المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لقدت شهدت فترة الحكم الإستعماري الفرنسي لتونس إرتكاب العديد من جرائم غير إنسانية وغير أخلاقية مازالت مخلفاتها المأساوية تؤثر في الذاكرة التونسية من الناحية المعنوية، وفي الإقتصاد و السياسة المحليتين من الناحية المادية. أناقش في هذا المقال تداعيات تصريحات رئيسة هيئة الحقيقة و الكرامة، سهام بن سدرين، خلال الجلسة العامة لمناقشة ميزانية الهيئة والتي اشارت فيها إلى وجود ملفات وأدلة تدين فرنسا في جرائم حرب ارتكبت في عهد الجنرال ديغول. ماأود طرحه هنا (وما اتمناه خاصة) أن هذا التصريح العلني لبن سدرين (ولو أنه مر مرور الكرام لأن اعلامنا الرسمي كان منشغلا كثيرا بالإحتفال بالمولد النبوي) يمكن أن يشكل نواة هامة لبداية طرح ملف محاكمة وادانة جرائم فرنسا الإستعمارية. إن إختلاف تركيبة المشهد السياسي والديمقراطي في تونس عن نظيرتها الجزائرية مثلا (كمرجعية تاريخية مهمة في هذا المجال) قد تؤدي إلى إمكانية إحداث مفاجأة التطرق الجدي والعملي لهذا الملف الشائك والمعقد.

ضبابية تصريح بن سدرين و لعبة الضغط السياسي

المتمعن في تصريح بن سدرين أمام مجلس النواب حول عثور الهيئة على وثائق تؤكد قيام فرنسا بانتهاكات وجرائم حرب وخرق لاتفاقية جنيف يتأكد من ضبابية الموقف. فمن ناحية، تطرقت إلى تفاصيل مهمة كفيلة بخلق توتر دبلوماسي بين تونس وفرنسا خاصة وأنها أعلنت على وجود وثائق تأكد ضلوع الجنرال ديغول في عملية القصف على جهتي بنزرت ومدنين التي خلفت العديد من القتلى والضحايا بين المدنيين بالأساس. أعتقد أن موقف بن سدرين يعتبر سابقة تاريخية إذا أخذنا بعين الإعتبار انه إقترن بتنصيص رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة (التي تحضى جلساتها وأعمالها بالكثير من الإهتمام الإعلامي والسياسي الفرنسي والعالمي) على أن الملفات التي بحوزة الهيئة كفيلة ”بجبر فرنسا على الاعتذار لتونس وجبر الضرر للضحايا التونسيين.“ هذا تصريح علني مهم للغاية إن إقترن بجدية فعل المتابعة.

من ناحية أخرى، وهنا يكمن مغزى وصفي لتصريحها بالضبابي، حرصت بن سدرين على التأكيد على أن المتابعة القانونية فيما يخص جرائم الحرب الموثقة ستكون من مهام الدولة التونسية بحكم أنه ليس من صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة. إذن إقتصر دور بن سدرين على مجرد الإعلان حيث ركزت في قولها أن ”على تونس أن تطلب حقها [في إدانة هذه الجرائم]“ لتستردف بعدها بتحديد أنه ”من مهام الدولة التونسية و ليست الهيئة“ متابعة هذا الملف قانونيا. يبقى السؤال مطروحا اذن: لماذا اختارت الحقوقية المحنكة هذا التوقيت و هذا المكان للإدلاء بهذا التصريح الغير المسبوق على الصعيد السياسي والدبلوماسي؟ أرى أنها استعملت هذا الملف كورقة ضغط على الحكومة الحالية ذات العلاقات السياسية الواسعة والمتينة مع الجانب الفرنسي (بكافة أطيافه السياسية). ففي خطوة سياسية للسيطرة على الإنتقادات الحادة والمتكررة التي تشاهدها بن سدرين خاصة و الهيئة عامة، كان ضروريا الاستنجاد بهذه الورقة الحساسة لسحب البساط من تحت نواب نداء تونس المعارضين للزيادة المقترحة في ميزانية الهيئة. أظن أنها ربحت هذه الجولة.

