عندما نظرت الى صور شبان جرجيس لم أجد في عيونهم سوى مزيجا من براءة الطفولة وشقاوة بداية الشباب الجميلة. لم ألقى ما رموهم به وكتبوه في تقاريرهم، ولكنني لقيت ذكرى مريرة من ذكريات طفولتي الشاحبة. لقيت وجهي الصغير يغلفه الخوف والدموع، وصفعات رئيس المركز تنزل عليه نزول السياط. رأيت الزنزانة القاتمة التي قضيت فيها ليلة كاملة وعمري اثني عشرة سنة.

ما زلت أعتقد أن رجال الأمن يحمون الوطن . رأيت المكنسة الطويلة التي أمروني أن أمسح بها المركز، وحذاء عون الفرقة المختصة يركلني لأسرع اكثر. ذنبي أكبر من إن يغفر، فقد قالوا لي أن أبي ينتمي الى جمعية غير مرخص فيها، وهل يغفر لإبن إنتماء أبيه الى جمعية غير مرخص فيها في وطني الجميل ؟ طبعا أنا لم أجادل في ذلك فالقانون فوق الجميع.

أجل، أبي كان ينتمي الى حركة غيرمرخص فيها وكان يمثل خطرا على بلدناالأمين، فهو يصلي المغرب والعشاء في المجسد، بل وقد يصلي الفجرأيضا في المسجد. أبي النصف أمٌي, بشاشيته الحمراء التي يخجل من نزعها، كان يخطط للإ ستيلاء على السلطة وكان يقضي كل وقته، عندما يطيب لنعاجه المرعى ، في الإعداد لجريمته الكبيرة.

لكن المرابطين على ثغور هذا الوطن، أوحماة الحمى كما يقول نشيدنا الرسمي، أدركوه قبل أن يستفحل داءه. ولو لم يدركوه لأدخل تونس في متاهات من الظلمات وعاد بها إلى القرون الوسطى. تصوروا لو حق لأبي، الذي لم يزر في حياته تونس إلا يوم استقبلوه في وزاراة الداخلية، ما أراد لهدمت كنائس وبيع و لهلك أمر الأنعام و العباد.

وقد نال أبي جزاؤه،و أي جزاء. ألسنا نحن من نقول فلاعاش في تونس من خانها. لمٌا رأيت ما حدث لأبي ، لي أنا، لأمي و لجدتي علمت أننا قوم لا نقول هذرا. قدموا الى بيتنا ليلا كجنود الخفاء، بعثروا كراسيسي المدرسية، معذورين فقد يخفي فيها أبي أفكاره الهدامة، وفتحوا صناديق أمي التي تعتقد أنها جميلة و التي تحفظ فيها ذكريات أيام زواجها الأولى ، زواج لم يجلب لها سوى الفقر و الخوف.

و كانوا محظوظين جدا فقد وجدوا أدلة الإدانة قبل أن ينجح أبي في إخفاءها، حقا إن يد الله معهم. وجدوا ثلاثة كتب لا ينفع معها محام و لا دفاع، والقضاة في بلادي لا يأخذون الناس بالظنة بل بالبيٌنة. وجدوا عندنا كتاب السفينة القادرية وكتاب سقوط غرناطة وكتاب قرآن كبير الصفحات والحروف، أشتراه جدي ضعيف البصر عندما ذهب للحج و كنت أفاخرأقراني بأن لجدي كتاب أكبر من كتب أجدادهم.

صفعوا أبي في حضورنا وحضور أمي وجدتي، وأخذوه معهم. ثم عادوا بعد يومين ليأخذوني أنا ليسألوني أين ذهب أبي وأين يذهب أ بي و أين سيذهب أبي و متى ذهب ومع من ذهب وماذا قال وماذا لم يقل وماذا رأيت وماذا لم أرى، طبعا مع أمثال أبي كل معلومة لها قيمتها وقديما قالوا خذوا الحكمة من أفواه صغاركم.

بعد أن خرج أبي من السجن، قال أنهم لم يتجاوزوا معه الصفع و الركل. أنا طبعا أصدقه، فهم أشهم من أن يتجاوزوا حدوداللياقة مع رجل كبير السن مثل أبي لا يوحي منظره إلا بالطيبة. أبي لم يفرح ببضع الحرية التي أعادوها اليه، فقد وجد أن جدتي فقدت عقلها في غيابه. جدتي التي أنجبت ثلاث ذكور توفي منهما إثنان في ريعان الشباب.

ثم أخذت الحكومة، أهلكها الله كما تقول، ثالثهما وتركت لها عائلة أيتام وعائلة أبناء سجين لتعول. من حسن حظها أن عمي الآخر توفي قبل أن يتزوج و إلا لكانت الطامة الكبرى. جدتي صبرت في البداية وكانت تُصبر أمي التي أصبحت كالطيف من الكآبة والأمراض، لكن مع طول المدة وطول الحصار إنهارت كما ينهار الطود في سرعة وشدة ولم تعد تفرق بين الليل و النهار، بل لم تعرف أبي الذي كانت تهذي بإسمه في أول مرضها عند عوته، لكنها ظلت الى أن أخذها االله إلى جواره تدعوه إلى أن يهلك الحكومة وتروي في قصص متداخلة كيف كانت تحضر البسيس لجدي رحمه الله ليحمله الى المقاتلين في الجبل وكيف أخفت ذلك الجريح الذي أتى به جدي يوما تحت كومة التبن وكيف عندما جاء الفرنسيون يبحثون عنه أعماهم الله عنه كما تقول.

ماتت جدتي مؤمنة قبل أن يحقق لها إبنها زيارة بيت الله الحرام، أعز ما تتمنى فكل الجدات حججن إلا هي. لكنني أظن أنها كانت دائما تتساءل لماذا أخفى الله ذلك الجندي الغريب عن الفرنسين ولم يخفي أبي عن الحكومة .

في وجوه أبناء جرجيس رأيت نفسي وفي وجوه أمهاتهم رأيت أمي وجد تي وفي مصابهن رأيت أن الله لم يستجب بعد لدعوات جدتي وأننا مازلنا في نصف الأية الذي يقول “سنمتعهم قليلا”, فماذا أقول؟ ماذا أقول أنا الذي لم يعرف من التعذيب سوى بضع صفعات تركتُ بعدها الصلاة لمدة أربعة عشرة عاما ؟ ماذا أقول و أنا الذي لم يمكث في الزنزانة سوى ليلة واحدة أصبح بعدها من أكبر المدافعين عن فكرة أن طاعة الأولياء من طاعة الله ؟ ماذا أقول أنا الذي لا يجرؤ على الكتابة إليكم بإسمه الحقيقي حتى لا يرى أمه المريضة كما رأى جدته ؟ لا أملك أن أقول إلا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صبرا آل جرجيس فإن موعدكم الجنة


البدوي.