بسم الله الرحمان الرحيم

إنحاز الدكتور عبد المجيد النجار في مقاله المنشور أمس الثلاثاء الموافق لـ 21.08.07 على صفحات تونس نيوز إلى تأييد عودة المنفيين السياسيين التونسيين إلى بلادهم تحت الشروط المطروحة من قبل السلطة في تونس , وقد ساق لذلك أسبابا رآها منطقية لإختيار هذه الطريقة في حل جزئي لقضية المهجّرين حتى وإن كانت تحت شروط , إضافة إلى أنها غير عادلة.

وقد أخذنى بعض العجب من طرح الدكتور النجار والذى أعتبره إجتهادا سياسيا خاطئا وليعذرني الدكتور النجار على هذه الجرءة
يبدو أن الدكتور النجار يريد أن يراجع النظام وكأنه يفاوضه مباشرة على شروطه لتحسينها كي تكون في الحد الأدني مقبولة أكثر وهذا تطلع من قبله نقوله تحليلا ولا نجزم به يقينا , وهي دعوة مفتوحة بطريقة غير مباشرة لأصحاب الشأن أن يحسّنوا شروط العودة لتكون الخطوة الأولى في حل جذري قد يأتى وقد لا يأتي بحسب رأي الدكتور , وقد إعتبر الدكتور النجار أن هذه هي الحدود الدنيا المطلوبة لعودة المهجّرين , وأنها هي الحل في ظل واقع لايستطيع تحقيق كل ظروف العودة المظفرة كما سماها , وقد بدى الدكتور وكأنه يتلمس حلا لموضوع المنفيين تحت طائلة الحل المطروح من قبل السلطة وهو ” الخلاص الفردي ” , وهى خطوة صغيرة كما يرى على الطريق المتدرج لحل المشكلة برمتها , بل أكثر من ذلك فقد إعتبر هذه ” الخطوة الصغيرة ” شأنها شأن قضية المساجين الذين وقع حل قضيتهم بالتقطيع ومن بقي منهم يُنتظر أن تحل قضيتهم على نفس الشاكلة , وهذا مثير فعلا , فكيف تستقيم المقارنة ؟ وهل أن وضع المساجين كوضع المنفيين ؟ .

لقد طرح الدكتور النجار ظروف العودة نجملها في النقاط التالية :

-  أن يُعامل العائد من قبل السلطة كمواطن تونسي محفوظ الكرامة , وأن لا يتعرض لمعاملات مهينة من قبل أجهزة الدولة

-  أن لا يُجبر العائد على التبرُىء من ماضية وإلزامه بعدم العودة إلى أي نشاط سياسي

-  على العائد ( إن صدر منه خطأ ) أن يقرّ به ويعتذر عنه ( وهذا أمر لم أفهمه حقيقة وأرجو من الدكتور النجار أن يوضحه لنا , فلا أعلم إن كان يتحدث عن أخطاء شخصية , أو أخطاء في أجتهادات سياسية , أو غير ذلك ) وقد تحدث في موضوع الإعتذار دون أن يعطي مثالا للإخطاء الممكن الإعتذار عنها , وقد خص العائد ويبدو أنه أشار إلى السلطة كطرف عليه واجب في الموضوع دون أن يسميها
وقد أضاف الدكتور النجار مبررا آخر لصوابية ” العودة المنقوصة ” وهو إنقطاع المهجّرين عن بيئتهم الإجتماعية التى ضحوا من أجل خدمتها وهم مهددون بالقطيعة معها نظرا لغايبهم الطويل عنها ولعلهم بالعودة إلى تلك البيئة يقدمون أنفسهم للناس من جديد بما يخدم قضيتهم وتوجهاتهم المعتدلة .

