justice--trantitionnelle-tunisie

بقلم الاستاذة هاجر ونّه الهنتاتي،

تمر بلادنا بفترة انتقالية من حكم استبدادي الى ارساء نظام ديمقراطي، و قد برز خلال هذه الفترة شعور عام بضرورة اتخاذ التدابير و الاجراءات التي من شانها مجابهة الماضي و كشف الحقيقة و محاسبة المسؤولين عن الفساد السياسي و المالي و جبر جروح الانتهاكات الماضية لحقوق الانسان و ضمان عدم التكرار لتحقيق المصالحة الوطنية.

فمسار العدالة الانتقالية من شانه ان يحقق مناخا من الثقة بين الدولة و المجتمع ، اذ يقلص من جهة من مشاعر الحقد و الرغبة في الانتقام و الاقتصاص، كما يكرس من جهة اخرى مبادىء المسائلة و المحاسبة المؤطرة قانونا.

و في هذا السياق يتنزل القانون الاساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24/12/2013 و المتعلق بارساء العدالة الانتقالية و تنظيمها.

الا ان الصيغة التي وردت عليها فصول هذا القانون تثير عديد الانتقادات القانونية الى درجة اعتباره يتنزل في خانة القوانين التي يمكن ان توصف بكونها على المقاس و تكرس هيمنة الاغلبية الحاكمة.

و يتجلى هذا الوصف من خلال بسط قانوني للمكونات الاساسية لقانون العدالة الانتقالية و المتمثلة في الكشف عن الحقيقة و المسائلة و المحاسبة و الهيئة المكلفة بذلك و الية التحكيم التي افرغت من مهامها.

1/ في الكشف عن الحقيقة و المسائلة و المحاسبة :

عرّف قانون العدالة الانتقالية الانتهاك “بكل اعتداء جسيم او ممنهج على حق من حقوق الانسان صادر عن اجهزة الدولة او مجموعات او افراد تصرفوا باسمها او تحت حمايتها و ان لم تكن لهم الصفة او الصلاحية التي تخول لهم ذلك. كما يشمل كل اعتداء جسيم و ممنهج على حق من حقوق الانسان تقوم به مجموعات منظمة” ( الفصل 3 من القانون).

و يستخلص من هذا التعريف ان الانتهاك الصادر عن اجهزة الدولة او من تصرف باسمها يكفي ان يكون اما جسيما او ممنهجا حتى ينطبق عليه القانون، اما الانتهاك الصادر عن مجموعات منظمة فيجب ان يكون جسيما و ممنهجا حتى ينطبق عليه القانون. و قد يؤدي هذا المعنى الى اعتبار ان احداث باب سويقة او سوسة مثلا و المنسوبة للاسلاميين قد لا تتوفر فيهم صفة الانتهاك الممنهج و لا تدخل حينئذ تحت طائلة قانون العدالة الانتقالية.

كما عرف القانون الانتهاك ” بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان على معنى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها” و ذكر عدد من الانتهاكات على معنى هذا القانون بصفة خاصة كالقتل العمد، الاغتصاب و اي شكل من اشكال العنف الجنسي، التعذيب، الاختفاء القسري و الاعدام دون توفر ضمانات المحاكمة العادلة. و اعتبر الفصل المذكور من بين الانتهاكات تزوير الانتخابات و الفساد المالي و الاعتداء على المال العام و الدفع الى الهجرة الاضطرارية لاسباب سياسية (الفصل 8 من القانون).

فاعتبار تزوير الانتخابات (مسؤولية سياسية) انتهاك جسيم تطبق عليه العدالة الانتقالية في حين ان القتل العمد الصادر عن مجموعات منظمة يمكن ان لا تطبق عليه تلك العدالة اذا لم يكن ممنهجا (الفصل 3)، يؤكد مرة اخرى ان القانون قد صيغ على مقاس و لفائدة فئة سياسية معينة وهي الحزب الحاكم حاليا.

