يبقى أن المقارنة ليست علّة. إن اظهار حداثة الحركات الإسلاموية ومن ثمّ تاريخانيتها العميقة أمر مفيد على صعيد الاجتماعيات السياسية، الا أن هذا يناقض وجهة خطاب الإسلامويين نفسه. فهم يرون أنّ هناك إسلاماً واحداً هو اسلام عصر النبي، الذي حُرّف فيما بعد لأن الحداثة ضلال. غير أنّ هذه الرؤية لجوهر واحد للإسلام لا تقتصر على الإسلامويين وحدهم. لأننا نجدها ايضاً لدى العلماء التقليديين كما نجدها لدى عدد من المستشرقين الغربيين الذين يستعيدون بذلك قراءة ماكس ويبر للإسلام كثقافة وحضارة، وكنظام مقفل.

JPEG

أنه ليس صحيحاً؛ أن الفكر السياسي الإسلامي مشوبٌ، بالضرورة والأصل، بقصور ما بل إنه يندرج ضمن تصوّر آخر للعلاقات بين السلطان والقانون. أما أن يكون هذا التصوّر متبعاً للصعوبات فهذا أمر مؤكد، وإنما ينبغي قياسه على معناه الأصلي لا على الدولة الغربية. والفرادة فيه هي المكانة التي تحتلها الشريعة بالنسبة الى السلطان. فللشريعة خاصيّتان: استقلالها الذاتي وعدم اكتمالها. الشريعة لا ترتهن لدولة أو لقانون وضعي أو لقرار سياسي، الأمر الذي يجعلها تنشىء نطاقاً خاصاً موازياً لنطاق السياسي وموازياً لنطاق السلطان، وإن كان يسع هذا الأخير الالتفاف حولها والتلاعب بها (ومن هنا موضوعة فساد القاضي الذائعة الصيت). إلا أنه لا يستطيع أن يحول الشريعة الى خلاف ما هي عليه: أي اجتهاد مستقل في ذاته وغير تام. ذلك أن الشريعة لا ترتبط بأي هيئة ذات قوام، كالكنيسة أو الاكليروس. فالفتاوى التي تحسم في ما لا يصرّح به النصّ انما تصدر دائماً هنا والآن، وقد تُلغى مع تبدّل المرجعية الدينية. لا يُقفل باب الاجتهاد في الشريعة قط، لأنها لا تستند الى مدوّنة من المفاهيم، وانما الى جملة من المبادىء العامة أحياناً والمحددة جداً أحياناً أخرى والتي يتسع نطاق تطبيقها، بالاستنباط والقياس والتوسّع والشرح والتأويل، لتشمل كافة أعمال البشر. واذا كانت المبادىء الأساسية (أو الأصول)، كما يحددها علم الأصول بوضوح، هي مبادىء لا يمكن أن توضع موضع شك، فإن التوسع في مجال تطبيقها يخضع لعلاقة الأخلاق بالدين. فعمل القاضي ليس في تطبيق مبدأ أو مفهوم بل في قياس الحالة التي ينظر فيها بحالة معروفة سابقاً.

ونقطتا “الضعف” اللتان تعاني منهما الشريعة (أي كونها غير مقفلة على مستوى المؤسسة وعلى المستوى المفاهيمي) تؤديان إلى جعل التوتاليتارية، بما هي امتصاص كلّي للحقل الاجتماعي من قبل السياسي، ظاهرة غريبة عن الثقافة الإسلامية: فأعراض التوتاليتارية لا تظهر إلاّ إذا كانت هذه الثقافة خراباً يباباً (كما في العراق). وفي الوقت نفسه لا يستطيع أحد أن يدّعي الانتماء الى الإسلام مع اعتراضه على الشريعة: لذلك فإن العلمانية لا يمكن أن تنشأ الا بوسائل عنيفة (تركيا اتاتورك) أو تنجم عن شغور، عبر تغيير أنماط الحياة والتقاليد.

