بالرغم من الجدل الذي يقوم حول دلالة مصطلح “الأصولية” ونشأته، وما يستتبع ذلك من أسئلة وإشكالات لعل أبرزها تلك الدراسات التي تحاول حصر “الأصولية” في الإسلام، واعتبارها صفة جوهرية له للقول: إنه بطبيعته أصولي!

بالرغم من ذلك، فإنه لا يمكن نفي “الأصولية” –بمعناها الشائع- عن الإسلام كلية، فهي توجد في الأديان كلها وفي الأيديولوجيات، ما يعني اعتبارها ظاهرة فكرية مرتبطة بفكر معين له سمات خاصة تتلخص في ثلاث هي: الشمولية، والنصوصية، والانحياز المطلق.

فالشمولية –وهي مفهوم مأخوذ عن الكاثوليكية- تعني أن جميع الأسئلة التي تفرضها الحياة الخاصة والعامة تجيب عنها تعاليم الدين أو الأيديولوجية.

والنصوصية تعني أن النصوص المقدسة تؤخذ حرفيا، دون الدخول في تأويل أو تفسير بما يعنيه من استكشاف ملابسات أو طرح تساؤلات وغير ذلك.

والانحياز يعني الرفض المطلق لأي مساءلة لتلك المبادئ التي يعتقدها الأصولي، ورفض كل ما عداها.

هل الإسلام أصولي بطبيعته؟

بناء على هذه السمات هناك أصولية علمانية وأخرى دينية، وفيما يخص الإسلام فإن علومه الكثيرة -وخاصة أصول الفقه المخصص لاستنباط التعاليم الحياتية من النص- تشهد مرونة كبيرة.

مع أن الإسلام يقدم للإنسان تعاليم توجه حياته بأكملها، لكنه -من خلال علومه- يضطر على الدوام للدخول في حوار مع الواقع التاريخي، ونصوصه المقدسة تحتاج إلى التفسير. ومن هنا طورت الشريعة عددا من العلوم كمقاصد الشريعة والقواعد الفقهية مثل الضرورات تبيح المحظورات، والأمور بمقاصدها.. وأسباب النزول، والعموم والخصوص، والدخول في الفرز بين النصوص: ما هو تشريع وما هو غير تشريع، والتي هي فرع عن القول ببشرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إلى جانب نبوته، وإن نبوته لا تلغي بشريته، وإن لكل مجالها.

وهكذا سمح الإسلام بالتفكير في مبادئه تفكيرا عقلانيا مع اعتبار الواقع دوما، وتشهد بهذا نصوص عديدة من واقع حياته صلى الله عليه وسلم.

كما أن الإسلام ليس مجرد نص جامد معلق في السماء، فحين تتم قراءة إفرازاته إنما تتم مقاربته بوصفه ظاهرة تاريخية منبثقة عن جدل النص مع الواقع من خلال حركة العقل البشري، ومن هنا يبقى على الدوام خاضعا للمعايرة مع النص المقدس، والنقد والتقويم بتعدد الاجتهادات وتنوعها.

ونتيجة لما سبق، فإن القول بطبيعة جوهرية صلبة للإسلام، كالأصولية مثلا، يمثل خطأ في التفكير، وتبسيطا مخلا لتركيبية الفكر والواقع وجدلهما مع النص، كما أنه يمثل انحيازا مسبقا لفعل دون آخر.

لأصولية.. في سياقها التاريخي

من خلال مقارنة بين الأصوليتين المسيحية والإسلامية، نجد أن الفكر الأصولي يعبر عن تجربة عميقة بالأزمة، وهو يرى أن سبب الأزمة التي يمر بها المجتمع هو الانحراف عن المبادئ التي نزل بها الوحي، وتحققت في جماعة مثالية، والطريق الوحيد للخلاص من الأزمة هو الرجوع إلى تلك المبادئ الإلهية.

لكن المشكلة لا تقف عند حدود هذا التفكير والتشخيص، بل تتعداه للفعل المطلوب لحل الأزمة بعد معرفة سببها لدى هؤلاء، وهو هنا: كيف يتم الرجوع إلى تلك التعاليم؟

ففي حين يتم تلمس طريق الفعل في أداء العبادات ليصلح الله حال الأمة، كما يتجلى لدى الكثيرين من خطباء المساجد في عالمنا الإسلامي الذين يلحون دائما على أن المشكلة أننا ابتعدنا عن شريعة الله فحلّ بنا ما بنا، ولن يصلح حالنا “حتى يكون عدد المصلين في الفجر كعددهم في الجمعة”، ما يعني أنهم يتصورون الحل ميتافيزيقيا وسحريا في آن واحد.