كما ان اعتبار “الدفع الى الهجرة الاضطرارية لاسباب سياسية” كانتهاك جسيم، يؤكد الانتقاء في تحديد الانتهاكات، ذلك اذ ان الهجرة تنظمها احكام خاصة و كذلك الامر بالنسبة لللجوء السياسي، و يمكن في هذا الاطار تجاوز تلك القوانين و التمسك بهذا التعريف للمطالبة بالتعويض سيما و ان النظام السابق كان استبداديا و انعدمت خلال قيامه جميع الحريات. و يتضمن حينئذ هذا التعريف جميع المهاجرين الذين لهم انتماء سياسي و خاصة الاسلاميين الذين لم يتحصلوا على اللجوء السياسي و ربما كذلك رئيس الجمهورية الحالي و عدد من حزبه، وهو ما يفسر استبعاد هذا التعريف لمعيار اللجوء السياسي المعترف به قانونا و دوليا.

و قد اعتبر القانون ان الدعاوي المتعلقة بالحالات المحددة بالفصل 8، لا تسقط بمرور الزمن (الفصل9)، اما الانتهاكات الاخرى فيجري عليها السقوط، كما يجري سقوط العقاب على جميع انواع الانتهاكات بما في ذلك تلك المحددة بالفصل 8، و يترتب عن ذلك ان من صدر عليه حكم غيابي من اجل اي انتهاك على معنى هذا القانوني يمكنه المعارضة بسقوط العقوبة وهو ما ينطبق مثلا على بعض مرتكبي الجرائم الارهابية المنتمين الى بعض التيارات الاسلامية.

و يقتضي الفصل 8 احداث دوائر قضائية متخصصة يعهد لها النظر في الانتهاك الجسيم لحقوق الانسان، مع الملاحظة ان تركيز الدوائر القضائية و تكوين القضاة في مجال العدالة الانتقالية قد يتطلب مدة زمنية طويلة.

كما اسند القانون للدولة سلطة توفير العناية الفورية و التعويض الوقتي لمن يحتاج لذلك من الضحايا مثل كبار السن و النساء و الاطفال و المعوقين و ذوي الاحتياجات الخاصة و المرضة و الفئات الهشة دون انتظار صدور قرارات او احكام تتعلق بجبر الضرر ( الفصل 12)، الا انه لم يبين على اي اساس سوف تصرف تلك التعويضات الوقتية، وهو اجراء خطير باعتباره رهين السلطة التقديرية للحاكم و يتعارض مع التشاريع السارية التي تقتضي ان يكون التعويض بمقتضى حكم قضائي.

2/ في هيئة الحقيقة و الكرامة :

تثير الفصول القانونية المتعلقة بهيئة الحقيقة و الكرامة عديد المؤاخذات القانونية سواء فيما يتعلق بتركيبتها، او بتنظيمها و كذلك بصلاحياتها.

في تركيبة الهيئة :

تتركب هيئة الحقيقة و الكرامة من خمسة عشر عضوا على الا تقل نسبة اي من الجنسين عن الثلث، يقع اختيارهم من قبل المجلس المكلف بالتشريع من بين الشخصيات المشهود لها بالحياد و النزاهة و الكفاءة ( الفصل 19 من القانون). و قد استغنى حيث القانون على معيار الاختصاص في مجال العدالة الانتقالية او في مجال حقوق الانسان، كما انه لم ينص على مبدأ التناصف بين الجنسين في تركيبة الهيئة.