وبعد ذلك أسهب الدكتور النجار في إستخلاص الأوهام والأحلام من رؤوس المنفيين بحل عادل مشرّف لعودتهم إلى وطنهم ,ليدعوهم صراحة إلى تبني خيار ” الخلاص الفردي ” كحل لهم ليس لهم خيار أمام قبوله ورفضه , بل وبشرهم بإنتظار سيدوم عقودا في إنتظار حل عادل وشامل لقضيتهم قد لا يأتي أصلا إن لم يبادروا بتبنى هذا الخيار
ما من شك فإن طرح الدكتور النجار كان مفاجئا من رجل فكر وسياسة كان عليه أن لا يبلغ هذا المبلغ من اليأس في قراءة الواقع وإستسهال أنصاف الحلول والتى بدى لي فيها وكأنها يسابق إلى عقلنة موضوع العودة وتبريره بالصيغة المطروحة الآن قبل أن يخرج عن طوق الضبط كما حصل في موضوع عودة النساء والأطفال والذى إستدركه قرار من حركة النهضة بعد أن فُرض كأمر واقع
قضية العودة عن طريق ” الخلاص الفردي ” أصبحت معروفة بين المهجرّين , وقد جرّب البعض ذلك وهي لا توفر المقتضيات التى طلبها الدكتور النجار , وليس واردا أن يُحسن النظام شروطها , ذلك أن السلطة التونسة تقبل فقط من يشطب تاريخه من التنظيم الذى إنتسب إليه وناضل في صفوفه يوما , ولا مانع من أن يجتهد أكثر ويتبرأ منه أصلا , وأن يتخلى عن أي نشاط سياسي بما يعنى أنه يتحول إلى معارض سابق للسلطة , وفي مقابل ذلك ليس من الواضح حجم مساحة الحرية التى ستتوفر له شخصيا عند دخوله وخروجه للبلاد أو أثناء تواجده فيها وماهي قائمة الممنوعات التى لا يجب الإقتراب منها ليأمن على نفسه من غضب السلطة ؟

الخلاص الفردي عُرض على المساجين منذ أوائل التسعينات في السجن , فقد كان مطروحا عليهم أن يكتبوا رسائل للسلطة , أو أن يمضوا على تعهدات يتبرؤون فيها من أي إنتماء سياسي وأن يتخلوا عن السياسة أصلا وأن يعودوا إلى المجتمع تحت طائلة التوبة منهم والعفو من السلطة , فلماذا لم يبادر الدكتور النجار إلى حثهم على قبول ذلك ليخففوا عن أنفسهم البقاء في السجن كل هذه السنوات الطوال؟ , ومن بقي منهم في السجن فليعرض عليهم الخلاص الفردي الآن ولينتظر ردودهم !!! , أجزم أنهم لن يقبلوا بذلك

إن المقارنة بين وضع المساجين والمهجّرين لا يستقيم من أكثر الوجوه , فإذا كان المساجين داخل السجن محكوم فيهم , ذلك أن خروجهم من السجن على جرعات متباعدة قرار السلطة وإختيارها في حل قضيتهم بهذه الطريقة التى تراها لنفسها غير مكلفة سياسيا على وجه الخصوص وقد تكون لها حسابات أخرى كثيرة , وليس لهم في ذلك حول ولا طول وليس لهم خيار بين الرفض والقبول , فإن للمهجّرين ظروف أخرى مختلفة , كما أنهم هم المبادرين بطلب ” الخلاص الفردي ” لمن أراد منهم ذلك . قد يقول القائل أن الهجرة لا تقل معاناة عن السجن وهذا فيه وجه من وجوه الحق , فالإغتراب عن الوطن والأهل محنة لا شك في ذلك ولكنها أبدا لن تكون كالسجن أو ظروف ما بعد السجن ونحن نتحدث عن تجربة.

لعل خطاب الدكتور النجار إتسم بالتشائم في النظر إلى قضية المهجّرين وعودتهم فهو قد ضرب حولهم طوقا من اليأس قد يعمر عقودا في إنتظار حل عادل ومشرف لقضية المهجّرين , وهو الخطاب الذى لا نجده عند الكثيرين من إخواننا بالداخل والذين رغم جراحهم النازفة فإننا لا نرى أنهم وصلوا إلى هذه الدرجة من اليأس لإنفراج الوضع بالبلاد بإرادة السلطة أو بالرغم عنها.

