1) بين يزي…فك و كفاية المصرية.



2) من نقل الخبر إلى صنع الحدث الإعلامي.


3) مقاربة “يزي” بين الوسيلة و الهدف.

2) من نقل الخبر إلى صنع الحدث الإعلامي.

من الملاحظات الأولى التي لا تخفى على كل من تابع ولادة مبادرة “يزي” هي سرعة الرد عليها، سلبا و إيجابا، و كثافة تجاوب الناس معها و هو ما يمثل بحد ذاته وحدة قياسية تمكننا من تحديد حجم الوقع الذي تركته على الساحة و الذي أخرجها من تُـكون شبكة العمل الإفتراضي إلى الواقع لتؤثر فيه و تتأثر به. و لهذا التفاعل مدلولاته التي يجب الوقوف عليها و تقصّيها. فسرعة تدخل يد الرقابة التونسية (18 ساعة بعيد بعث موقع يزّي) و كثافة تجاوب الناس معها التي عبرت عنها ديناميكية الحوار على المواقع و المنتديات و المدوّنات التونسية و الأجنبية مما حدى بقناة الجزيرة إلى إقامة برنامج لمناقشة موضوع “الإنترنت والتنفيس الإعلامي والسياسي” كان عنوانه مبادرة “يزي” تضاف إلى رصيدها المتمثل في كونها الأولى من نوعها. و الوحدة القياسية هذه المتمثلة في سرعة حجب موقع “يزي” و كثافة التفاعل مع بادرته تساعدنا على مقارنتها بغيرها من المبادرات داخل فضاء الأنترنت و حتى خارجه. كما تمكننا من فهم الأسباب الكامنة وراء نجاح و فشل هذه المبادرة أو تلك عسانا نصل في النهاية إلى اكتشاف القوانين التي هي بصدد تغيير علاقة الإعلام بالسياسة.

  • أ‌. الوجود الإعلامي

لقد عالجت الفلسفة و علم المنطق طويلا مسألة الوجود و أقسامه و مراتبه. فالوجود عيني و طبيعي و ذهني، داخلي و خارجي، لفظي و كتبي. و لعل الوجود الذي يجب الإنتباه إليه اليوم و نحن نعيش بداية الثورة الرقمية هو الوجود الإعلامي و كذا الوجود الإفتراضي الذي نخصصه لنقطة لاحقة. لنبدء بطرح بعض الأسئلة التي تبدو أساسية :

هل يكمن أن يوجد حدث سياسي دون أن يوجد إعلاميا ؟ أي هل أن الوجود الإعلامي صار شرطا للوجود العيني بحيث لا يكتمل الحدث السياسي إلا به ؟ كم من حدث و اقعي ولد و مات دون أن يكون له أي تأثير على مجريات الأحداث ؟ و على العكس، كم من خبر إعلامي ولد ضعيفا لترتقى درجة وجوده بشكل تصاعدي تنتهي بتغيير مجريات الأحداث ؟ هل الوجود الإعلامي غاية بنفسها أم وسيلة يمتطيها الحدث لتجاوز حدود واقعه في معركة غير متكافئة ؟

قبل أن نجيب على هذه الأسئلة لنبدء بمقارنة مظاهرتين وقعتا في نفس المدة الزمنية تقريبا لاستخلاص عبرة لها عظيم الدلالة.

فقد جابت المظاهرة الأولى شوارع العاصمة التونسية يوم 4 مارس 2005 للتنديد بالدعوة التي وجهها النظام التونسي للوزير الأول الإسرائيلي أريال شارون، في حين جابت الثانية العاصمة التركية إسطنبول يوم 6 مارس 2005 بمناسبة اليوم العالمي للمرأة مطالبة بمزيد من الحقوق النسائية. المظاهرتان وُوجهتا بوحشية من قبل الأجهزة الأمنية لكل من تونس و تركيا. الفارق الوحيد بينهما يكمن في أن الاولى، أي التونسية، لم ترتقي إلى درجة الوجود الإعلامي نظرا للغياب الفادح لتقنيات نقل الخبر من تصوير حي سمعي/بصري.

