بقلم باسط بن حسن

نقلا هن موقع الأوان

هل المصالحة مطلب حقيقيّ في تونس؟ يبدو الردّ على هذا السّؤال بالإيجاب أمرا بديهيّا وضروريّا بالنّسبة إلى الذين ينظرون إلى تحوّلات الوضع السّياسيّ كنسق متصاعد على الدّوام، تعتريه من حين لآخر بعض الشّوائب ولكن تكفي إرادة القادة ورموز السّياسة لتعيده إلى وضعه الطبيعيّ ولتصلح ذات البين وترجع “الأبناء” الضّالين إلى حظيرة الأمّة.

فالمصالحة في هذه الحالة هي مجرّد محو للذّكريات السّيئة في مرحلة معيّنة من حياة المجتمع وبناء نسق صمت جديد يعاد فيه توزيع المصالح والأدوار. إنّ هذا المطلب المنشود بهذه الطّريقة يعني محاولة تغليب المصلحة السّياسيّة لمجموعات معيّنة ولعدد من الأفراد على المصالحة. وهذا التصوّر تردّدت أصداؤه في كتابات عديدة على صفحات أحد المواقع الإلكترونيّة المحظورة في تونس بنبرة اعتمدت خاصّة عبارات من الموروث الدينيّ والقبليّ والعروشيّ. وهذه الطّريقة في الطّرح تتجنّب الأسئلة الأساسيّة عن معنى المصالحة وشروطها وإمكانيّات تحقيقها.

المصالحة بين من ومن؟ والمصالحة حول ماذا؟

هل هي مصالحة فقط بين النّظام وأطراف سياسيّة محدّدة ومهيكلة في أطر واضحة؟ أم هي مصالحة أوسع للمجتمع بأكمله مع ذاته ورؤيته المستقبليّة في ظلّ مخاوف يشارك الجميع في إدراكها وتحديد سبل معالجتها؟ هل تشمل المصالحة العفو التّشريعيّ العام الذي أسهبت المنظّمات الحقوقيّة التّونسيّة في وصف شروطه ومطالبه استنادا إلى منظومة حقوق الإنسان الدّوليّة؟ وهل تشمل أيضا عمليّة أكبر للإنصاف والبحث عن الحقيقة بكلّ ما تستوجبه من أدوات العدالة الانتقاليّة التي جرّبتها دول عديدة في ظروف تاريخيّة وسياسيّة مختلفة؟

هذه الأسئلة وغيرها لا تحتمل أجوبة جاهزة ووثوقيّة ومطلقة ولا يمكن أن يدّعي فرد أو مجموعة سياسيّة احتكار الحديث عنها. إنّ المصالحة مسار معقّد وطويل المدى يقرّر من خلاله المجتمع السموّ على الأحقاد والضّغينة وتعليق ذاكرة الثّأر البشعة. وهو مسار للتّفكير السّياسيّ المشترك في إعادة صياغة لغة تساعد المجتمع على الدّخول في مغامرة سياسيّة تنبني على التّفاوض من أجل تفكيك عناصر إشكاليّات الحاضر وبلورة أجوبة للتّحدّيات القائمة. إنّها العمليّة التّاريخيّة التي يتعلّم من خلالها المجتمع حسب الفيلسوف الإيطاليّ جورجيو أغامبن فنون استعمال الذّاكرة والنّسيان.

إنّ المصالحة التي تهدف إلى مصالحة المجتمع مع نفسه لا يمكن أن تكتفي بترديد شعارات جوفاء عن “الأخوّة” المطلقة والتقاء إرادات الخيّرين بل يجب أن تطرح اسئلة جريئة عن الذّاكرة التي تحكم مجتمعنا وآليّات إنتاجها للتّصوّرات حول معنى ممارسة السّلطة ووضع المؤسّسات ومنزلة الفرد ودور المجتمع المدنيّ ووحالة الثّقافة المدنيّة ووضع الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان خطابا وممارسة.

