المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

tunisie-nous-sommes-ici-nous-sommes-partout

استضاف الفضاء الثقافي مدار قرطاج عشيّة الأحد 17 أفريل العرض ما قبل الأوّل لفنّان السيرك التونسي محمّد دجبّي تحت عنوان ”نحن هنا… وفي كلّ مكان“ (Nous sommes ici, nous sommes partout). عرض شدّ انتباه الحاضرين بمختلف أعمارهم وأبهرهم خاصّة وأنّ هذا النّوع من الفنون غير معروف وغير مألوف لدى الجمهور التونسي فيما عدى العروض المناسبتيّة المقامة من قبل الأجانب في أطر خاصّة جدّا.

محمّد دجبّي (30 سنة) هو أحد خرّيجي الدفعة الأولى للمدرسة التونسية لفنون السيرك التي أنشأها المسرح الوطني التونسي تحت إشراف محمّد إدريس. قابلته وبحثت معه في تاريخ تجربته.

البدايات

ظروفه الاجتماعيّة القاسية هي التّي دفعته إلى الانقطاع عن الدراسة في سنّ مبكّر جدّا (السابعة أساسي) للعمل. اشتغل في محلّ لبيع أشرطة الفيديو حيث اكتشف أفلام فنون القتال وأعجب بها. انطلق في التمرّن بنفسه وتقليد حركات أبطال الأفلام. في سنّ الخامسة عشرة، تقدّم لأوّل تجربة أداء فتحها المسرح الوطني لاختيار أوّل دفعة لمدرسة فنون السيرك. وتمّ اختياره فيها. سنة كاملة من التكوين المستمرّ بإشراف العديد من أساتذة المسرح والرّقص دون الانطلاق فعليّا في الإعداد لمشروع عرض للسيرك. بالنسبة لمحمّد، كان همّه الوحيد وقتها تطوير قدراته وبناء ذاته كعارض سيرك فنيّا وجسمانيّا.

بعد ذلك، فتحت مناظرة أخرى بالشراكة مع منظمة فرنسيّة لاختيار عارضي سيرك. شارك فيها حوالي 120 شابة وشاب وتمّ بعدها انتقاء 20 منهم (ومن بينهم محمّد دجبّي) انطلقوا فعليّا في خوض تجربة فنون السيرك. وكان أوّل عرض فرجوي لفنون السيرك بعنوان ”الحسد الجميل“.

في 2007، تخرّج محمّد ضمن الدفعة الأولى لمدرسة السيرك بتونس وتحصّل على ديبلوم في هذا المجال. وتمّ إنتاج عرضي ”الحلفاوين“ بنسختين مختلفتين. عمل فنّي لاقى استحسان الجميع ما دفع إحدى المؤسّسات الثقافية الفرنسيّة ROUGE إلى تبنّيه ومحاولة تطويره. بمساعدة منها تمّ إنتاج عرض ”الحلفاوين 3“ الذي تجاوز الصعيد الوطني ليُقدّم في أوروبا وكندا وفي العديد من الدّول الأخرى. نجاح غير متوقّع دفع المؤسّسة الفرنسيّة للتفكير في إعداد نسخة رابعة من العمل قادرة على منافسة كلّ مدارس السيرك العالمية. ويعود ذلك بالأساس للمهارات الجسدية التي يتمتّع بها الشباب وإلى شغفهم وإيمانهم بقيمة ما يقومون به. خلال هذه الفترة، اضطرّ محمّد للاستقرار في فرنسا للعمل دون الانقطاع عن المشاركة في العروض.

لكن، سنة 2011 غيّرت مجرى الأحداث بعد خروج محمّد إدريس من المسرح الوطني. انقطعت المجموعة عن التمارين وبطًلت برمجة العروض. اضطرّ محمّد دجبّي إلى مواصلة مسيرته بمفرده فانتقل إلى تركيا وعمل هناك في أطر خاصّة دون الانقطاع عن التمرّن والتكوين. بطول المدّة، أصبحت مكانته مرموقة في هذا المجال خاصّ وأنه من القلّة القلائل في العالم الذين يمشون على الحبل في ارتفاعات شاهقة. شارك في العديد من التظاهرات العالمية تلقّى تكوينات مختلفة في فنون السيرك وفي الديكور.

عاد إلى تونس في 2014 بتجربة تخوّل له بعث الروح في هذا الفنّ من جديد لدى الشباب التونسي.

لمَ العودة ؟

يقول محمّد:

كلّ النجاحات التي حقّقتها في جميع الدول التي زرتها جعلتني أؤمن بقدراتي. صار السيرك مشروع حياتي. لي الحقّ الآن في أن أصنع هذه التجربة على طريقتي كما أراها وكما أريدها. فتح لي السيرك أبوابا عدّة، ومن حقّي البحث عن آفاق لي فيه. من جهة أخرى، أكتفي ممّا عشته غريبا في كلّ أصقاع الأرض وحان وقت الاستقرار دون الابتعاد عن المشروع.

خالفت مجريات الواقع كلّ توقّعات محمّد دجبّي: مدرسة السيرك أغلقت أبوابها، أغلب الزملاء والأصدقاء انقطعوا عن هذا المجال فدخلوا في تجارب فنيّة أخرى أو انصاعوا لإكراهات الحياة، طيّ ملفّات مدرسة السيرك بتغيّر الإدراة… كلّ هذا لم يثن محمّد عن البحث عن سبل لتحقيق حلمه. عاد شيئا فشيئا إلى الساحة وتعرّف على الناشطين في مجال الرقص والكوريغرافيا، كما قام بربط علاقات بالمولعين بالتعبير الجسماني من المتكونين أو حتّى العصاميّين. وشيئا فشيئا، تمكّن العودة إلى العمل على إنجاز عرضه رغم الصعوبات الماديّة ونقص الإمكانية.

نحن هنا… وفي كلّ مكان

هذا العرض هو عبارة عن عالم أحلام تعيشه فتاة صغيرة بين شخصيّات خيالية تتجاوز بها منطق الجاذبية والثقل وتبحر بها في فنون الحركة والتعبير الجسماني. حبال وأقمشة معلّقة، عمود مثبّت وآخر غير ثابت، عجلة دائريّة… كلّ هذه الأدوات طوّعها 15 شابّا للإثارة والفرجة حسب ما تقدّمه أجسادهم وذواتهم داخل فضاء الرّكح.

ous-nous-sommes-ici-nous-sommes-partout-2

إيمان محمّد بمشروعه يجعله يتحاشى الوقوع في ترّهات الخلافات الشخصيّة. فهو لا يعادي أحدا ولا يطمح لتشويه أيّ كان. وهو يعتبر أنّ دعم العروض الفنيّة حقّ لكلّ مبدع تونسي لا يجب التخلّي عنه. وغيابه قد يعطّل سيرورة العمل الإبداعي. لكن، لن يمنعه من أن يرى النور.

يضيف محمّد في النهاية:

كنّا في بداياتنا حالمين وقادرين على خلق عالم فنّي جديد. الدليل على ذلك بروز أسماءنا خارج حدود القطر. من حقّ هذا الجيل الجديد أن يحظى بما لم نحظ به نحن. وسأسخّر لهم تجربتي ووقتي وسننجح جميعا في خلق فنّ سيرك تونسي ناجح بامتياز.