إن إجراء مقارنة بين دليل التوجيه الجامعي لسنة 2015 ودليل التوجيه لسنة 2018، يقود إلى الإقرار  بأن طاقة الاستيعاب في شعب الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع سجلت تراجعا في كليات ومعاهد الآداب والعلوم الإنسانية بين سنتي 2015 و2018، ومن الأمثلة على ذلك تراجع طاقة الاستيعاب بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس في قسم التاريخ بنسبة 47.22 بالمائة، وفي الفلسفة بنفس النسبة تقريبا وفي علم الاجتماع بنسبة 48.8 بالمائة. وفي كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة تراجعت طاقة الاستيعاب في قسم التاريخ بنسبة 51.88 بالمائة. وفي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس تراجعت طاقة الاستيعاب في قسم التاريخ بنسبة 36.84 بالمائة وفي الفلسفة بنسبة 31.25 بالمائة وفي علم الاجتماع بنسبة 31.5 بالمائة. أما في المعهد العالي للعلوم الإنسانية فقد تراجعت طاقة الاستيعاب في قسم الفلسفة بنسبة 25.29 بالمائة وفي علم الاجتماع بنسبة 8.33 بالمائة.

الجامعة وسوق الشغل

يذهب مشروع إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي 2015-2025 الصادر في 23 أفريل 2015 إلى التأكيد على أهمية الربط بين التكوين الجامعي والاندماج المهني في الأنشطة الاقتصادية، وتلوح عملية الإصلاح من خلال هذا المشروع مشروطة بالمواءمة بين الجامعة وحاجيات الاقتصاد، إذ ورد في مقدمته “إن إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث يجب أن يستهدف على رأس أولوياته النهوض بجودة التكوين الجامعي لتعزيز تشغيلية الطلبة بتمكينهم من المعارف والمهارات والكفاءات التي تتماشى مع حاجيات المجتمع والاقتصاد دعما لتوجه بلادنا نحو تبني منوال تنموي يقوم على استهداف الأنشطة الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية”. من داخل هذا المنظور الرسمي لوظيفة الجامعة يمكن القول أن العلوم الإنسانية والآداب لا مكان لها في المعادلة التي تشد وِثاق الجامعة بالاقتصاد، وهو ما جعل هذه الشعب تتحول إلى سلة مهملات التوجيه الجامعي نظرا لأنها تستقطب أصحاب المعدلات الضعيفة، وبات يُنظر إليها بازدراء بسبب ضعف طاقتها التشغيلية.

بين القيمة التشغيلية والأهمية المجتمعية لشُعب علوم الإنسان والمجتمع يذهب المنصف وناس، أستاذ علم اجتماع ومدير مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية، إلى أن “هناك وعي رسمي بأن العلوم الإنسانية والاجتماعية تعيش أزمة، ومن مظاهر هذه الأزمة حالة البطالة الكبيرة التي يعيشها خريجو هذه الشعب. والمسألة تبدو معقدة، فمن جهة هناك جانب إنساني متعلق بالتشغيل ومن جهة أخرى فإن التخفيض في التوجه إلى هذه الشعب سيجعل البلاد في حاجة إلى مختصين ينكبون على فهم الظواهر الاجتماعية وحل إشكالاتها خصوصا في هذه المرحلة”، مشيرا إلى أن الحل يكمن في “التوفيق بين الحاجات الإنسانية المتعلقة بالتشغيل والحاجات المعرفية والمجتمعية”.