لذلك سيظلّ مطلب المصالحة مطلبا غائما مستعصيا على الإدراك إذا لم يسبقه سؤال أساسيّ آخر عن إمكانيّة قيام حوار حول المصالحة. فهل تتوفّر الشّروط لدى النّخب التّونسيّة للبدء في حوار شامل حول هذه المعاني؟ حوار يتخلّى في لحظة تاريخيّة معيّنة وتحت إلحاح المصلحة العامّة عن رغبات الاحتكار والإقصاء والمنفعة الآنيّة ؟

1.خطاب المصالحة وبؤر تاريخ الإقصاء السّوداء

أوّل صعوبة يواجهها فتح الحوار الحقيقيّ حول مصالحة المجتمع مع إمكانيّات الفعل في حاضره ورؤية مستقبله تتمثّل في هيمنة نقاط سوداء تحوم في ذاكرة المجتمع وتبني في وعي الأجيال المتعاقبة جدارا شاهقا يحول بينها وبين ممارسة الإبداع الحضاريّ. فتاريخنا الحديث حافل بأمثلة التّخوين والتّخوين المضادّ من اليوسفيّة مرورا بتجربة التّعاضد والمعارضة الشيوعيّة والقوميّة والإسلاميّة والاحتجاجات الطلاّبيّة والعمّاليّة. لذلك تمحور القاموس السّياسيّ عندنا وفي فترات تاريخيّة متتابعة حول عبارات من قبيل “الخونة” و”الشّرذمة الضّالّة” و”أصحاب النّظريّات المستوردة”، و”المصطادون في الماء العكر” و”الملاحدة” و”العلمانيوّن” و”الفرانكفونيّون” و”اللّيبرالّيون ” و”الخوانجيّة” (نسبة إلى الإخوان المسلمين)، وغيرها من العبارات التي تلقي بظلال كثيفة على إمكانات الحوار وتدفع النّاس إلى الخوف من المشاركة السّياسيّة والعزوف عنها.

ولقد أنتجت ممارسات الإقصاء المتواصلة على مدى تاريخنا الحديث حالة من الانكفاء على الذّات والخمول والشّعور بالإحباط من جهة، وأنتجت من جهة ثانية تناقضا بين الإقصاء من الفعل السّياسيّ والمدنيّ ورفع شعار “المثال التّونسيّ” الذي يتمحور حول المجتمع الآمن والمنفتح على عصره والذي حقّق إنجازات هامّة في ميادين الرّفاهة الاقتصاديّة وتجنّب هزّات عميقة مرّت بها عديد الدّول العربيّة. فكيف يمكن تبرير هذا التّناقض؟ وهل يمكن لهذا التّردّد المتواصل في تشريك المجتمع في تجربة الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان أن يتماشى مع ذاكرة مدنيّة متأصّلة تسكنها لحظات حضاريّة هامّة من “عهد الأمان”، وهي أوّل وثيقة أعلنت مجموعة من الحقوق في بلد عربيّ (1857) إلى النّضال ضدّ الاستعمار وبناء الدّولة الحديثة والنّضال من أجل الحريّات وحقوق النّساء وتوقيع الميثاق الوطنيّ (1989)؟

2. الخروج من منطق “الحقّ العام” إلى مفهوم الحقّ

لقد عوملت أغلب التّحركات التي قامت بها المعارضة في أشكالها المختلفة وفي أغلب فترات تاريخنا الحديث على أنّها جرائم حقّ عام. هكذا كان الشّعار الذي رفع في محاكمة اليوسفيّين والشيوعييّن والإسلاميّين والنّقابييّن والطّلبة. وحتّى الكتب والصّحف التي صودرت أو حوكم مبدعوها خضعت لنفس المنطق. فمن الحقّ الذي يكفله الدّستور التّونسيّ في الاجتماع والتّجمّع والعمل السّياسيّ السّلميّ انتقلنا إلى لغة قانونيّة تجرّم الحوار والنّقد والمعارضة. إنّ هذا التّحوّل قد منع الأجيال المتعاقبة من التّمييز بين من رفع راية العنف لتحقيق أهدافه السّياسيّة ومن حاول بناء نسق للمطالبة بالحقّ في المشاركة في بناء اختيارات المجتمع. لذلك فإنّ فتح الحوار حول أيّ نوع من مصالحة المجتمع مع ذاته مشروط بفتح الملفّات المظلمة لتقييم التّجارب وتحديد المسؤوليّات التّاريخيّة والتّعرّف على هؤلاء الذين أقصتهم الذّاكرة. كما يبدو من الضّروريّ الخروج من منطق التّجريم العامّ لبناء ثقافة مدنيّة تمكّن المجتمع من التّعرّف على المشاريع التي اقترحت علينا ومن تبيّن مدى خدمتها لمفاهيم حقوق الإنسان والدّيمقراطيّة.

