ridha-Belhaj-nidaa

لا شيء يثير غيض رضا بالحاج غير سؤال من هو رضا بلحاج. فالطفل الرابع في أسرته سئم أن يكون تعريفه مرتبطا دائما بالآخر، فهو في صباه الأخ الرابع الذي يعيش في ظل إخوته ويعرّف بهم، وهو ما استمر معه في المراهقة التي انتهت به مع من انطلق، زوجته التي رافقته منذ ذاك التاريخ ورأت ما لم يراه بالحاج في نفسه. رضا بالحاج اليساري بالصدفة وبالقرابة سعى منذ الصبى لأن يثبت للكلّ أنه الأصل وليس الفرع، وأنه القائم وليس ظلّه، وأنه سيد نفسه لا تابع لأخ أكبر واوسط ولا لعميد المحماة ولا لرئيس ونجله.

لا أنصار له أو معجبين قبل 2011

فالشاب المتردّد التحق بكلية الحقوق في ثمانينات القرن الماضي، في عنفوان المواجهة مع نظام بورقيبة المهترء، فلم يجد حضوة ولا موقعا تحت الشمس، فقد ظل حبيس سجن إخوته الأكبر منه، حيث طغى إشعاعهم على الأخ الأصغر وجعلوه هامشا في البيت والحي والمعهد وفي الساحة السياسية، التي لم يتعلم رضا كيف يتأقلم معها فظلّ على هامشها طويلا.

بلحاج صاحب التاريخ الموغل في الهامش لا أنصار له أو معجبين قبل 2011، فمن يعلمون اسم الرجل لا يتجاوزون أصابع اليد ومن يعلمون سيرته أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، بمن في ذلك أبناء مهنته، المحاماة التي احترفها في أواخر الثمانينات بعد عودته من الجزائر التي ظل بها أكثر من سنتين لا أحد غيره يعلم ما فعله هناك.

بقاؤه في الهامش طال أمده، فلم تسعفه محاولات كسر عزلته في أن يصبح ذو شأن لدى القاصي والداني. فحاول المحامي في بداية الألفية الثالثة، أن يجرّب حظه في النشاط الجمعياتي فالتحق بمنظمة الشفافية ونشط صلب عمادة المحاماة وكان من أشد معارضي البشير الصيد عميد المحامين التونسيين لدورتين 2001-2004 و2007-2010. معارضة البشير الصيد ومحاولة الإقتراب من حركة التجديد ونشاطه في مهنة المحاماة لم تؤّثث سيرة الرجل ولم تجعل الرقاب تُدار اليه، فقط وحده عميد المحاميين السابق عبد الرزّاق الكيلاني، أبصره ذات يوم وظلّ محفورا في ذاكرته التي أسعفت العميد بأن يتذكّر الحالم بالمجد وبالإعتراف.

فكان الخيار الأخير للعميد ليمثُل قطاع المحاماة، حينما طلب منه محمد الغنوشي، الوزير الأول عقب الثورة، أن يرشح أسماءا لمحامين يقع إلحاقهم بالتشكيلة الحكومية كمستشارين وكتّاب دولة. ولأن الظرف العام دفع بكبار المهنة إلى رفض التورّط مع حكومة الغنوشي الأولى والثانية، لم يبقى في قائمة الكيلاني غير رضا بلحاج فرشّحه لمنصب مستشار في الحكومة.

مُنح منصب وزير مستشار لدى رئيس الحكومة، فبات من الخاصة

الفرصة تُمنح للحالم مرّة، تلقف محامي التعقيب رضا بلحاج الهدية ودافع عن حظوظه في أن يكون الذراع اليمني للحكّام الجُدد، فمن ترشيح لمنصب رسمي ظفر الرجل بمنصب غير رسمي في حكومة الغنوشي الأولى غير أن الرياح التي اقتلعت تلك الحكومة دفعت ببلحاج إلى فوق، فبات منذ تاريخ 10 فيفري 2011 الكاتب العام للوزارة الأولى بعد مضي 24 يوما على تشكيل حكومة الغنوشي الثانية.

بلحاج المُدين للصدفة وللفراغ تشبّث بما حققه من «إنجاز» ظنّ أنه سيُتبع بالتوقير والإعتراف له بأنه الأصل وليس الهامش، ولأن الأحلام لا تدوم، هزّت الرياح ثانية حكومة الغنوشي وظنّ بلحاج أن أيام حظّه قد ولّت وأنه عائد لظلامات الهامش لولا ما أبصراه فيه الباجي قائد السبسي وصاحبه آنذاك كمال اللطيف من شخص خدوم. مُنح منصب وزير مستشار لدى رئيس الحكومة، فبات من الخاصة.