وهو بالمحصلة يصب في مصلحة السياسي كحال خطيب المسجد الحرام الذي يأمر الناس بالصبر على تجرع العلقم، وإحسان الظن بولي الأمر في ظل الصمت تجاه غزو دولة إسلامية ومساندة ولي الأمر له!

في المقابل تكون الإجابة على السؤال مع جماعات العنف بالعمل المسلح والجهاد ضد الداخل والخارج، وإن كان هذا الفعل أكثر واقعية لكنه أكثر كارثية!

الانطلاق من فكرة “الشعور بالأزمة” يشكل مدخلا مهما للتفسير لأنه يرد الأصولية والعنف إلى سياقهما التاريخي المحدد، والعداء للغرب إنما يقع في هذا السياق التاريخي المعبَّر عنه بظهور الوعي بالأزمة والبحث عن فعل

ثمة تساؤل آخر يحيلنا إلى الدخول في التفسير ويؤكد ربطها بالسياق التاريخي، وهو تساؤل عن توقيت ظهور جماعات العنف، فلم تكن ردود الفعل على أطماع الغرب التسلطية ذات طابع عنفي، فقد تنوعت وتشعبت كثيرا، وبروز ظاهرة الحركات المسلحة حديث جدا. وإذا كان فريتس شتيبات اعتبر البروز “الظاهر” لـ”الأصولية” الإسلامية في منتصف القرن العشرين، وبنى عليه “ضرورة البحث عن أسباب الأزمة التي يشعر بها المسلمون الآن شعورا واعيا”، فإن البروز الحديث جدا للعنف المسلح يفرض ذات الأمر, فالعنف المسلح هو تطور للأصولية.

والإحباطات التي فجرت وغذت الأصولية تنطبق تماما على العنف المسلح هذا. ويمكن إجمالها في الآتي:

-  محاولات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بقيت حتى الآن قاصرة وعاجزة.

-  السخط على الحكومات المسؤولة عن تعثر مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعن حرمان الشعب من المشاركة في القرارات السياسية المهمة. والخضوع لهذه الحكومات الفاشلة يمثل عبئا ثقيلا.

-  النظام العالمي الظالم، حيث القوى الغربية لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها الأنانية، ومعاييرها المزدوجة التي تضر بمصالح الشعوب الإسلامية والعربية.

صحيح أن عناصر الإحباط السابقة ليس لها صلة بالدين، وجو القنوط والإحباط الذي تخلفه يؤثر على المسيحيين العرب أيضا، لكن هذا غير كاف للنظر في الظاهرة. ففي الطرف المقابل لابد من اعتبار مكونات العنف، والحساسية الدينية العالية لدعاته، وتكوينهم الشخصي والنفسي والديني من جهة، وكذلك من الطبيعي أن يأتي تعبيرهم من خلال منظومة المفاهيم التي يعتقدونها ومن تراثهم الفقهي خاصة، وهو ما أسميته “فقه العنف” ورصدت ملامحه في مقال آخر، وكيف أنه يأتي مكملا للمشهد ويتم فيه استثمار ما يلبي هذه المكونات جميعا ويفرغ من الإحباط ليصل إلى مستوى الفعل الملموس، وينشد هدفا تغييريا رساليا.

الأصولية في سياقها العالمي

نرى أن تفسير الظاهرة يكمن في تحليل مركب، على مستوى الفكر الإسلامي، وفي سياق تفاعله مع التحولات العالمية، ومن التبسيط المخل قصرها على مجرد فئة ضالة انحرفت، أو ظاهرة إسلامية أيديولوجية مع تجاهل حركة العالم والنظام السياسي الداخلي وتفاعلاته أيضًا، بمعنى أن العنف المسلح هذا إنما ظهر في ظل “الدولة” القطرية، وعلاقتها بالداخل المجتمعي وبالخارج الغربي، وموقفها من الدين وحركته ودوره في حياة المجتمع وسلوكياتها تجاه أهدافه العليا.

