عندما نجحت شيماء في الباكالوريا ذبح لها والدي خروفا. كنّا فرحين وكان لحم الخروف طريّا يذوب في الفم. دخلت عمّاتي القادمات فوجا واحدا من بيوتهنّ البعيدة تُزغردن. شيماء لا تجيد الرقص ومع ذلك هزّت خصرها على أنغام “أولاد الجويني” وغنّت مع عمّاتي “ونقول ياليل ونقول ياعين”. كانت تُحرّك رأسها مثل الجمل ولكنّها كانت سعيدة لأنّها ستدرس في الجامعة، ومن ثمّة ستعمل وستشتري قنّينة العطر الباهظة جدّا التي طالما تمنّتها. شيماء اليوم في الثلاثين من عمرها، متحصّلة على شهادة الماجستير في اللغة الفرنسية، ولها باع وذراع في البطالة وخبرة جيّدة في برنامج تربّصات الإعداد للحياة المهنيّة وآليّات التشغيل الحكومية “فرصتي” و”كرامتي” وما إلى ذلك. كنت أذهب مع شيماء إلى مكتب التشغيل في الكاف، وكنت أراقبها وهي تتحدّث مع صديقاتها عن محاولاتها الفاشلة في إيجاد عمل يليق بمستواها التعليمي. لم أكن أشعر بالحزن عندما أسمعها وأسمع قصص صديقاتها وكفاحهنّ الطويل مع البطالة. كنت أحزن فقط عندما تطلب من أمّي أن تشتري لها فوط العادة الشهريّة الرخيصة. البطالة بالنسبة لي، أن تكوني عاجزة عن اقتناء فوطة صحيّة جيّدة بنفسك. آلام البطن عند قدوم العادة الشهرية والبطالة، كان هذا قاسيا على شيماء النحيفة.

كنت أعيش مع جدّتي ولم أعش مع والديّ، وعندما نجحت في الباكالوريا لم أفرح ولم أرغب في أن يذبح لي والدي خروفا طريّ اللحم يذوب في الفم ومع ذلك فعل. لم أرقص ولم أحرّك رأسي مثل الجمل ولم تهنّئني عمّاتي كما فعلن مع شيماء. كنت حزينة لأنّ أصدقائي الصعاليك لم ينجحوا. من القرية إلى العاصمة، صدمة حضاريّة تمثّلت في قطار المترو. لم تكن هناك سيّارات كثيرة في قريتي ويريدونني أن أتأقلم بسهولة مع هذا الشيء الطويل الأخضر. كنت أدرس وأعمل في نفس الوقت، لذلك لم أكن أتسامح مع من يقول لي “تونس ما فيهاش خدم”. عندما كنت في القرية حاولت بعث مشروع وأنا في سنّ الثالثة عشر، عرضت الفكرة على أمّي وطلبت منها أن تقرضني ثمن قنّينة شروبو أحمر وأكياس بلاستيكيّة صغيرة لإعداد المثلّجات في البيت، “الفريقيلو” الشهير. فَشل مشروعي لأنّي كنت أبيع لأصدقائي المتحيّلين الصغار دون أن يدفعوا لي مسبقا، ومنذ ذلك الوقت فهمت لماذا يضع بعض أصحاب المحلاّت يافطة مكتوب عليها “الكريدي لا”. لم أتّعض من تجربتي الأولى ودخلت بعدها بشهر في مشروع ثان تبدو أرباحه مغرية. كنت أبيع الذرة المقليّة “القطانيا”. كان كل شيء يسير على ما يرام إلى أن دخلت صديقتي الحميمة رانية على الخطّ لتنافسني في بيع الذرة. الجميع في الحيّ يحبّ رانية الضحوكة معسولة الكلام والتي نجحت بسهولة في افتكاك زبائني. كرهت المشروع ولم أكره رانية.

ذهبت منذ أسابيع قليلة مع شيماء إلى مكتب التشغيل المحاذي لبيتنا في الكاف، لتقدّم مطلبا للانتفاع بعقد “الكرامة”. هنا في الكاف، يمكنك أن تنتفع بهذا العقد وأنت مثلا تحمل شهادة أستاذية أوماجستير أو دكتورا، وأنت تعمل في مخبزة أو محلّ لبيع الحليب ومشتقّاته أو حلاّقة، وإن كنت محظوظا جدّا في مدرسة خاصّة أو روضة للأطفال. أصحاب المشاريع لا يقدّمون للمنتفع بعقد “الكرامة” المائتي دينار المطلوبة منهم، ويرون أن الأربعمائة دينار التي ستعطيها الدولة “أكثر من جدّ والديهم”. مازلت أدرس وأعمل في نفس الوقت وأصبحت متسامحة مع كل من يقول لي “تونس ما فيهاش خدم”. ونحن في مكتب التشغيل، دخلت إيناس بظفيرتها الطويلة. لم تتغيّر كثيرا، ومازالت كما عرفتها متورّدة الوجنتين، خجولة رغم مشيتها الرجاليّة. درست مع إيناس في سنوات الإعداديّة، كانت من أشطر التلميذات القادمات من الأرياف إلى قرية ساقية سيدي يوسف. إيناس اليوم عاطلة عن العمل، متحصّلة على شهادة ماجستير في الإعلامية رغم أنّ المعدّل الذي نجحت به في الباكالوريا يخوّل لها أن تدخل أحسن الجامعات. لم يكن أمامها من خيار سوى أن تدرس في ولايتها “بأقّل مصروف”. رحلة البحث عن العمل كانت شاقّة بالنسبة إلى إيناس وكلّفتها الكثير. قرّرت أن تذهب إلى العاصمة عند خالها وتبحث عن عمل. باع والدها نعجاته الثلاث المتبقيات حتى تتمكن من السفر. لم يكن العمّ صالح يعرف أن إيناس لن تجد عملا في المدينة الكبيرة وأنّ زوجة خالها لن تتحمّلها كثيرا، زوجة الخال الشريرة كما في كل القصص الدرامية الحزينة.

منذ أشهر مات العمّ صالح، واستقرّت النعجات الثلاث في زريبة مالكها الجديد، وعادت إيناس، مثل شيماء، إلى مكتب التشغيل لعلّ أملا يلوح بين الأوراق المكدّسة على مكتب تلك الموظّفة اللئيمة. لم يعد يهمني إن كانت “تونس فيها خدم وإلا لا”، المهم أن تتمكن شيماء يومًا ما من شراء فوط صحيّة جيّدة عوضا عن تلك الرخيصة التي كانت تشتريها أمّي، وأن تتمكن إيناس من شراء نعجات ثلاث لتعوّض لأمّها على الأقلّ قبل أن تموت هي الأخرى.