و يكون من بين اعضاء الهيئة وجوبا – ممثلان عن جمعيات الضحايا و ممثلان عن الجمعيات المدافعة عن حقوق الانسان ترشحهم جمعياتهم ( الفصل 20 )، و لم يبين القانون نوع هذه الجمعيات و لم يشترط خبرة طويلة في مجال حقوق الانسان، و يمكن ان تكون جمعيات تكونت حديثا او جمعيات غير جادة في عملها، كما تم اقصاء بصفة غير مباشرة الرابطة التونسية لحقوق الانسان كمنظمة وطنية عريقة و مختصة في حقوق الانسان و ذلك باعتبارها مثلها مثل بقية الجمعيات الاخرى.
و يستخلص من هذا الفصل ان اربعة (4) اعضاء على الاقل (يمكن ان يكونوا اكثر من 4 لان القانون لم يحدد العدد الاقصى) من ضمن 15 عضو يمكن ان يكونوا ممن ليست لهم اية خبرة في مجال حقوق الانسان و العدالة الانتقالية.

و يختار بقية الاعضاء من الترشحات الفردية في الاختصاصات ذات الصلة بالعدالة الانتقالية كالقانون و العلوم الاجتماعية و الانسانية و الطب و الارشيف و الاعلام و الاتصال على ان يكون من بينهم وجوبا قاض عدلي و قاضي اداري و محامي و مختص في العلوم الشرعية و مختص في المالية ( الفصل 20 من القانون).
حيث تم بمقتضى هذا الفصل اقصاء المنظمات المهنية الاخرى مثل هيئة المحامين و هيئة الاطباء …. باعتبار ان ترشحات المحامين و الاطباء و غيرهم تكون فردية (على عكس الجمعيات). و تم كذلك اعتماد محامي واحد و قاضي واحد (على الاقل) مقابل اثنان على الاقل من ممثلي الجمعيات، و الحال ان المحامي و القاضي هما مختصان في هذا المجال خلافا لممثلي الجمعيات. كما ان اعتماد مختص واحد (على الاقل) في العلوم الشرعية، لا يستقيم لعدم وجود اية علاقة بين علوم الشريعة و مجال العدالة الانتقالية، وهو اختصاص قد يؤدي الى اقحام اشخاص في الهيئة لاعتبارات شخصية و ربما سياسية كذلك.

و تحدث لجنة خاصة بالمجلس التاسيسي تعنى بفرز الترجحات و التوافق على اعضاء هيئة الحقيقة و العدالة و تتركب من ممثلين عن الكتل و ممثلين عن النواب الغير منتمين الى كتل (الفصل 23 من القانون).
و تكرس التمثيلية المذكورة منطق الاغلبية الموجودة بالمجلس و بالتالي فان تركيبة لجنة الفرز سوف تطغى عليها الاغلبية الحزبية المذكورة و سوف تكون نتاجا لمحاصصة حزبية.

و يقع الاعتراض على احد المترشحين امام اللجنة التي تكون قراراتها في هذا الشان نهائية و باتة و غير قابلة للطعن باي وجه من الوجوه و لو بدعوى تجاوز السلطة (الفصل 25 من القانون)، و في ذلك مساس بمبدأ الحيادية باعتبار ان اللجنة هي الطرف في اختيار الاعضاء وهي القاضي كذلك فيما يتعلق بالطعن في اختيارها، كما انه لا يجوز تحصين قرارات اللجنة ضد الطعن بدعوى تجاوز السلطة، و هذه سابقة غير موجودة في اي نص قانوني، و يمكن اعتبار هذا التحصين غير دستوري.

في تنظيم الهيئة :

تتم تسمية اعضاء الهيئة من طرف رئاسة الحكومة بمقتضى امر يتضمن دعوتهم للاجتماع و يختار الاعضاء بالتوافق بينهم رئيسا للهيئة و نائبين. (الفصل 26 من القانون). و يستخلص من هذا الفصل انه لم يقع تثبيت رئاسة الهيئة كمؤسسة في حد ذاتها يتم انتخابها من المجلس مثلما هو الامر بالنسبة لرئاسة هيئة الانتخابات مثلا وهو خلل سوف تكون له تداعيات سلبية على عمل الهيئة.

