الجزء الأول

على الرغم من وجود مصاديق للتعددية السياسية في الحضارات السابقة، الا ان البحث في هذا الموضوع كمسألة نظرية وكمعيار لمدى المشروعية يختص بالدولة الحديثة. وقد اعتبر روبرت دول ـ عند تعريفه للنظام السياسي الذي يعتبر اكثر شمولية من المؤسسات الرسمية للدولة ـ التعددية السياسية بمثابة مجموعة من النشاطات والاعمال التي يمارسها المواطنون للتنفذ أو لدعم الحكومة أو لتأييد سياسة معينة، وهذا التعريف اكثر سعة من تعريف التعددية بالمنافسة وبسط النفوذ.

يمكن ادراج مستلزمات التعددية السياسية والشروط المسبقة الواجب توفرها لمشاركة الفرد ونفوذه في النظام السياسي على النحو التالي:

وجود عقائد واخلاق وأُسس مشتركة تصون اجماع ووفاق ذلك المجتمع.

توفير اجواء تبيح للفرد حرية العمل والسلوك.

الفهم النظري والاجتهادي للقرارات السياسية بعيداً عن روح التزّمت والحرفية.

وجود مجتمع وفئة واخلاق ذات طابع عملي.

حرية ابداء المعارضة، وتعيين حدودها.

وجود اجهزة تؤدي دور الوسيط والحاشد للطاقات (من قبيل المجتمع المدني، والاحزاب، والشخصيات، ومجاميع الضغط لغرض دعم القرارات السياسية والسيطرة عليها والتأثير فيها).

يرى بعض الكتاب الغربيين المتاخرين ان التعددية السياسية في اليونان القديمة كانت ـ لأسباب معينة ـ اهم مما هي عليه في العالم الغربي في الوقت الحاضر. ثم انها كانت ذاتياً ـ بسبب ما تتميز به من عناصر خاصة ـ مناهضة للاستبداد.

يتقد الكتاب الذين يعتبرون اليونان القديمة كانت تعيش حياة سياسية مثالية، المسار الحالي الذي تخوضه التجربة الغربية في حقلي الثقافة والسياسة، ويتحدثون بشكل يبعث على اليأس عن مسألة انحطاط العقلانية في الغرب(3).

وفي مدار الحضارة الاسلامية هناك كتاب من امثال برهان غليون يكثرون من الثناء على مجتمع التعددية في صدر الاسلام وعلى نزعة التعددية التي تحملها التعاليم الاسلامية، ويسعون إلى العثور على اسباب استحالة هذا الفكر الاصيل في الدول الاستبدادية إلى نزعة للهيمنة والتسلط (4).

يرى هذا الفريق من الكتاب ان أسباباً كثيرة ـ يجب شرحها في موضع آخر ـ ادت إلى ان تتحول الحرية الاسلامية إلى تصنيم الدولة تدريجياً. وانه من الممكن تسهيل العودة إلى الاصالة الاسلامية من خلال فهم اسباب هذا الانحطاط وزيغ القراءات الدينية المنبثقة منه.

تظهر التعددية السياسية عادة، وخاصة في لابعاد التنافسية الموجودة فيها ولسبب فني وعملي، في قالب كثرة سياسية. ويستفاد من استدلال روبرت دول ان التعددية السياسية على الصعيد الجماهيري أمر غير ممكن؛ فأفراد لمجتمع لا تعاطون مع الشؤون السياسية على نمط واحد؛ فقد يتخذ فريق منهم موقفا محايداً، بينما يتخذ البعض الآخر موقفا سلبيا وغالبا موقفا داعماً ـ بدون اية منافسة ايجابية ـ وقليل منهم يقتحمون المخاضات السياسية بكل قواهم. ويوجه (5) خطابه إلى هذا الفريق الثالث فقط بصفتهم ناشطين سياسيين ويعتبرهم جديرين بان يسلط المرء اضواء البحث عليهم(6). وهؤلاء النخبة يدفعون جماعات وأفراداً كثيرين لتأييد وجهات نظرهم بأساليب كثيرة من جملتها طرح الافكار الايديولوجية، والقيادة السياسية، وايجاد التنظيمات المناسبة(7).