وعلى عكس الأولى ، تمكنت الثانية من أن توظف التقنيات الحديثة و تخلّد مشاهد تدخل قوات الأمن التركية وهي تنهال ضربا على المتظاهرات ال150 بتسجيلها بالفيديو. مشاهد الهراوات و الدم و الجروح البليغة و أصوات الصراخ و معمعة الإصطدام الأمني بالمتظاهرات أوجدت الحدث إعلاميا و أخرجته من حدود الشارع الذي جابته التظاهرة لتجوب به شاشات العالم أجمع. ففي حين تحدثت كل القنواة التلفزية أو أغلبها عن المظاهرة النسائية في تركيا و مطالبها و وحشية الأساليب التي استـُخدمت لقمعها عارضة مادة في مستوى الطلب أو أكبر، لم تنجح رديفتها التونسية في لفت إنتباه الرأي العام المحلي و لا الدولي على الرغم من نفس مستوى الوحشية الذي قـُمعت به. إذ لم تتجاوز تغطية الحدث التونسي بعض السطور التي كـُتبت في بعض الصحف الفرنسية المحسوبة على اليسار و التي لم يهمها في الخبر سوى وجود المحامية راضية النصراوي في عداد المصابين. الصورة الشبه يتيمة لراضية النصراوي أعطت للحدث ما لم تعطه كل البيانات و نصوص التنديد الركيكة التي عودتنا عليها المعارضة التونسية و منظمات المجتمع المدني.

الدروس التي يمكن إتخلاصها من هذه المقارنة كثيرة لعل أهمها :

  • الصورة و الصوت أقوى من النص الذي لم يعد يكفي لكسب عقول و قلوب الناس. فعدالة أي قضية و سمو المبادئ التي تدافع عنها ليست لها قوة الجذب الكافية في هذه “المعركة اللامتماثلة” (Asymmetric War) التي يبطش فيها الظالمون إعلاميا أكثر مما يبطشون ماديا.
  • إذا أردنا من وسائل الإعلام السمعية و البصرية أن تقوم بتغطية أحداث نعتبرها بالغة الأهمية كان لزاما علينا أن نقايضها بمادة إعلامية تـُسوّق الخبر و تلقى رواجا في سوق لا تختلف قوانينه عن تلك التي تحكم السوق العادية من عرض و طلب. فالتشويق و الطرافة و الإبتكار و الفرادة و التجديد باتت من مقومات نجاح أي عمل يسعى إلى لفت إنتباه الناس. فهي مقايضة يجد فيها الإعلامي ضالته من حيث التشويق و الطرافة التي يوفرها الحدث ويجد فيها السياسي ضالته عبر وصول ما يريد إبلاغه إلى عيون و آذان الناس. فوقوف شاب أعزل أمام رتل دبابات صينية أثناء انتفاضة الشباب في ساحة “تيان آن مين” كانت أقوى و أفصح من كل الخطابات السياسية التي رافقت الأحداث آن ذاك. و كذا الشأن بالنسبة لصورة الطفل الفلسطيني الذي يقف امام دبابة اسرائيلية وهو يهم بقذفها بحجر. إنها صور تتحول إلى بضاعة إعلامية خاضعة لقوانين الطلب و العرض مع فارق أساسي يتمثل في تلك الشحنة السياسية و الإنسانية النبيلة التي تحملها لتجوب بها العالم فاضحة وجه الطغيان و هازمة ترسانة التضليل الإعلامي لقوى و دول تصرف المبالغ الطائلة لتزيين صورتها الإعلامية. فالتحدي كل التحدي يكمن في ذكاء و قدرة الخطاب الثائر ذو الإمكانات المعدومة على غلبة من بحوزته أسباب كل شيء إلا عدالة القضية.

    يعتبر الوجود الإعلامي إذا من ضرورات العمل السياسي الناجح. و ليس باستطاعة أي مبادرة سياسية أو مواطنية مهما علا شأنها من تحقيق أهدافها المرجوة دون تحقيق إنتصارات إعلامية تمهـّد لإنتصارات سياسية لاحقة. و لا يمكن اختزال الوجود الإعلامي في مجرد المرور بقناة تلفزية أو إذاعية بل في فرض حدث إعلامي يكون قادرا على تحريك ما سكن و تنفيس ما كـُبت عبر تفريخ ديناميكيات أطراف مستقلة عن المركز تأخذ على عاتقها مهمة إعادة بعث الحدث إلى ما لا نهاية.

  • ب‌. الوجود الإفتراضي.