وهكذا تتم قراءة نشوء مفهوم الجهاد ضد الداخل أولا، ثم تحول الإستراتيجية إلى الجهاد ضد العالم تحت عنوان “الجهاد ضد الصليبيين واليهود” لاحقا.

بهذا المعنى يمكن الاتفاق –بوجه من الوجوه- مع أوليفيه روا في اعتبار تنظيم القاعدة والجماعات المرتبطة به يشكلان تمظهرا للحركة العالمية المناهضة للعولمة تحت عنوان “الإرهاب الديني”.

وهو يقول “إن النظم العلمانية الشمولية في العالم الإسلامي هي التي فرّخت الشباب الذين قاموا بعمليات في جاكرتا بإندونيسيا وبالدار البيضاء المغربية ومومباسا الكينية والرياض السعودية وجربة التونسية”.

صحيح أنه لا يمكن الحديث عن وعي كاف بالعولمة وحركة الفكر العالمي لدى القاعدة وغيرها من حركات العنف المسلح، لكن الحس الديني العالي لدى هؤلاء، وتكوينهم النفسي والفقهي الخاص، وظواهر الحداثة الملموسة عمليا، أشعرت الجميع بأنهم مهددون في وجودهم وفي دينهم، وأنهم لابد أن يقوموا بدورهم للالتزام بما يمليه عليهم اعتقادهم بناء على “تصورهم” للمشكلة والحل.

السياق التاريخي يبرز أيضًا في تفسير نشأة الحركات الإسلامية بدءا بحركة الإخوان المسلمين أم الحركات، والتي كانت ردا على إنهاء الخلافة الإسلامية. صحيح أن نصرة الدين وإقامة الشريعة عنصر أساس في مشروع الحركات الإسلامية عامة، لكن لا يمكن فهمه أيضا بمعزل عن “الانحرافات” التي تمارسها “الدولة” تجاه الدين والإسلاميين.

وبمعزل عن شعور المسلمين بأنهم مستهدفون عالميا، فإن العامل المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لا يأتي من الدين فحسب، وإنما من الموقف التاريخي الذي تجد نفسها فيه مع كثير من الشعوب غير الإسلامية، وهو موقف التبعية للدول الصناعية الغربية، والبحث اليائس عن توجه يعينها على التحرر، وأداء رسالتها.

فالظواهر المقلقة في علاقات بعض الدول العربية ببعضها الآخر ترجع بصورة مباشرة للتأثيرات الأجنبية، وجزء كبير منها نجم عن تعثر خطوات التنمية والتقدم، وإن كانت غير مقطوعة الصلة بالتبعية للأجنبي.

ومن هنا فإن خيبة الأمل المريرة لم توجه في الأساس إلى التحديث في ذاته، بل إلى نوع منه لم يجلب على الناس نفعا بل ضرا، وزاد من إحساسهم بالضياع. هذه الخيبة ارتبط بها شعور بالتمرد والاحتجاج على مصادره والممثلين له: القوى الصناعية الغربية.

تثور عند الحديث عن الأصولية مسألة نسبة كل من يقول بتطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية إلى الأصولية، وكان لافتا أن فريتس شتيبات خفف من حدة هذا التصور، لأن المصادر الأولى للدين لا تقول إلا القليل عن شكل الدولة الإسلامية.

لذلك لا مفر من اعتبار شكل الدولة من شأن الناس أنفسهم في العصر الحاضر، وإن كان من البديهي أن الإجماع ينعقد على أن مهمة الدولة الإسلامية هي تطبيق الشريعة، وهذا مشروع بالغ الضخامة والأهمية، لكن مع ذلك فمما ييسر الأمر أن الشريعة ليست نظاما جامدا متصلبا، فقد توسعت التعاليم التي نزل بها القرآن من خلال علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، ما يدل على القدرة الفائقة لعلم الشريعة على أخذ الظروف الفردية والاجتماعية الخاصة بعين الاعتبار.

وفي الختام، إذا اعتبرنا أن الأصولية الإسلامية هي رد فعل لموقف تاريخي محدد، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير هذا الموقف التاريخي تغيرا جذريا.

معتز الخطيب

كاتب سوري


المصدر : الجزيرة.نت