وفضلا عن التحليل اعلاه، فان طبيعة الحياة الاجتماعية وعوامل علم الاجتماع تبيح لجماعة وافراد معدودين ان يضطلعوا بدور فاعل في ميدان الحياة السياسية. وبناء على هذا، فان التعددية السياسية ـ وان كانت قابلة للتحقيق من حيث النظرية وعلى صعيد الجانب النظري ـ غير قابلة للتطبيق على الصعيد العملي(8). ولهذا السبب فان أي نوع من البحث في موضوع التعددية السياسية ينتهي إلى القول بالجماعية أو الكثرة.

الاسلام ومسألة التعددية

تحدث الكتاب الجدد عن مسألة التعددية وبحثوها في دائرتين مهمتين:

الاولى: دائرة الثقافة والمعتقدات.

الثانية: دائرة المجتمع والسياسة(9).

يبين روبرت دول ان التعددية الاجتماعية ـ السياسية تقوم على الدوام على مبدأ التعددية الثقافية ـ العقائدية التي يعتبر الدين جزءاً اساسيا منها. ومن هنا فان السؤال الاساسي المطروح على بساط البحث في هذا المضمار هو العثور على نمط العلاقة التي يمكن ان تكون بين التعاليم الاسلامية وبين النوعين المذكورين للتعددية.

تؤكد جميع أو اكثر المذاهب والفرق الاسلامية وجوب وجود القيادة والنظام السياسي، الا ان التوافق على هذا المعنى لا يعني الاجماع على نظرية واحدة في والدولة الاسلامية. ومن ابرز الشواهد على غياب مثل هذه النظرية هو اختلاف المذاهب الاسلامية في تعريف مفهوم الامامة أو الخلاقة الاسلامية؛ فالشيعة يذهبون إلى القول بان الامامة منصوص عليها من قبل الرسول صلى الله عليه وآله للأئمة المعصومين من ذريته، بينما يرفض الخوارج وخاصة الاباضية منهم هذا الاعتقاد ويقولون: ان الامامة والقيادة يمكن ان تتحقق في كل فرد مسلم ومؤمن وعاقل بغض النظر عن نسبه وقبيلته(10)؛ فقد نقل عن ابن حزم انه قال: ان عموم الخوارج وجمهور المعتزلة وبعض المرجئة يتفقون على ان الامامة جائزة لكل من يعرف الكتاب والسنة ويلزم بالاحكام الدينية سواء كان من قريش أو من عموم العرب بل حتى وان كان عبداً.

وقال ضرار عن عمرو القطفاني: ((إذا اجتمع حبشي وقرشي كلاهما قائم بالكتاب والسنة، فالواجب ان يقدم الحبشي؛ لانه اسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة)) (11)!

وفي مقابل هذين الرأيين، هناك رأي آخر للمسلمين السنة؛ فهم يوافقون على كون الخليفة قرشياً، ولكنهم يفترضون ان تتوفر فيه شروط شرعية أخرى، اشير اليها في الكتب المسماة بكتب الاحكام السلطانية.

يحمل كل واحد من هذه المذاهب الثلاثة في داخله تفسيرات وقراءات متعددة لهذه الآراء بحيث يلتقي كل منها بنسب متفاوتة مع مقولة التعددية. ونظراً لكثرة وتنوع النظريات في الفقه الاسلامي، يمكن من خلال الدراسة الدقيقة للموارد الآتية فهم مكانة التعددية في الفكر الاسلامي:

أ ـ النظريات الاسلامية السياسية.

ب ـ المصادر والنصوص الاسلامية.

ج ـ التاريخ السياسي الاسلامي.

وقد واجهت النظريات السياسية الاسلامية الكثير من الانشطار والتشتت من حيث البناء والماهية المتفاوتة للسلطة، ولكن يمكن تقسيمها بوجه عام إلى فئتين؛ قديمة وجديدة. ومن البديهي ان الوجه الغالب على النظريات القديمة بالمقارنة مع النظريات الجديدة هو التركيز، أما النظريات الجديدة فتتميز على العموم بطابع التعددية.

ويبدو ان النظريات السياسية لدى المسلمين ـ وان كانت قد ولدت في ظل ظروف تاريخية سياسية خاصة(12) ـ احرزت بمحض ولادتها وظهورها تقدما على صعيد المعرفة النظرية بالمصادر الاسلامية من جهة وبالتجربة التاريخية من جهة أخرى(13). وعلى العكس من الرأي المشهور القائل بان النظريات المنبثقة من معاني ذاتية وغير تاريخية تعتبر مصادر دينية، يبدو ان هذه النظريات هي التي فرضت معنى وتفسيراً خاصاً للمصادر الاسلامية(14).