يجب تذكير الذين يعملون على سحب صفة الواقعية عن الأنترنت أن هذا الأخير ليس سوى امتدادا لوسائل الإتصال الأخرى كالمذياع و الهاتف و التلفزيون بل قل فإنه المحطة و الأداة التي ترتقي فيها و بها كل هذه الوسائل إلى درجة الإتقان. فهذه الدوائر المستقلة سابقا قد تداخلت تدريجيا لتتحول بفضل الأنترنت الى دائرة واحدة. و الثورة الرقمية التي تجري تحت أعيننا لم تنجح فقط في مزج وسائل الإتصال بعضها ببعض بل في مزج وسائل الإتصال بالمعلومات. فأغلب الصحف و الإذاعات و القنواة التلفزية تمتلك مواقع إلكترونية تلتقي فيها الكتابة بالصوت وبالصورة. نجاحات الأنترنت الباهرة في الإرتقاء بهذه الوسائل إلى مستوى تتحد فيه ببعضها مستفيدة من سرعة انتقال المعلومة و من تحررها، النسبي أحيانا و الكلي أحيانا أخرى، من الرقابة لا يجعل من العمل المعروض على الأنترنت مسرحا لعالم إفتراضي مُصطَنع تتلاشى فيه الحدود بين الواقع والخيال با هو تجل لما يحصل في الواقع من تطور مذهل في مجال تشابكت فيه الإبتكارات العلمية بقوانين السوق المُعولمة و تلاشي مقومات السيادة الوطنية الواحدة تلو الأخرى.

ولعل من أهم التحولات التي أدخلتها الثورة الرقمية هي تلك التي بعثرت علاقتنا بالزمان وبالمكان. و كما يقول الباحث جان-كلود غيبو : ” لا نزال في بداية مسار ضخم يعدل في العمق علاقتنا بالزمان والمكان حيث يزولان تدريجياً في شكل من الاشكال لصالح بعد زمني-مكاني موحد ومحيّر: الفورية الافتراضية. “قارة سادسة” تظهر للعيان بفعل انتصار النظام الرقمي والانترنت والحيز الافتراضي، وميزتها(…) انها محكومة بالفورية. وها هي اليوم جميع النشاطات البشرية تهاجر واحدة تلو الاخرى وفي حال من الفوضى الرهيبة نحو هذه القارة الغريبة: التجارة والمال والثقافة والاتصالات والاقتصاد الخ…(…) سوف يزداد ايقاع هذه الهجرة بفعل حدوث الاختراقات التكنولوجية. ” [1]

و قد تكون سرعة إعادة صياغة علاقتنا بالزمان والمكان وراء سوء الفهم الرائج للأنترنت بحيث أن الصورة النمطيّة (cliché) “الإفتراضية” التي التصقت به مجانا صارت قدرا يُعدم كل المواد المعروضة فيه و يسحب صفة الواقعية عنها. و كما هو معروف فإن الصور النمطيّة (الكليشيهات) لا تزول بسهولة خاصة إذا كان رسوخها في أذهان الناس لم تواجهه أي دراسة نقدية أو تصحيحية تضع الأمور في نصابها.

فلنتسائل. هل أن الوقت و الجهد الذي يسخرهما مصمم المواقع و البرامج و الذان غالبا ما يكونان على حساب حياته الإجتماعية و المهنية وقتا و جهدا إفتراضيين ؟ هل أن ما يـُكتب على صفحات الأنترنت و ما يـُعرض من صور و أشرطة سمعية و بصرية ليس قادرا على أن يلمس الواقع ليؤثر فيه و يتتأثر به في علاقة تفاعلية تتميز بقدرتها على اختراق حدود المكان و الزمان ؟ فالكتاب و المقال و كل ما يـُعرض على الشبكة يـُطبع و يُنسخ و يـُسجّل على أقراص تـُوزّع بين أناس حقيقيين يتفاعلون واقعيا معها سلبا و إيجابا ؟

خلاصة القول هنا أن الصفة و الصورة النمطيّة التي التصقت بالأنترنت تعبّر عن قصر نظر من يتوخاها ، لا عن قصور الأنترنت عن مرافقة مجريات الأحداث الواقعية ليـُثريها و يزيد في زخمها بل ليتحول تدريجيا أمام أعيننا إلى فاعل يـُرسي المبادرات، يبتكر المقاربات و يـُجند لهما الطاقات الحقيقية. فمن مجرد ناقل للخبر و من مجرد وسيلة اتصال بات العمل المناضل “الإفتراضي” صانعا للحدث و قالبا رأسا على عقب لكل المقاربات التي سبقته.

[1] مخاطر جديدة. هل الانسان على طريق الزوال؟ جان-كلود غيبو. العالم الدبلوماسي آب/اغسطس 2001.

NOUVELLES MENACES L’homme en voie de disparition ? Par Jean-Claude Guillebaud. LE MONDE DIPLOMATIQUE | août 2001 | Page 20.