إنّها استراتيجيّة تحرير الذّاكرة التي يتعلّم من خلالها النّاس والأطفال خاصّة منهجيّة تنسيب الأشياء ونقدها والتّعرّف على آليّات اشتغال السّلطة والمعارضة ومنظّمات المجتمع المدنيّ وتجاوز النّزعات الشّموليّة والأوصاف الكليّة التي لا تزال قائمة في ثقافتنا السّياسيّة.

3. تجاوز الانفصام بين مشروعين للكرامة

إنّنا في حاجة كذلك إلى تحليل أسباب عدم قدرتنا على إيجاد مسارات للرّبط بين مشروعين تاريخيّين ينطبق كلّ منهما على معنى من معاني الكرامة. أوّلهما مشروع حقّق بعض النّجاح، وهو مشروع بناء الكرامة من خلال القضاء على الحاجة واللاّمساواة. وقد تجسّد في عمليّات متواصلة لمحاربة الجهويّة والقبليّة وبناء الانتماء إلى المجموعة ومناهضة التّمييز ضدّ النّساء وتغيير العلاقات الأسريّة وتحسين جودة التّعليم والصّحة وبناء الاقتصاد على الكفاءة والقضاء على المناطق الأكثر فقرا.

والمشروع الثّاني لبناء الكرامة ذو طبيعة سياسيّة، وهو لم يقدر بعد على استلهام مفهوم المشاركة والتّخلّص من الانفراد بالسّلطة وتحويل الإعلان عن النّوايا حول الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان والتّشريعات الجيّدة والعديدة إلى التزام دائم تسهر المؤسّسات الرّقابيّة على فرض احترامه، وقياس مدى أثره في الواقع.

إنّ المصالحة الأساسيّة والأولى هي في فتح حوار حول أسباب هذا التّباعد المتواصل في رؤيتنا “التّونسيّة” بين مفهومين للكرامة. فلا يمكن أن نواصل إدارة مجتمعنا بسدّ الحاجيّات الضروريّة وبالاعتماد فقط على القدرة الخيّرة لمن يتفرّد بالقرار. إنّ إقصاء المشاركة السّياسيّة من دائرة الخيارات الأساسيّة للدّولة في أيّ منطقة من العالم وتعويضها بتوفير الاستهلاك والأمن لا يمكن أن يحوّل المجتمع إلى فردوس آمن. فعندما يتحوّل الاستهلاك إلى قيمة في حدّ ذاته، ويقدّم على أنّه المشترك الأساسيّ الذي يجمع بين النّاس، تزداد أوهام التّداوي من جروح اللاّعدالة دون أن تتحقّق العدالة. وعندما تنتزع من الأمن مراميه الإنسانيّة يتحوّل إلى كابوس جاثم على النّفوس، وتتحوّل السّلطة إلى تغييب لسلطة القانون.

ربّما يمثّل إحياء العيد القادم للجمهوريّة فرصة تاريخيّة للعفو العامّ ولإعادة الأمل للذين حرموا من الحقّ باسم الحقّ العامّ. وربّما يكون فرصة كذلك لفتح فضاء حوار مشترك حول معنى الكرامة الذي يحكم علاقاتنا الاجتماعيّة في اللّحظة الرّاهنة. عساه يكون حوارا يعيد الرّبط بين عناصر الكرامة ويؤلّف بينها في رؤية متكاملة، وعساه يعيد تحيين “المثال التّونسيّ” و يفتحه على معاني الحريّة .