المشكلة أن محاكمة جرائم فرنسا الإستعمارية أكبر من رهان لعبة السياسة بين بن سدرين ونواب نداء تونس. هذه جرائم حرب ضد شعب بأكمله، وهذا التصريح النوعي و بهذا الشكل العلني الدراماتيكي هو نقطة لاعودة بالنسبة لي. لا يمكن لأي جهة سياسية، أكانت احزابا أو مكونات المجتمع المدني من جمعيات وأفراد، أن يغفلوا عن أهمية هذا التصريح. أخلاقيا وسياسيا، هناك ضرورة لفتح هذا الملف الساخن وبشكل عاجل لأن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها فرنسا في حق اجدادنا خلفت مآسي وجرائم أكثر عنفا و دموية من تلك التي اقترفت في عهد بورقيبة وبن علي.

هنا يبقى سؤال آخر معلقا: إذا كان تصريح بن سدرين حول ملف إدانة جرائم حرب فرنسا الاستعمارية مهما بهذه الدرجة، لماذا هذا الصمت الإعلامي والسياسي حول هذا الموضوع؟ أظن أن التجربة الجزائرية في هذا المجال قد تحيلنا إلى بداية المشكلة و كذلك إلى بداية الحل السياسي.

إدانة جرائم فرنسا و جزائر بوتفليقة: المطلب الشعبي و تجاهل السلطة

تظل مسألة محاكمة جرائم فرنسا الإستعمارية مرتبطة برغبة بوتفليقة وحاشيته السياسية والعسكرية في إستعمال هذا الملف كورقة ضغط على الرؤساء والحكومات الفرنسية المتعاقبة. فعلى رغم وجود وزارة المجاهدين القدامى والتي تهتم من ضمن اولوياتها بمتابعة هذا الموضوع الحساس والشائك، تبقى محاولات دعوة فرنسا إلى فتح قنوات حوار غاية مستحيلة أمام رفض السلطات الفرنسية وآخرها حكومة فرنسوا هولاند في الإعتراف المباشر والإعتذار وظلت إمكانية الحصول على توافق دبلوماسي سياسي من شأنه أن يمثل بداية حل لهذا الملف المعقد أمرا غير مطروح رغم الزيارات العديدة التي يقوم به المسؤولون الجزائريون في هذا الغرض.

التعنت الفرنسي والرفض التام بالإقرار بجرائمها الإستعمارية في حق الشعب الجزائري يعتبر شيئا متوقعا. فعلى سبيل المثال، لم تعتذر الولايات المتحدة الأمريكية للشعب الياباني رغم ثبوت إرتكابها لجريمة حرب شنعاء عن طريق قيامها بتجربة السلاح النووي على مدنيين عزل لأغراض علمية بحتة وليس لأسباب حربية دفاعية. طبعا جرائم فرنسا الإستعمارية تظل أكثر دموية و استبدادية لأنها مورست بشكل عنصري ممنهج لمدة طويلة بشكل أثر سلبيا و جذريا على التركيبة الجسدية و المعنوية و النفسية للمواطن الجزائري العادي و قوض بشكل عميق مقومات النظم السياسية والإجتماعية و الإقتصادية للكيان الجزائري عامة. إذن يمثل مطلب الجزائريين في إدانة هذه الجرائم الدموية أكثر ضرورة وإلحاحا من أي مطلب سياسي شعبي آخر.