و تحدث الهيئة جهازا تنفيذيا يخضع لسلطتها المباشرة، يحدد تنظيمه و طرق تسييره في نظامها الداخلي، و يتكون من مصالح مركزية تتولى الشؤون الادارية و المالية و من مكاتب جهوية و لجان متخصصة تحدثها الهيئة و تخضع لاشرافها المباشر و لها الاستعانة باشخاص بواسطة التعاقد او طلب الالحاق، و تتم تسمية اعضاء الجهاز التنفيذي بقرار من الهيئة(الفصل 30).

و تعتبر مسالة الجهاز التنفيذي للهيئة مسالة خطيرة جدا باعتبار ان النص القانوني لم يظبط عدد اعضاء هذا الجهاز و لا كيفية اختيارهم و اسند للهيئة سلطة مطلقة في ذلك، كما ان اعضاء هذا الجهاز سوف تكون لهم نفس الصلاحيات و الامتيازات التي يتمتع بها عضو الهيئة المصادق عليه من طرف المجلس التاسيسي، و الحال ان توفر الشروط المنصوص عليها قانونا في هؤلاء غير خاضع لرقابة المجلس بل لسلطة الهيئة.

و تطبيقا لهذا الفصل فان هيئة الحقيقة و الكرامة تتكون في ظاهرها من 15 عضوا تقع المصادقة عليهم من طرف المجلس، و في باطنه من عدد غير محدد من اعضاء جهازها التنفيذي الذي قد يتجاوز عدد نواب المجلس، الامر الذي قد يثقل كاهن الدولة التي تعتبر الممول الاساسي لميزانية الهيئة، و قد يفقد كذلك هذه الهيئة و جميع اعمالها كل مصداقية.

و يتم التجريح في اي عضو من اعضاء الهيئة اثناء عملها بمكتوب معلل يرفع الى رئيسها و تبت الهيئة في المطلب بقرار يتخذ باغلبية الاعضاء الحاضرين دون حضور العضو المجرح فيه، و لا يقبل هذا القرار الطعن باي وجه من الوجوه و لو بدعوى تجاوز السلطة ( الفصول من 62 من القانون). و يعتبر هذا التحصين ضد دعوى الطعن بتجاوز السلطة غير دستوري و يحول دون اجراء اية رقابة على اعمالها.

في صلاحيات الهيئة :

اسند القانون مجموعة من الصلاحيات لهيئة الحقيقة و الكرامة تتمثل في النفاذ الى الارشيف العمومي و الخاص بقطع النظر عن كل التحاجير الواردة بالتشريع الجاري به العمل، و يمكنها اجراء المعاينات بالمحلات العمومية و الخاصة و القيام باعمال التفتيش و الحجز و تحرير المحاضر و لها في ذلك نفس صلاحيات الظابطة العدلية مع توفير الضمانات الاجرائية القضائية اللازمة في هذا الشان (الفصل 40 من القانون).

و يستخلص من هذا الفصل ان القانون قد ادخل تعديلا على مجلة الاجراءات الجزائية باضافة مؤسسة جديدة وهي الهيئة و اسند لها نفس صلاحيات الظابطة العدلية و لكن دون ان ينظم اجراءات عملها و لا واجباتها و لم يضع لها حدود قانونية مثلما هو الامر بالنسبة للظابطة العدلية التي تأتمر بالنيابة العمومية وفق اجراءات محددة و دقيقة يترتب عن عدم احترامها بطلان المحاضر و حتى التتبع.
فاستعمال عبارات (“مع توفير الضمانات الاجرائية القضائية اللازمة”) غير دقيقة لاسناد مثل هذه الصلاحيات قد يترتب عنه تجاوز السلطة او الانحراف بها ، و الحال ان المادة الجزائية و كل الاجراءات المتعلقة بها كالحجز و التفتيش يجب ان تخضع الى قواعد خاصة و مفصلة و منصوص عليها بدقة ، باعتبارها اجراءات تمس بالحريات العامة و الخاصة و بحرمة المسكن التي يضمنها القانون الداخلي و كل القوانين الدولية.