يستشف من التأمل في المعنى اعلاه انه لا يمكن التعويل على النظريات لاستيعاب معنى ومفهوم المصادر والتاريخ السياسي الاسلامي، بل لا بد من مقابلة ومقارنة كل واحدة من النظريات الاسلامية مع النظريات الاخرى، من اجل كسب مزيد من المعلومات عن المصادر والنصوص والتاريخ السياسي الاسلامي، وتقليل نسبة احتمال الخطأ فيها، ومعرفة مدى الخطأ والزيغ في فهم النصوص والسنن.

والواقع ان المصادر والنصوص، أو لنقل السنن الاسلامية على العموم، يظهر معناها الحقيقي في ظروف التعاطي فيما بينها فقط.

سنحاول في السطور الآتية بعد ايراد بحث مقتضب في باب انواع التعددية طرح الآراء المتنوعة التي يمكن استنباطها من النظريات السياسية لدى المسلمين في ميدان التعددية السياسية. فقد سبقت الاشارة إلى ان التعددية السياسية الاجتماعية هي الموضوع الاساسي الذي يعني به البحث الحالي. ولكن نظراً لصلته الوثيقة مع التعددية العقائدية ـ الثقافية؛ نتناول فيما يلي النوع الثاني من التعددية ونجعله مدخلاً للولوج إلى دراسة التعددية السياسية(15).

أ ـ التعددية العقائدية:

تقوم التعددية العقائدية التي يعتبر الدين والمذهب من عناصرها الاساسية على مبنى تنوع فهم الافراد والفئات للدين وللنصوص الدينية(16). ويمكن في ضوء وجود عنصر الدين، الفصل بين نوعين من التعددية الدينية (أو فيما بين الاديان) عن التعددية المذهبية (في داخل اطار الدين) (17)، ثم التساؤل بعد ذلك عن موقف المصادر والأُسس الاسلامية ازاء هذين النوعين من التعددية.

توجد آراء مختلفة فيما يخص الاجابة عن التساؤل اعلاه؛ فالمفكرون السابقون كانوا يعتقدون بأحقية مذهب واحد وبتفسير مذهبي واحد، ومن هذا كانوا يعتبرون بقية الملل والنحل خارجة عن اطار الهداية. وتذهب هذه الفكرة إلى القول بان الحقيقة واحدة لا تتعدد اوجهها، وبما انها واحدة فهي لا تتحمل الا الواحد، وهذا يعني ان الاديان الاخرى، أو المذاهب الاخرى غير الاسلامية ـ بطريق اولى ـ بعيدة عن الحقيقة. وهذا النوع من التفسير المذهبي ينساق وراء مقولات التعصب والتشدد حتى في الجزئيات وفروع المسائل(18).

وفي مقابل هذا الاطلاق المتزمت، هناك رؤية أخرى تؤكد التعددية المطلقة في المعتقدات الدينية وترى حتى الصراع بين فرعون وموسى نوعاً من التلاعب لالهاء السذج الذين لا يرون الا الظاهر، وايجاد نوع من الحيرة التي لا يشق طريقه فيها الا العارف بالاسرار وببواطن الامور. ويرى عبد الكريم سروش في مقالة ((الصراطات المستقيمة)) ان مثل هذا الفهم يعتبر كثرة اصيلة في الأديان، ويقول على اساس هذا المبنى ان عناوين الكافر والمؤمن مجرد عناوين فقهية ـ دنيوية صرفة، غرضها صرف انظارنا عن رؤية باطن الامور(19).

