيث التصور والشراكة، ظلّ حبيس الأدراج، ولم تُفعّل الاتفاقية المقترحة، بسبب ما وُصف حينها بـ”تحفّظات“ تتعلق بكلفة البرنامج وبالبعد التشغيلي المرتبط بتوظيف خريجي المعهد، وهو ما أضعف منسوب الالتزام السياسي والإداري تجاهه. وتضيف الفيتوري القول:
الفكرةُ إذًا ليست حديثة، بل تعود إلى ما يقارب العقدين، غير أن هذه المحاولات لم تجد صدى فعليًا لدى وزارة الإشراف، وبقي المشروع معلقًا رغم الاقتناع المبدئي بأهميته.
هكذا، تعكس التجارب السابقة سواء الأكاديمية أو المدنية استمرار الفجوة بين الاقتناع بأهمية التربية الإعلامية كمشروع تربوي حداثي، وبين تردد مؤسسات الدولة في ترجمته إلى واقع. وبذلك، يكتسب المقترح البرلماني الحالي بعدًا رمزيًا وتاريخيًا، باعتباره محاولة جديدة لإحياء مشروع ظلّ لسنوات طويلة يراوح مكانه بين الاعتراف النظري والتجميد العملي.
موقف أساتذة معهد الصحافة: بين الدعم والتحديات
في سياق إعادة إحياء مقترح تدريس مادة ”التربية على وسائل الإعلام والاتصال“، برز موقف أكاديمي رسمي لعدد من أساتذة معهد الصحافة وعلوم الأخبار من خلال بيان دعموا به هذا الطرح، مؤكدين على أهميته في الإطار التربوي والإعلامي الوطني. لم يكن الدعم مجرد تأييد شكلي، بل جاء كقراءة عميقة لمسارات التعليم الإعلامي، ومواجهة مستجدات بيئة الاتصال الرقمية التي تعيد تشكيل العلاقات بين المتعلم والمعلومة.
اعتبر الأساتذة أن المعهد يحتضن باحثين ومدرّسين يمتلكون الكفاءات التربوية والمهنية اللازمة لترجمة هذه الخطة إلى واقع داخل الفضاء المدرسي وتحقيقها بنجاعة، واصفين المبادرة بأنها فرصة لإدماج الخبرة الصحفية داخل المنظومة التربوية، مشددين على أن وجود مدرّس من خريجي المعهد يشكل قيمة مضافة تسهم في بناء علاقة تربوية ذات عمق نقدي بين التلاميذ والمضمون الإعلامي. كما شدّدوا على أن المرحلة القادمة تتطلب تضامناً مؤسساتياً يترجم الدعم النظري إلى إقرار فاعل، عبر إشراك المعهد كطرف أساسي في صياغة المناهج والتكوين.

غير أن موقف الأساتذة لم يغفل التحديات البنيوية التي تقف أمام إنجاح المشروع، بدءًا من الحاجة الملحة لتطوير برامج تدريبية مخصصة للمدرسين، مرورًا بإعادة النظر في المناهج لتكون ملائمة للسياق الوطني ومتطلبات العصر، ووصولًا إلى ضرورة توفير البنية التحتية الملائمة والموارد الكافية داخل المؤسسات التعليمية. كما شدد البيان على أن نجاح المبادرة رهين بتضافر الجهود بين وزارة التربية، معهد الصحافة، والهيئات المهنية، لضمان حوكمة واضحة ومستدامة تضمن استمرارية وجودة التعليم في هذا المجال الجديد.
بهذا الموقف، لا يقتصر أساتذة معهد الصحافة على موقع الداعمين فقط، بل يلعبون دورًا محوريًا في صياغة رؤية متكاملة تربط بين الإطار الأكاديمي، المتطلبات المهنية، والتحديات التنظيمية، مما يجعل من المبادرة فرصة لإعادة تشكيل خطاب التربية الإعلامية في تونس، لكن بشروط واضحة واستراتيجيات واقعية.
وفي حديثها مع نواة، تضيف الأستاذة عايدة الفيتوري، إن تونس تأخرت كثيرًا في إدماج التربية الإعلامية ضمن منظومتها التعليمية، مقارنة بدول غربية وأخرى عربية مثل الأردن ولبنان والمغرب، التي بدأت تخطو خطوات مهمة في هذا المجال. وأوضحت أن التربية الإعلامية لم تعد ترفًا ثقافيًا، بل أصبحت ”ضرورة ملحّة تمليها التحولات التكنولوجية والإعلامية العميقة، والحاجة المجتمعية المتزايدة إلى التمكين من القراءة النقدية للمضامين الإعلامية“.