هناك أسئلة إستنكارية لا يمكن تجاوزها وهي :

ماهي الضرورات التى تجيز لمن هرب من البلاد خوفا على دينة وحياته قبل بضعة سنوات وتظلم للدولة التى يقيم فيها لتمنحه الإقامة وكل ظروف الرخاء المالي والإستقرار الأسري أن يُقدم على العودة إلى البلاد تحت شروط غير عادلة لسلطة فرّ من جبروتها ومن دون أن يشهد الواقع الذى تركه مكرها أي إنفراج ؟ أم أن الإقامة والمال أغروه فأراد أن يحول نفسه من مهاجر في سبيل قضية إلى مهاجر في سبيل دنيا يصيبها ؟

لماذا تتوقف مباردات السلطة تجاه المهجّرين ولا تتعداها إلى من هم بالداخل والذين بادروا هم بمخاطبها في رسالة لم يذكر عنها الكثير فكان الرد مزيدا من التضييق والمحاصرة ؟

هل فكر من هو مقدم على ” الخلاص الفردي ” في مدى الضرر الذى سيلحقه بملف طلبات اللجوء في دولة الإقامة وما يمكن أن يجده إخوانه الوافدين الجدد في طلبات اللجوء السياسي , أم أنه لا يفكر إلا في نفسه ولا يفكر في من يفر من البلاد في نفس الظروف التى خرج هو فيها أو أشد ويعتبر أن هذا الحق يُستعمل لمرة واحدة فقط أما غيره فليدبر أمره ؟ , هذا وأن طالبي اللجوء السياسي من التونسيين ما زالوا يتوافدون على البلدان الغربية وإن كانوا بأعداد أقل من السابق والأسباب مختلفة ولعل أبرزها هو عجز الكثيرين عن مغادرة البلاد
هل أن الهجرة في سبيل قضية عادلة مسقوفة بوقت متى تعدته أصبحت عبثا , وجب التخلص منه لأن الهجرة تبعد الإنسان عن الواقع الذى سعى إلى تغييره والتضحية من أجل ذلك فمتى حدثت القطيعة معه عن طريق الهجرة أصبحت قضيته غائبة وبالتالى عليه أن يعود تحت أي ظرف ؟ أليس من هاجر المئات ومن بقي الآلاف ؟

ماذا يمثل عدد المهجّرين في مقابل أعداد الموجودين داخل البلاد من الذين ما يزالوا يعيشون ظروف صعبة ؟

إن المقياس العادل للوضع في البلاد ليسوا هم المهجّرين وعودتهم , بل هم من بالداخل وأوضاعهم وتعاطي النظام معهم , كما أن قطيعة المهجّرين مع وطنهم ليست قطيعة تامة وإن بدت نظريا كذلك وذلك من وجهين , الأول هم من بالداخل والذين يمثل وجودهم بالبلاد تمثيلا بين الناس للمهجّرين وللمساجين أيضا , كما أن ذكر المهجّرين بين أهليهم وذويهم ومحيطهم الإجتماعي حاضرا , بل لعل الكثيرين منهم أكثر حضورا معنويا من بعض الموجودين بالداخل وذلك لأن المغترب يذكر في بعض الأحيان أكثر من غيره , أما القول بغياب تأثيرهم في الواقع الإجتماعي في الوطن فعلينا أن نسأل عن مدى تأثير من هم بالداخل في واقعهم الإجتماعي , وهو بالتأكيد تأثير حاضر وموجود وهو ما يعني أن رسالة المهجّرين بلغت عبر من هم بالداخل لأنهم بريد الفكرة وذخيرة المشروع

ثم أين المبادىء والمثل في الصبر والمرابطة على الحق إنتظارا لأن يفتح الله بإحدى الحسنيين للمهجّرين ومن هم بالداخل سواءا بإنفراج الأوضاع جزئيا بأكثر من سقف الخلاص الفردي أو كليا على المدى القريب أو المتوسط , أو البقاء على عهد الذين قضوا تحت التعذيب أو تحت مخالب المحنة