يذهب هذا النمط من التفسير للحقائق الدينية إلى ان الغبار المنبعث من اختلاط الحق والباطل قد سد الآفاق وسلب الابصار قدرة التمييز بين الحق والباطل. والمؤدى النهائي لهذا الرأي يتلخص في ان اجهزة الادراك البشري عاجزة عن التمييز بين الحق والباطل، ولهذا فهي تنساق إلى مقولة النسبية(20)، ويبدو على الصعيد العملي ان هذه النزعة النسبية تقفز بشكل مؤدب على مسؤولية نظم وادارة الحياة الاجتماعية؛ لان القول بان جميع الافكار صحيحة يعني على الصعيد العملي انه لا توجد ثمة فكرة خاطئة، مما يعني تلقائيا عدم امكان ترجيح فكرة أو اعتقاد معين يتم على اساسه وضع منهج لتنظيم الحياة الاجتماعية(21). الا إذا قلنا ان السبيل الممكن للحياة ـ في حالة عدم وجود رأي قاطع ـ هو بناء النظم السياسي الاجتماعي على الاجماع الحاصل من مداولات ومساجلات طويلة الامد في نطاق الشؤون العامة(22). ولكن هل يمكن ـ على فرض غياب أي مبنى واصول مشتركة ـ ايجاد مثل هذه المداولات والاجماع؟

توجد في باب التعددية العقائدية رؤية ثالثة تبدو اكثر عقلانية وقبولاً من النظريتين السابقتين وتؤكد على نوع من الموقف الوسط بينهما، وترى ان التعددية الدينية يمكن ان تكون مقبولة فيما إذا كان الافراد أو الجماعات يعتقدون ابتداءً ببعض الاصول والحقائق وينظرون اليها كأصول موضوعة وحقائق مشتركة، أو يتقبلونها على الأقل كافتراضات مسبقة واصول مسلم بها.

والحقيقة هي ان التعددية الدينية تصبح ممكنة فيما لو كان لدى الافراد والجماعات في مجتمع ما (اوجه اشتراك) و (اوجه تمايز) ويعتبرون الاول مفروضا، ويتنافسون على الثاني. واستناداً إلى هذه الرؤية تبدو التعددية خارج نطاق الدين غير منطقية عملياً.

ان التعددية تصدق فقط في اطار التعددية المذهبية (أي في داخل الدين الواحد)، ولا يمكن على الاطلاق حرمان المجتمع من الحقيقة القريبة من خلال تقديم صورة بعيدة كما تذهب بعض النزعات العرفانية النظرية والعملية(23).

يستند كل واحد من الآراء الواردة اعلاه في باب التعددية إلى نصوص وسنن اسلامية، نشير فيما يلي إلى اهمها:

سبقت الاشارة إلى ان النظرية الاولى لا تقبل أي نوع من المداهنة مع التعددية العقائدية، وتتخذ لنفسها ـ سواء في الفكر الشيعي أو في النصوص السنية ـ قوالب جافة من الاستدلالات والمستندات الروائية، ويعمد كل منها إلى نقض ورفض المصادر التي يعول عليها الطرف الآخر. نشير على سبيل المثال إلى ان المصادر الشيعية تستند إلى حديث الغدير فيما يخص تعيين الامام علي عليه السلام في منصب الامامة وتؤكد وجوب تعيين الامام من باب اللطف الالهي؛ روى الكليني عن الامام الصادق عليه السلام:

((ان الله اجل واعظم من ان يترك الارض بغير إمام عادل)) (24).

وفي مقابل هذا ينقل السنة احاديث ذات سند ودلالة معتبرة (عن طريق مذهبهم) تتعارض كلياً مع جميع الاستدلالات الشيعية، وتسعى إلى وضع حل للتناقضات السياسية الدينية بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله، حتى ان احمد شلبي انكر اساس وجود حادثة الغدير(25)!

قدمت النظرية الثانية في سياق معارضتها للاطلاق الوارد في النظرية الاولى تفسيراً للدين الاسلامي يفيد امكانية التعددية بين الاديان وداخل الاديان. وقد اشرنا إلى ان عبد الكريم سروش استقى مثل هذا التفسير للدين الاسلامي من خلال النزعة التساهلية في العرفان والتصوف، واستند في هذا السياق إلى الآية الشريفة (انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13) معتبراً اياها واحدة من الاسس القرآنية في التعددية والتعارف(26).

وعلى العموم ان الفهم الشهودي والكشفي للتعاليم الاسلامية لا يُستقبل بسهولة في المجتمع الحالي الذي يستسيغ الاستدلالات العقلية الكلامية والروائية الفقهية. اما على الصعيد العملي فقد اثبتت الافكار العرفانية عجزها عن تقديم نظام بديل في الحياة الاجتماعية(27).