لماذا يبقى هذا الملف المهم جدا ثانويا لدى حكومات بوتفليقة؟ باختصار أرى فتح مسألة شائكة تتطلب أولا إرادة سياسية قوية قادرة على فرض هذا الملف أمام الهيئات الدولية ذات المرجع فيما يخص الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب و انتهاكات حقوق الإنسان كالتعذيب والتهجير. ثانيا، التوجه إلى إدانة فرنسا بشكل علني وصريح على مستوى حكومي رئاسي نافذ يتطلب حشدا شعبيا واسعا و انخراط النخب المدنية والسياسية بشكل واسع في هذا المشروع بما يمكن من الالتفاف وراء هذا المطلب المعقد والشائك. ثالثا، لا يمكن لعملية تقديم ملف إدانة جرائم إستعمارية أن تنجح (أو حتى تكون ممكنة) إذا لم تتوفر في المجتمع النيوكلنيالي أقوم مكونات العمل السياسي الحر أو أبسط عناصر الممارسة الديمقراطية اليومية. هذه المتطلبات الأساسية منعدمة داخل المشهد السياسي والمدني في ظل حكومة بوتفليقة المريض والمنتهي سياسيا فحكومته تنخرها شكوك الفساد المالي و الإستبداد السياسي. لا يمكن إذن أن نأمل في إمكانية التوصل إلى مساندة و حشد شعبي محلي أو مساندة دولية لو أخذنا تردي الواقع السياسي الجزائري حيث تقتل حكومة الجنرالات ماتبقى من أفراد نخبتها و مثقفيها كما حدث مؤخرا مع الصحفي محمد تامالت.1

الواقع التونسي المختلف وإمكانية المفاجأة

هل الواقع التونسي مختلف عن نظيره الجزائري؟ على الورق، يمكن القول أن الثورة التونسية أحدثت تغييرا مستمرا (ولا أقول جذريا) في أدوات الممارسة الديمقراطية على الصعيدين النخبوي والشعبوي. الصورة طبعا ليست وردية إذ مازالت نقائص عديدة من شأنها أن تقوض هذا الزخم السياسي الإيجابي، أهمها المال السياسي الفاسد. غير أن الواقع التونسي يظل متقدما جدا وأكثر ترسيخا لمقومات المجتمع الديمقراطي الحر الذي يضمن لكافة افراده حق المشاركة السياسية و النقد و الإنتخاب. الأهم من هذا كله أن المواطنة أو المواطن لديه ثقة ما (ولو بشكل نسبي) في مؤسسات الدولة وإمكانية عناصر مختلفة من المشهد السياسي من احزاب وجمعيات في طرح مشروع مجتمعي سياسي ثقافي يكون للجميع القدرة على الإنخراط فيه. على النقيض، تكتسي علاقة المواطن الجزائري بأجهزة دولته بالخوف، والنفور و إنعدام الثقة بشكل عميق ومترسخ.

إن الحيوية و الحضور الفعلي والمكثف لأطراف المجتمع المدني في العمل والحراك السياسي في تونس هو علامة فارقة. إذا كان أغلب الظن أن لا حكومة السبسي ذو العلاقات المتينة بالجانب الفرنسي ولا حكومة الظل النهضاوية قادرتان أو راغبتان بالدفع بملف جرائم فرنسا الإستعمارية ضد التونسيين والتونسيات، فإن إمكانية المفاجأة (أمل المفاجأة؟) يمكن أن يأتي من أحد منظمات المجتمع المدني القادرة على الضغط السياسي والحشد الشعبي. من جهة أخرى، فإن زخم المساندة الشعبية لعمل هيئة الحقيقة والكرامة قد يمكن تفسيره بتقبل المواطن التونسي لفكرة رد الإعتبار وجبر الضرر كمكونين اساسيان للعملية الديمقراطية وخاصة في نظرته لنفسه وتقديره لماضيه وحرياته. إن هذا القبول الشعبي هو حجر الزاوية لأي مشروع مستقبلي يؤسس لمحاسبة فرنسا على ماضيها الإستعماري الدموي وجبرها على الإعتراف بجرائمها.

هل هذه الأطروحة ممكنة عمليا أم هي مجرد تمنيات؟ يبقى السؤال معلقا لكن المؤكد أنه آجلا أو عاجلا ستحاسب فرنسا على جرائمها الدموية الإستبدادية الإستعمارية. فكما قال الخالد أمل دنقل:

إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح

هوامش

  1. يتطرق ياسين تملالي في مقال مهم بعنوان محاكمة الاستعمار: هذا ما جنته الجزائر إلى موضوع إستعمال حكومة بوتفليقة لملف إدانة جرائم فرنسا الإستعمارية كورقة ضغط سياسية.