إن العودة عن طريق ” الخلاص الفردي ” عودة متعجلة وإن كان لها مكاسب فهي مكاسب شخصية بحتة , أما العودة الحقيقية فهي عودة المشروع السياسي إلى البلاد بشكل كامل أو جزئي والذى ناضل وضحى من أجله من هم بالداخل ومن هُجِّروا من وطنهم وهذا أكبر الضمانات لمن سيعود على حياته وأمنه , لأن حرية الفكرة والتنقل بها والدعوة إليها هي المؤشر البيّن على سلامة الأجواء , أما إذا بقيت الفكرة مطاردة فإنه لا أمن لأحد على نفسه لأنه معرض للإعتقال تحت أسباب لا تحتاج السلطة لتبريرها . ماذا ستحقق هذه العودة لهذا المشروع ؟ هذا إذا إفترضنا أن من يعود يفكر بأن له قضية ومشروع ناضل من أجله ولم يتخلى عنه… لا شيء غير منافع ذاتية لا تتبرأ من تهمة الأنانية , قد يجد العائد عزاءا لعودته أنه رأى الأهل والناس والوطن وهذا هو مكسبه , فهل أن عوته تغير من الواقع شيئا ؟ بالتأكيد لا , إضافة إلى أن تلك العودة رسالة خاطئة ومضللة إلى الكثير من الأطراف سواءا بالداخل أو بالخارج , تعطيهم الإنطباع بأن الوضع في البلاد يشهد إنفراجا أما الحقيقة فهي غير ذلك تماما , فالمقياس ليس تمكن بعض المهجّرين من العودة إلى البلاد تحت شروط وإنما قياسا للظروف التى يعيشها المسرّحين وبقاء بعض المساجين وراء القضبان وتعاطي النظام مع الوضع الداخلي والذي لم يغير من تعاطيه الأمني معه , فحتى من قضى أكثر من عقد ونصف في السجن وخرج أخيرا لم يهنأ بالخروج , فالبوليس ما يزال يلاحقه في كل زقاق وحارة.

إن غياب الرؤية الذى تُشتق منها خطة عمل للمهجّرين تفيد الداخل سواء كانوا أفراد أو جماعات أو الوطن بعامة هي التى تدفع إلى العطالة والعجز وهو ما يجر إلى التسليم للأمر الواقع وليس العمل على تكريس واقع الأمر . وواقع الأمر أن يكون الحل لقضية البلاد وهي تحقيق إنفراج جزئي أو شامل هو الغاية التى لا يجب أن ينحني دونها من يعتبرون أنفسهم أصحاب مشاريع فكرية وسياسية , وفي المهجر مقومات لا يمكن أن تتحقق تحت أي ظرف فى تونس في المدى المنظور وهي مساحة الحرية والرخاء المالي النسبي المتوفر للمهجّرين وغيرها من الأسباب , وهو ما يوفر لهم أرضية لإنشاء مشاريع إعلامية وإقتصادية تفيد الداخل وبقاءهم ورقة ضغط على السلطة حلها يتطلب أثمان سياسية منها , ولكن هذا لم يتحقق وأسباب ذلك لا نريد الدخول في تفاصيلها لأن هذا ليس مقامها ولكن يكفي أن نشير إلى غياب الإنسجام والتوافق الذين أنتجا أجواء غير صحية لا تساعد على الإبداع والتضحية ونكران الذات وبالتالى النجاح في إستثمار الهجرة وجعلها حالة صحية تكون عونا للداخل لا عونا عليه
إن عودة المنفيين إلى بلادهم هي حق مشروع لهم , وإن شوقهم العارم للأهل والوطن أقاسمهم فيه , ولكن ليست هذه هي القضية والتى لا جدال فيها لأنها حق مبدئي لا لبس فيه , ولكن لماذا الهجرة ثم العودة فقط بسبب الحنين إلى الوطن دون أن ترفع أسباب منشأ الهجرة ؟
لقد كان طرح الدكتور عبد المجيد النجار مفاجئا تماما في تبنيه موضوع ” الخلاص الفردي ” والدعوة إليه وتيئيسه من أي حل آخر ممكن لقضية المهجّرين , وهو ما لم يكن منتظرا من أمثاله . إن الأزمة التى تعيشها البلاد والمهجّرين جزء منها تحتاج إلى أكثر ترو في طرح الأفكار على النت بدل البحث عن قنوات أخرى مأمولة النتائج سواءا لدى السلطة أو غيرها وقد يعذر فيها الإنسان حتى مع الفشل لأنه يسعى إلى نتيجة من الفكرة والمسعى أما إستعراضها على النت فليس من حل من وراءها مأمول غير الخلاف والإختلاف .
لقد وجدت نفسي مدفوعا إلى الرد على مفاجئة الدكتور النجار في ما ذهب إليه فى مقاله الأخير المعنون بـ ” عودة المهجرين بين الواقعية والوهم ” , ولست على إستعداد للدخول في مهاترات مع أي كان حول الموضوع , وهو ما أحجمت عنه سابقا في مواضيع أخرى طرحت على النت , وما دفعني للنشر هو أن الكلام نشر وقد أردت أن أسجل الرد الذى كتبت كما فعل الدكتور النجار أي بالنشر , وأتمنى أن لا يكون ردى قد أزعجه فهذا ما لم يكن قصدى

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

صــابر : سويســرا