مع الملاحظة ان هذه السلطة المطلقة التي اسندها القانون للهيئة قد تستعمل من طرف اعضاء الجهاز التنفيذي للهيئة الذين ليست لهم اية شرعية انتخابية كيفما بيناه اعلاه.

و تحيل الهيئة الى النيابة العمومية الملفات التي يثبت لها فيها ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، و لا تعارض الملفات الواقع احالتها بمبدأ اتصال القضاء( الفصل 42 من القانون).

و يؤدي عدم احترام مبدأ اتصال القضاء بالضرورة الى معاقبة اشخاص مرتين من اجل نفس الفعل و هذا امر خطير و غير دستوري و منافي حتى لحقوق الانسان، و كان على القانون ان يفرق بين الملفات التي قضي فيها بعدم سماع الدعوى وهي التي يمكن اعادة النظر فيها، و الملفات التي قضي فيها بالادانة و التي لا بد من ان يحترم فيها مبدأ اتصال القضاء.

و من صلاحيات الهيئة كذلك حسب الفصل 43 من هذا القانون صياغة التوصيات و الاقتراحات المتعلقة بالاصلاحات السياسية و الامنية و القضائية و الاعلامية و التربوية و الثقافية التي تراها ضرورية. و قد اقتضى هذا الفصل احداث لجنة تابعة للهيئة اطلق عليها اسم “لجنة الفحص الوظيفي و اصلاح المؤسسات ” تقوم بتقديم مقترحات عملية لاصلاح المؤسسات المتورطة في الفساد و مقترحات لغربلة الادارة و كل القطاعات التي تستوجب ذلك و تصدر توصيات بالاعفاء او الاقالة او الاحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل الوظائف العليا للدولة بما في ذلك القضاة في صورة ثبوت تورطه في تقديم تقارير او معلومات لحزب التجمع المنحل او البوليس السياسي نتج عنه انتهاك او ضرر او قيامه بعمل عن قصد نتج عنه مساندة او مساعدة للاشخاص المتورطين في الاستيلاء على المال العام (الخاضعين للمرسوم عدد 13 لسنة 2011) او في صورة ثبوت في الانتهاكات على معنى هذا القانون.

و تعتبر عبارة “غربلة الادارة و كل القطاعات التي تستوجب ذلك” عبارة عامة و غير دقيقة من الناحية القانونية، بل انها عبارة جديدة و غير موجودة في نصوصنا التشريعية، كما ان الاشاراة الى القطاعات الاخرى دون تحديدها يعطي للهيئة سلطة حتى على القطاعات الخاصة التي لا تتدخل فيها الدولة اساسا و ليس لها عليها اية سلطة.

كما ان التوصيات بالاعفاء او الاقالة او الاحالة على التقاعد يطرح التسائل حول مدى الزامية هذه التوصيات بالنسبة
للادارة قبل صدور قرار قضائي بالادانة، سيما و ان هذه الهيئة ليست لها صلاحيات قضائية، وقد يترتب عن تنفيذ
توصياتها بطلان قرارات الاعفاء و غيرها من الناحية القانونية.

و قد استعمل القانون كذلك عبارة “البوليس السياسي” و الحال انه لا يوجد اي تنظيم او مؤسسة معترف بها قانونا تحت هذا المسمى، سيما و ان ما يعرف “بالبوليس السياسي” هو مجرد وصف لافعال بعض الذين كانوا يخدمون النظام السابق و لا يوجد اي تعريف قانوني و تشريعي له ، الامر الذي قد يفتح الباب امام تبادل الاتهامات و تعدد التاويلات في غياب اي سند قانوني يعرّف هذه العبارة.