وخلافاً للطريقة المذكورة آنفاً عرض ابو فارس ـ وهو من الكتاب الجدد ـ رأياً في باب التعددية العقائدية استند فيه إلى المسار المتعارف في الفقه السني، واستشهد بآيات قرآنية عديدة في تدعيم رأيه(28).

ويذهب في رأيه هذا إلى القول بان الجهاد جاء بهدف التحرير وليس من اجل التوسع(29)، معتبراً ان حرية العقيدة لا تختص بأهل الكتاب فحسب، بل تمتد حتى إلى غير الكتابيين مستدلاً على رأيه هذا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله جاء فيه: ((خذوا من المجوس ـ وهم من عبدة النار ـ الجزية واتركوهم على دينهم)) (30).

ويشير في هذا السياق إلى تجربة الحكومات الاسلامية في الهند، مؤكداً انها لم تسلب الهندوس حريتهم الدينية على الرغم من سيادتها على تلك البلاد مئات السنين، ويرى ان الهدف من اخذ الجزية والخراج من غير المسلمين هو توفير الأمن لهم وفي مقابل انتفاعهم من النفقات المصروفة في مؤسسات وأجهزة الدولة، ولا علاقة له بمعتقداتهم الدينية(31).

لا ترى النظرية الثالثة ان التعددية على درجة كبيرة من السعة. فالتعددية بين الاديان ـ حسب تصورها ـ لا تعني التعددية بين اهل الكتاب، بل تعني معايشة الاسلام مع الاديان غير الكتابية والمشركة، وهو أمر يتعارض مع مبادئ الدين الاسلامي؛ فليس هناك من قواسم مشتركة بين الاسلام والاديان والمذاهب غير الكتابية حتى يتم التوافق في ضوئها على الامور الاخرى، وتتخذ كمنطلق للتنافس. نذكر مثلا ان الالحاد والايمان، وفكرة فصل الدين عن السياسة، والقول بترابط الدين والسياسة، يوجد بينها تنافر كامل ويسعى كل واحد منها إلى الغاء المقابل كلياً. فما هو وجه التنافس الموجود بينها(32)؟

والآية الشريفة (ان الدين عند الله الاسلام) ترى ان الدين الوحيد المقبول عند الله هو الدين الاسلامي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله(33).

ب ـ التعددية السياسية:

المراد بالتعددية السياسية هو وجود الاحزاب والفصائل والتيارات السياسية التي يصب الناشطون السياسيون في قالبها آراءهم ومواقفهم السياسية(34). والهدف الاساسي الذي ترمي اليه هذه المؤسسات والتيارات الحزبية هو الوصول إلى دفة الحكم وتسنم المراكز الرسمية للسلطة السياسية في سبيل ادارة دفة الشؤون العامة على اساس رؤاها ومناهجها.

ففي المجتمع الذي توجد فيه تعددية، يتم ضمان الوحدة السياسية ـ الوطنية والقيم التي يؤمن بها ذلك المجتمع، على اساس مجموعة من الاصول والمبادئ المقبولة لدى جميع الفصائل والتيارات، ويحاول الحزب والتيار الحاكم بسبب ما يعيشه من تعارض وتنافس دائم مع التيارات الاخرى ان يقدم خططاً وبرامج توفر اقصى ما يمكن من مصالح الشعب، لغرض كسب اكثر مدى ممكن من الدعم الجماهيري.

ان وجود مثل هذه النزعة الجماهيرية في المجتمع المتعدد التيارات، يحقق غرضين مهمين:

الاول: نشر الوعي وتوسيع المؤسسات السياسية الشعبية.

الثاني: تقريب مصالح النظام السياسي إلى مصالح عموم الشعب(35). ويستطيع الحزب الحاكم في سياق التنافس مع الاحزاب المعارضة ضمان مصلحة الدولة من خلال تشخيصه وضمانه للمصالح العامة، والا فسينحى سلميا من دائرة السلطة والدولة.

يمكن تقسيم الاحزاب والفصائل السياسية إلى نوعين من التقسيم الهيكلي والعقائدي؛ اما من حيث التقسيم الهيكلي، فيمكن تقسيم الاحزاب إلى: احزاب اقليمية، واحزاب قومية. اما من حيث الاتجاه العقائدي فيمكن تقسيمها إلى:

أ ـ احزاب اسلامية.