إن الإفراط في منطق الدولة، وهو افراط كامن في المكانة التي يحتلّها في الغرب، يؤدي الى التوتاليتارية. ولذلك فليس من المستهجن أن يكون الفكر الغربي المعاصر حول نشأة الدولة، عملية تفكير متواصل حول التوتاليتارية وضدها. أما في الإسلام فإن ضعف نطاق السياسي هو الذي حال دون ظهور التوتاليتارية فيه، إلا أن هذا لا يعني بالطبع أنه لا وجود لعنف دولتي أو مجّاني، يجري تفكيره ويطلق عليهما عندئذ صفة “الظلم”: ذلك أن نقيض الاستبداد في المتخيل السياسي الإسلامي ليس الحرية بل العدل. والأخلاق، وليس الديموقراطية، هي شعار الاحتجاج الأمر الذي يمهّد الطريق لكافة النزعات الشعبوية. وعلى هذا النحو ينبغي فهم ضعف التطلب الديموقراطي في البلد المسلم. ليس هناك قبول بالديكتاتورية أو اذعان لها، لأن التطلّب مختلف: انه أولا احترام الحُرمة أي نطاق التجمع العائلي والدار والناموس ثم بعد ذلك يأتي تطلب العدالة (تواتر موضوعة السلطان العادل والحاكم الصالح). أما الحرية فهي المطلب داخل إطار الأسرة والحياة الخاصة وليس في إطار السياسي، حيث القيمة المرجوة منه هي العدالة.

تهدف هذه الأفكار السريعة الى البرهان على أن الثقافتين الإسلامية والغربية يغذيان تصوّراً وإشكالية مختلفين للعلاقات بين الدولة والمجتمع. لذا فإن مُساءَلة الثقافة الإسلامية انطلاقاً من مفاهيم الثقافة الغربية بعد أن كرّست قيماً شمولية، لا يمكن أن تؤدي إلا الى إبراز غياب أو نقص: غياب الدولة الحديثة دون التنبه الى أن يحول دون قيام هذه الدولة (الشريعة والعصبيات الأفقية لتضامن الجماعات) هو أيضاً ما يجعل من قيام توتاليتارية اسلامية أمراً مستحيلاً. وهذا لا يعني أننا نضع الشريعة والديموقراطية الغربية على المستوى نفسه وانما نعتقد أن المقارنة ينبغي أن تكون نتيجة لا مقدّمة؛ وفق ما يقتضيه المنهج.

والواقع أن الإسلاموية، شأنها في ذلك شأن الأصولية التقليدية للعلماء، تجد صعوبة في طرح السؤال الحقيقي: لماذا يدرس الاستشراق الغربي الإسلام برؤية أزليّة في حين أنه يجعل من الحضارة الغربية “بنية اجتماعية _ تاريخية”؟ السبب بسيط: ذلك أن المتخيل السياسي الإسلامي يقبل لا بل يطالب بالفرضية التي تقول إن الإسلام رؤية أزلية. فالنصوص الغالبة في الثقافة الإسلامية السنية، نصوص العلماء ونصوص الإصلاحيين السلفيين والإسلامويين المعاصرين أيضاً، تفهم الإسلام على أنه لا زمني، ولا تاريخي وغير قابل للنقد. إذاً ينبغي فهم اسباب هيمنة الخطاب “التوحيدي” في أوساط المتعلمين والمثقفين المسلمين؛ وهي هيمنة تفضي الى تهميش وجهات النظر الأخرى. ومن اللافت أن يكون الباحثون “الغربيون” هم الذين سيكتشفون المفكرين المتفرّدين في العالم الإسلامي (كابن خلدون) والذين سيكون فكرهم، تبعاً لذلك، موضع شبهة لدى العديد من المثقفين المسلمين. لكن هل من المشروع يمكن أن نستنتج بناء على صفة اللاتاريخانية التي يعزوها الفكر الإسلامي لنفسه، أن المجتمعات المسلمة عاجزة عن الارتقاء الى الحداثة السياسية؟

……………………………

المصدر: تجربة الاسلام السياسي.