غير أن الطريق نحو إرساء هذه التربية لا يخلو من تحديات كبيرة، مشيرة إلى أن ”أبرز هذه التحديات هو تكوين المدرّسين، وهو تحدٍ عالمي حتى في الدول التي سبقتنا في هذا المجال“، مضيفة أن تونس تواجه ”ضعف البنية التحتية التكنولوجية، وغياب المناخ الديمقراطي الذي يعدّ شرطًا أساسيًا لإرساء تربية إعلامية نقدية حقيقية“. كما لفتت إلى أن ”قلة الوعي المجتمعي والسياسي وحتى الإعلامي والأكاديمي بأهمية هذه التربية، بل وحتى بماهيتها، يُكرّس تهميشها داخل السياسات العمومية“. وتابعت قائلة:
رغم هذه العراقيل، من الخطأ اعتبارها موانع حقيقية فهي تُستخدم في كثير من الأحيان كذرائع لإخفاء واقع مرير: التربية الإعلامية مهمّشة ولا تشكل أولوية لدى الفاعلين (السياسيين، الإعلاميين، وحتى الأكاديميين) في تونس، وهذا هو العائق الحقيقي أمام تحويل الفكرة إلى سياسة تعليمية وطنية.
طلبة معهد الصحافة: دعم للمقترح ودعوة للتسريع في مسار التطبيق
أبدى طلبة وخريجو معهد الصحافة وعلوم الإخبار موقفًا داعمًا واضحًا للمبادرة، عبر بيان رسمي جاء كتعبير عن وعيهم بأهمية هذا التوجه في ظل التحولات الإعلامية والثقافية الراهنة. اعتبر هؤلاء أن المشروع لا يقتصر على كونه تعديلًا هيكليًا في النظام التعليمي، بل يمثل خطوة استراتيجية نحو بناء منظومة تربوية متجددة، قادرة على تزويد الناشئة بالمعارف والمهارات اللازمة لفهم طبيعة الإعلام وتحدياته، خصوصًا في ظل تفشي الأخبار الزائفة وخطابات الكراهية التي تفرض نفسها عبر المنصات الرقمية.
وفي تأكيد لهذا التوجه، اعتبرت الطالبة أميمة بالحاج، ممثلة طلبة معهد الصحافة، في حديثها مع نواة أن هذه المبادرة تمثل ”تحولًا نوعيًا في السياسات التربوية في تونس“، خصوصًا في سياق التحول الرقمي المشحون بالمغالطات والمعلومات الزائفة، مشددة على أنها ”تعيد الاعتبار لدور الإعلام في بناء وعي الناشئة“. كما وصفت المقترح بأنه ”مكسب واستحقاق لخريجي وخريجات المعهد“، غير أنها لم تُخفِ تخوفها مما وصفته بـ”ضبابية المضمون وآليات التطبيق“، داعية إلى التسريع بتحويل هذه المبادرة إلى قرار ملموس يُفعّل ميدانيًا، حتى لا تبقى هذه الخطوة، رغم رمزيتها، مجرّد إعلان نوايا مؤجلة.
لا يمكن إخفاء أن هذه المبادرة ليست نتاج اجتهاد برلماني طارئ فقط، بل ثمرة نضالات امتدت لعقود، خاضها طلبة معهد الصحافة وقدماؤه في ساحات الجامعة، واحتضنها الاتحاد العام لطلبة تونس في زمنٍ كانت فيه المطالب الاجتماعية تُقابل بالقمع أو التجاهل. فمنذ سنوات استبداد الرئيس الراحل بن علي، والنداءات تتعالى من داخل المعهد ومن خارجه لإرساء تربية إعلامية تنسجم مع تحولات العصر، وتُعيد الاعتبار لدور الصحفي في البناء المدني والديمقراطي، لا في التهميش والإقصاء. اليوم، وبعد مراكمة التجارب، تعود الفكرة في ثوبٍ تشريعي جديد لكن رغم رمزية هذا التطور لا يمكن التغاضي عن أن المشروع يأتي في ظرف يعيش فيه خريجو وخريجات معهد الصحافة واقعا هشّا متأزما في قلب مشهد إعلامي متعفّن تحكمه الولاءات السياسية وشبكات النفوذ والدعاية.
إنّ القيمة الرمزية للمقترح لا تُنكر، لكن ضبابتيه التطبيقية، وغياب خارطة طريق واضحة، يجعلان من الترقّب حذرا وسط مناخ عام وحكم سلطة اعتادت البحث عن إنجازات وهمية تلمع بها صورتها قبل البحث عن الإنجاز والنجاعة.
iThere are no comments
Add yours