ب ـ احزاب غير اسلامية.

المقصود بالاحزاب الاسلامية هو الفصائل والجماعات المؤمنة بالاصول العقائدية الاسلامية، ويمكن تقسيم هذه الاحزاب من حيث هيكليتها إلى احزاب اقليمية وأخرى قومية. والمنحى العام لهذه الاحزاب هو تأكيد ضرورة تطبيق الشريعة الاسلامية في الحياة(36). والمسألة الاولى المطروحة على بساط البحث في هذا السياق هي تعدد القراءات للنصوص الدينية من جهة وتعدد المفسرين من جهة أخرى. وهذه الحالة تؤدي بأبناء الشعب إلى اتباع هذا المفسر أو ذاك، وهكذا تتبلور اسس التعددية الفكرية السياسية في المجتمع الاسلامي(37).

وفي ضوء الخصائص المذكورة للاحزاب الاسلامية، يمكن أيضاً تقسيمها إلى احزاب دينية ـ مذهبية، وأخرى فقهية ـ اجتهادية. وسنتناول في السطور اللاحقة دراسة ماهية وأساليب نشاط هذا النوع من الاحزاب الدينية.

اما الاحزاب غير الاسلامية فلا تؤمن بالاصول العقائدية للاسلام، وتنكر احقية الدين الاسلامي ولا تتمسك بشريعة الرسول صلى الله عليه وآله، وتقسم من حيث معتقداتها إلى ثلاث فئات: احزاب كتابية، واحزاب غير كتابية، واحزاب علمانية

التعددية السياسية في الدولة الاسلامية

يختلف موقف الاسلام على اساس منطلقاته العقائدية ازاء التعددية بالنسبة إلى الاحزاب الاسلامية وغير الاسلامية. ويبدو ان الدولة الاسلامية لها موقف سلبي ازاء الاحزاب غير الاسلامية، اما بالنسبة إلى الاحزاب الاسلامية فموقفها على العموم موقف ايجابي.

الاحزاب غير الاسلامية

لا يجيز المجتمع الاسلامي التعددية المطلقة في ميدان السياسة، بمعنى انه لا يبيح للاحزاب غير الاسلامية ممارسة نشاط مضاد لنشاط الاحزاب الاسلامية؛ ومعنى هذا ان الاحزاب غير الاسلامية، سواء كانت كتابية أو غير كتابية أو علمانية، لا يحق لها ـ بسبب رفضها للقيم والاخلاق والشريعة والقضاء والحكومة الاسلامية ـ ممارسة نشاطها، وذلك للأسباب التالية(38):

1ـ ان التعددية السياسية هدفها اقناع الشعب بتطبيق مبادئ واهداف وبرامج الاحزاب؛ ومن البديهي ان احد أسس الاحزاب غير الاسلامية هو مناهضة القيم الاسلامية، في حين ينص دستور الدولة الاسلامية على حماية الدين ونشر القيم الدينية.

2ـ تهدف الاحزاب السياسية غير الاسلامية إلى نشر اسسها العقائدية والتمهيد لابعاد الناس عن الدين وتوفير اسباب الارتداد عن الدين، ونظراً إلى ان الفقه الاسلامي يوجبقتلالمرتد،فانهذا الأمر يتنافى مع النظم الاجتماعي المدني والسياسي، ويتعارض مع احكام الارتداد في الشريعة الاسلامية.

3ـ ان غاية التعددية السياسية هي ممارسة النشاط المنظم من قبل الناشطين السياسيين في داخل النظام والدولة الاسلامية، وعلى هذا فان اساس التعددية السياسية يقوم على مبدأ التمسك بالدستور وسائر قوانين الدولة، ومن الطبيعي ان دستور الدولة الاسلامية مبني على القرآن وسائر النصوص الدينية والسيرة والاجماع. وهذه كلها ترفض ظهور حزب سياسي غير ملتزم بالعقيدة الاسلامية.

4ـ احدى القواعد الاجتماعية والعقائدية لدى المسلمين هي الحيلولة دون تسلط الكفار على المسلمين: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) (النساء: 41)، في حين ان أي حزب غير اسلامي إذا اتيحت له فرصة الاستيلاء على السلطة يعمل خلاف القاعدة اعلاه، ويمهد اسباب الاستخفاف بالدين وبأعراض وأموال المسلمين.