3/ في لجنة التحكيم و المصالحة :

اقتضى الفصل 45 احداث لجنة اطلق عليها اسم “لجنة التحكيم و المصالحة” عهد اليها النظر في ملفات الانتهاكات بعد الحصول على موافقة الضحية و بناء على قواعد العدالة و الانصاف و المعايير الدولية بصرف النظر عن انقراض الدعوى و سقوط العقاب، و في حالات الانتهاكات الجسيمة لا يحول قرار اللجنة دون مساءلة المسؤولين على ان يؤخذ قرارها بعين الاعتبار عند تقدير العقاب.

و يستخلص من هذا الفصل و خاصة من استعمال عبارات “بصرف النظر عن انقراض الدعوى و سقوط العقاب “، ان الانتهاكات المعنية بالتحكيم لا تتعلق بتلك المحددة بالفصل 8 من القانون الذي اقتضى عدم سقوط الدعوى بمرور الزمن بالنسبة لتلك الانتهاكات، و بالتالي يقتصر نظر التحكيم في الانتهاكات التي سقط فيها العقاب.

كما ان اعتبار القرار التحكيمي لا يحول دون مسائلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة، يمثل افراغا لمهمة التحكيم اساسا. لان المهمة الاساسية للتحكيم هي فض النزاع بطريقة غير قضائية، فاذا بقي النزاع قائم و المسائلة متواصلة رغم وجود التحكيم، تنعدم اية جدوى من هذه الالية التي سوف لن تتعلق حينئذ بالانتهاكات الجسيمة المنصوص عليها بالفصل 8 من القانون.

و تنظر هذه الجنة في مطالب الصلح في ملفات الفساد المالي و لا يعلق تقديم مطلب الصلح النظر في القضية و يترتب عن تنفيذ بنود المصالحة بخصوص ملفات الفساد المالي انقراض الدعوى العمومية او ايقاف المحاكمة او ايقاف تنفيذ العقوبة (الفصل 45). و هذا الاجراء يمثل مجرد اجراء صلح مثلما هو الامر بالنسبة للقضايا الديوانية مثلا و لا يعتبر تحكيم، لان هذا الاخير يفترض ان تنفرد الهيئة التحكيمية بالنظر في الملف الذي يخرج عن اختصاص القضاء بمقتضى اتفاقية تحكيم.

و لا يجوز لاطراف النزاع التحكيمي الامتناع عن المشاركة في جلسات الاستماع العمومية اذا طلبت الهيئة ذلك و تعلق اجراءات المصالحة في صورة الامتناع ( الفصل 47 من القانون). و يعتبر هذا النص افراغ لمهمة التحكيم لانه لا يجوز اجبار من التجأ الى التحكيم للحضور بجلسات الاستماع العمومية وهو في اطار نظام تحكيمي يقوم على اساس العدالة و الانصاف و المصالحة بمقابل.
و يستخلص من الفصول المنظمة للتحكيم ان المشرع لم يستوعب مؤسسة التحكيم كيفما نظمتها مجلة التحكيم بصفة عامة و كيفما تقتضيها معظم قوانين العدالة الانتقالية في التشاريع المقارنة بصفة خاصة، فهناك خلط قانوني واضح بين “الصلح” و ” التحكيم”، و هناك افراغ لدور التحكيم و عدم ضبط الحدود بين المؤسسة القضائية و المؤسسة التحكيمية، الامر الذي سوف يؤدي الى عديد الصعوبات التطبيقية التي قد تعرقل مسار العدالة الانتقالية.

و يتبين حينئذ من خلال قانون العدالة الانتقالية ان الآليات و الاجراءات المعتمدة لتحقيق هذا المسار لا ترتقي الى المعايير الدولية المعتمدة في عديد القوانين المقارنة في مختلف التجارب الحاصلة على غرار جنوب افريقيا او المغرب مثلا، كما انها لا ترتقي الى تطلعات الشعب التونسي في تحقيق عدالة انتقالية و ليس عدالة “انتقائية”.