من جهته يعتبر منصف القابسي، الجامعي بكلية الآداب بصفاقس والباحث في علم الاجتماع، أن تراجع علوم الإنسان والمجتمع ليس مرتبطا بالبطالة والتشغيلية بقدر ما يعكس توجهات عامة للدولة، موضحا بالقول “منذ بداية العمل بمنظومة إمد في السنوات الأخيرة أصبحنا نشعر أن هناك توجه نحو مَنظومة تُشجع التكنولوجيا على حساب الإنسانيات، وفي بعض الأحيان توجسنا من إمكانية إغلاق قسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس نظرا لتراجع طاقة الاستيعاب”، مضيفا “هناك هيمنة للبعد النفعي السلعي والمَشاريعي على حساب الجانب التفكيري والعقلاني فأصبحت الجامعة محكومة بقوانين الاقتصاد في الوقت الذي كان من المفروض أن تصبح قاطرة المجتمع، وهو ما أدى إلى تهميش علوم الإنسان والمجتمع الذي أدى بدوره إلى فقر فكري ومعنوي رهيب في المجتمع”. وقد لاحظ منصف القابسي الارتفاع النسبي في طاقة الاستيعاب في شعبة علم الاجتماع في بعض السنوات التي تلت 2011، مشيرا إلى أن “هذا الارتفاع النسبي يساير الاتجاه العام لأنه يستجيب للحاجيات المباشرة لبعض المؤسسات الدولية التي تريد الاستفادة من الإمكانات التقنية التي توفرها بعض الاختصاصات في علم الاجتماع”.

هل يمكن أن يتطور العلم في ظل تهميش الإنسانيات؟

كانت الجامعة في الفترة التي سبقت تسعينيات القرن الماضي مصعدا اجتماعيا لأبناء الهوامش، وقد كانت المعرفة معبرا لتحقيق الذات واقتلاع الاعتراف الاجتماعي بغض النظر عن الاختصاصات الجامعية. ومع تراجع هذا الدور بسبب فشل السياسات التعليمية والاجتماعية، أصبحت الجامعة مقترنة بالفشل الاجتماعي وبالبطالة. ورغم أن الكثير يتجنب الاختصاص في علوم الإنسان والمجتمع لأنها فاقدة لأي قيمة تشغيلية، فإن الإحصائيات التي نشرها المعهد الوطني في مارس 2016 حول نتائج البطالة في الثلاثي الرابع من سنة 2015، تشير إلى أن الإنسانيات تضم حوالي 39 ألف معطل عن العمل، وهي نسبة أقل من المعطلين في العلوم الصحيحة الذين يبلغ عددهم أكثر من 75 ألف، وأقل أيضا من المعطلين في صفوف المتحصلين على شهادة تقني سامي والذين يصل عددهم إلى 54 ألف.

مع تزايد النزعة الداعية إلى ربط الجامعة باحتياجات السوق ترعرعت النظرة القائلة بأن الإنسانيات والآداب والفنون لا مكان لها في زمن التطور التقني والعلمي. وهنا تُستعاد إحدى الأسئلة القديمة التي واجهتها الحداثة العربية بشكل عام؛ هل يمكن بناء مجتمع عصري واقتصاد متقدم في ظل تهميش الآداب والإنسانيات؟ في هذا السياق يذهب الباحث أحمد زهاء الدين عبيدات في بحث له بعنوان “ما تعليل هامشية الاشتغال بالإنسانيات والاجتماعيات والفنون بالوطن العربي؟” إلى أن المأزق العربي يكمن في خطة توزيع العمل والهرم الاجتماعي في عصر التبعية والقُطرية، مفسرا هذا المأزق أساسا بـ”عدم إدراك أنّ مهن الطبابة والهندسة والإدارة المالية والاستثمارية، التي تحظى بأعواض مرتفعة في دورة الاقتصاد العربي، ما هي إلا نتاج العقلانية العلمية التي ترسَّخت في الغرب، والتي تبحث في قوانين المادة…ولولا العقلية الشَّكّية الاختبارية المنطقية الاستكشافية، لما أمكن توليد أي علم من هذه العلوم وتطبيقاتها بتاتا”، ويشير الباحث إلى أن تهميش الفنان والباحث والمعلم في الوطن العربي لا يرجع فقط إلى عزوف المجتمع عنهم أو تناسيهم من قبل الحكومات، بل لأنّ “دورة الاقتصاد العربي مركَّبة في جزء كبير منها على تجنُّبهم”، ليخلص أحمد زهاء الدين إلى أن “العلم لا يترعرع إلا في مجتمعات منشغلة بالقراءة، ومتخمة بالتراث المتنوع، ومُنكبّة على المكتبات، ومنخرطة في المناقشة الحرة، ومنهمكة في التداول العمومي للأفكار، ومجتهدة إزاء التراكم المعرفي في التعليم، ومتفرِّغة للاختبار والتطوير في المختبرات”.