يجمع المسلمون على ان الحاكم الاسلامي إذا ارتد يجب عزله؛ قال محمد رشيد رضا في تفسير المنار:

((ان الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتد عن الاسلام واجب. وان اباحة المجمع على تحريمه كالزنا والسكر واستباحة ابطال الحدود وشرع ما لم يأذن الله به كفر وردة)) (39).

ونقل العلامة الحلي في شرح الباب الحادي عشر عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً)) (40).

وجاء في القرآن الكريم:

(ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك اصحاب النار) (البقرة: 214).

وجاء في موضع آخر منه أيضاً: (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (الرعد، 51).

الاحزاب والجماعات الاسلامية

يقر الدين الاسلامي التعددية السياسية المبنية على اصول العقيدة والشريعة الاسلامية، وتعتقد الاحزاب السياسية في اطار هذا النوع من التعددية بحاكمية الله وتلتزم بعدم مخالفة مبادئ الدين الحنيف، وتعتبر هذا الدين هو المصدر الوحيد للتشريع وتعلن انها لن تحيد قيد انملة عن اصول الدين وأُسس الشريعة فيما لو قيض لها مسك زمام السلطة السياسية(41).

ومن جملة التقسيمات التي اشرنا اليها فيما يخص الاحزاب الاسلامية التي تعمل على النطاقين الاقليمي والوطني هي امكانية تقسيمها إلى احزاب دينية مذهبية، وأخرى فقهية اجتهادية. ومع ندرة الكتابات والآثار حول التعددية الاسلامية، أو ربما لا توجد لدينا اية نصوص في هذا المجال، يبدو ان هذه المسألة لو طرحت على نحو صريح في المحافل الدينية وخاصة في الظروف الراهنة التي اخذت فيها سياسة التقريب بين المذاهب في العالم الاسلامي طابعاً اكثر جدية، لا تبقى ثمة فاصلة كبيرة على طريق كشف القواعد الكلامية والفقهية للتعددية الاسلامية.

وفي الوقت ذاته تقف الاختلافات التاريخية ـ الكلامية بين المذاهب الاسلامية عائقاً بوجه التعددية القائمة على اساس التعددية الدينية ـ المذهبية، بينما لا تواجه الاحزاب الفقهية ـ الاجتهادية التي تتبنى الاصول الكلامية لمذهب اسلامي معين، مشكلة اصولية وبنيوية في هذا المجال.

اما الاحزاب الفصائل السياسية التي تؤمن بالمذهب الشيعي فهي لا تكاد تختلف وتتنافس فيما بينها الا في اساليب الحكم وادارة شؤون البلاد، وهذه الاختلافات غالباً ما تكون ناتجة عن تباين الآراء الفقهية، أو حاصلة من مرجعية الشعب في معرفة وتعيين الموضوعات السياسية المقبولة في نظام الفقه الاسلامي(42).

ان التعددية الاسلامية من النوع الاخير التي يمكن تسميتها بالتعددية الفقهية الاجتهادية أيضاً، تشكل فيها الآراء الاجتهادية للنخبة الدينية السياسية ـ واقصد العلماء والمجتهدين الناشطين في ميدان الدين والسياسة وكذلك الجماعات المتعمقة في المجالات السياسية أو المطلعين في شؤون السياسة ـ اساس النشاطات الحزبية. وتتحدد مدى قدرة هذه النخبة في المنافسة والمشاركة في حقل الدولة والسياسة، على اساس عدد المؤيدين لها بين ابناء الشعب.

وخلاصة القول هي ان التعددية السياسية في الدولة الاسلامية تعني ان الحزب السياسي يمارس نشاطه في سياق استقطاب الشعب واقناعهم بصحة وجدوى برامجه في حال تسنمه السلطة.

الجزء الثاني

……………………………….

الهوامش

* هذه المقالة ملخص لدراسة قدمت إلى دائرة الفكر الاسلامي في مركز الدراسات الاستراتيجية تحت عنوان ((الأُسس الفقهية للتعددية السياسية في الدولة الاسلامية)).

** باحث من الحوزة العلمية في قم ودكتوراه في العلوم السياسية.

3 راجع على سبيل المثال:

Hamaih Arabut, The Crisis in Culture: Between Past and Future (Meddlesex, England: Penguin Book Ltd, 1964. P. P. 197- 227.