نشوة الـ300 يوم التي قضّاها رضا بلحاج في القصبة وتدرجه في المراتب سكنت لجاجته وجعلته وهو «المتعفّف» عن السياسة يتوه في شعابها ويصبح ـ ظنا منه ـ السياسي الفذ ذو العقل الراجح. وهي صورة نفخ فيها البعض ممن أدرك أن الرجل يمكن التحكم فيه بكلمات تحمل التوقير والإعتراف له بأنه من فلتات الزمان. هذه الكلمات التي أسمعها الباجي قائد السبسي لمرافقه وذراعه اليسرى رضا بلحاج سلبت لب الرجل وجعلته أشد المدافعين عن أحلام الباجي الأكبر فكان من النواة التي أسست حركة نداء تونس بعد الخروج من القصبة، وهو خروج سبقه إمضاء قرار تعين زوجة بلحاج كرئيس للمحكمة الإدارية.

لُبّ بلحاج الذي تملّكه الباجي الأب جعل الرجل يكون من الـ11 مؤسسا لحركة نداء تونس وجعلته حافظ سر آل الباجي قبل أن يصطدم في فترة مبكّرة بأحلام نجل الرئيس الباحث عن مكانه تحت جلباب أبيه. فوجد في بلحاج منافسا مما عجل بالصدام بينهما الذي تفاقم ليصبح صداما بين هياكل الحزب، فالمدير التنفيذي بلحاج ومدير إدارة الهياكل المركزية حافظ وجدا نفسيهما في حتمية الصراع على من يسيطر علي مفاصل الحزب ولبّ الأب. صراع دفع بلحاج للخروج أسابيع قليلة قبل الإنتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014 و التلويح بمغادرة الحركة التي كان من مؤسسيها وإعلانه الحرب على «التوريث»، يومها وتجنبا لتصدع القارب وغرقه، أرضى السبسي الأب رضا وأقنعه بالعودة للحزب وبالكف عن الصدام مع الإبن وأسرّ له بأنه ركن من أركان بيت آل الباجي وركيزة من ركائز الحكم القادم.

رغبة بلحاج الجامحة في الإعتراف

تحقيق الذات، النجومية وشبه زعامة أسكنت رغبة بلحاج الجامحة في الإعتراف، ولكن جاه السلطان يُغري، فأغري الرجل وانسحب للقاع تدريجيا، فبعد أن خفت البريق وتوارى رضا لأشهر عن الصراع في الحزب يضمن مكانه في قصر قرطاج كمدير لديوان الرئيس، قرر أن الوقت قد حان ليغنم هو مكاسب القادم. فالرجل حديث العهد بالسياسة ظن أن استقرار الأمر إليه وتخلصه من غريمه الأوّل في قصر قرطاج قد جعله بلا منازع المرشح القادم لتزعم الساحة السياسية، فانطلق في بسط نفوذه من قرطاج التي شهدت صداما بينه وبين الأزهر القروي الشابي الرافض لأن يكون تحت وصاية الذراع فالرجل بالنسبة إليه «نكرة».

بسط النفوذ باسم قصر قرطاج والتحكم في تفاصيل المشهد السياسي والتحالف مع غريميه السابقين، حافظ قائد السبسي وشفيق جراية هي القاطرة التي ظن بلحاج أنها ستحمله إلى سدة الحكم، فوضع يده بيد نجل الرئيس للسيطرة على الحزب واقصاء من يظن أنه قد ينافسه في المستقبل، وشرع يعد نفسه وأنصاره لأن يكون هو «الزعيم» بعد أن كان طول تجربته ظل الزعيم. فبلحاج منى نفسه بأن يكون هو مرشح حركة نداء تونس في الإنتخابات الرئاسية القادمة، بعد أن ينفض كل المنافسين المحتملين عن الحزب بصدامهم مع نجل الرئيس.

ظِلّ الزعيم الذي نزل بثقله في صراع الشقوق في حزبه وانتهى به الحال إلى الإنقسام بات رسميا بعقد مؤتمر سوسة 9 و10 جانفي 2016، وجد بلحاج نفسه وحيدا امام قضاه، مُحاطا بذئاب تنظر إليه على أنه فريستها القادمة، فأجبر على الإستقالة لأن طموحه بات أكبر مما يسمح به «الأب».