4 برهان غليون، نقد السياسة الدولة والدين (بيروت، مؤسسة التربية، 1986) ص 207.

5 R. Dahl. Plurality, OP, Cit, P.P. 124- 183

6 نفس المصدر.

7 برتران بديع، توسعه سياسي، ص 28.

8 عبد الكريم سروش، ((صراطهاي مستقيم)) مجلة كيان، العدد 36.

9 عدون جهلان، الكفر السياسي عند الاباظية، ص 5 ـ 184.

10 برهان غليون، مصدر سابق، ص 111.

11 داود فيرحي، ((فرد ودولت در فرهنگ سياسي اسلام))، مجلة ((نقد ونظر)) العددان 3 و 4، ص 7 ـ 44.

12 المصدر نفسه، ص 55.

13 راجع: حسن عباس حسن، الصياغة المنطقية للفكر السياسي الاسلامي، ص 45 ـ 80.

14 المصدر نفسه، ص 45.

15 محمد مجتهد شبستري، ((فرآيند مهم متون)) مجلة ((نقد ونظر))، السنة الاولى العددان 3 و 4، ص 44.

16 محمد تقي جعفري، ((بلوراليسم ديني))، مجلة نقد ونظر، السنة الثانية، العددان 3 و 4 ص 333.

17 تعددت الآراء الكلامية في كل من الاسلام والمسيحية ونجمت عنها نزاعات مذهبية شديدة. وكانت هذه الآراء تعتبر وحدة الحقيقة سبباً معقولا لضرورة توحيد التوجهات الاجتماعية. وادت من خلال تطبيقها الدقيق للامر الواقع حسب فهمها الذاتي لـ ((الحقيقة)) إلى اثارة الحروب المذهبية. وكان لهذه الاحداث ماض عريق في كل من الاسلام والمسيحية. ويمكننا الاشارة على سبيل المثال إلى هجمات الوهابيين على العتبات الشيعية المقدسة في الحجاز والعراق.

18 عبد الكريم سروش، مصدر سابق.

19 المصدر نفسه.

20 المصدر نفسه.

21 للاطلاع على مزيد من المعلومات راجع:

Yurgen Habermas, The Theory of communicative Action, Trans. by: Thomas MacCarty (Boston Becon Press, 1968).

22 محمد تقي جعفري، مصدر سابق، ص 330 ـ 335.

23 بحار الانوار، ج 23، ص 42، الرواية 81، الباب 1.

24 احمد شلبي، السياسة والاقتصاد في التفكير الاسلامي (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1967) ج 2، ص 68.

25 عبد الكريم سروش، مصدر سابق.

26 على سبيل المثال لاحظ تردد الدكتور سروش في تقديم نظام سياسي بديل في مقالة ((حكومت ديني)).

27 محمد عبد القادر ابو فارس، التعددية السياسية في ظل الدولة الاسلامية، ص 13.

28 المصدر نفسه، ص 19.

29 المصدر نفسه، ص 18.

30 المصدر نفسه، ص 19 و 20.

31 محمد تقي جعفري، ((بلوراليسم ديني)) مصدر سابق، ص 332.

32 المصدر نفسه، ص 334.

33 Lester. W. Milbrath, Political participation, Op. Cit. P.

34 lbid.P 147

35 نفس المصدر.

36 ابو فارس، التعددية في ظل الدولة الاسلامية، ص 24.

37 راجع مجلة: ((نقد ونظر)) العددان 3 و 4، ص 347 وما بعدها.

38 ابو فارس، مصدر سابق، ص 9 ـ 34.

39 محمد رشيد رضا، تفسير المنار (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973م) ج 6، ص 8 ـ 367.

40 العلامة الحلي، النافع في شرح الباب الحادي عشر، ص 70.

41 تنص المادة 26 من دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية على ما يأتي:

((للاحزاب والجمعيات والنقابات الحرية التامة في العمل السياسي، بشرط ان لا تنقض اصول الاستقلال، والحرية، والوحدة الوطنية، والموازين الاسلامية، وأساس الجمهورية الاسلامية. ولا يجوز منع احد من المشاركة فيها، أو ارغامه على الدخول في أي منها.

42 محمد تقي جعفري، مصدر سابق، ص 343.