باسم الله الرحمان الرحيم

بقلم محمد الفاضل

ibn roshdو بدلاً من أن نرى ما يمكن أن تستثمره تلك الأنتاليجنسيا المتحالفة مع نظام الأميّة من راهنية فلسفة ابن رشد في تطوير حياة التونسيين المعاصرة و تأسيس لمقدمات الحداثة، صارت المحنة الرشدية واقعاً تونسياً منذ تسعينات القرن الماضي إلى هذه اللحظة. فحين يُعاقب مختار اليحياوي قاضي قضاة البلاد التونسية لدفاعه عن استقلالية القضاء و المحاماة فقد عَاقـَبَ يعقوب المنصور قبله ابن رشد قاضي قضاة قرطبة. و حين يَُزَجُ بمحمد عبو لرأي أفصح عنه على رؤوس الملأ و تُحَاصَرُ أمنياً مؤسسات المجتمع المدني فقد قضى قبلها ابن رشد بضع سنين في العزلة منبوذاً لمقالات للعقل و الحكمة و الحق و الحقيقة أسس بها لغيرنا. لقد صارت محنة القاضي مختار اليحياوي و المحامي محمد عبو و محنة المجتمع المدني عامة بجمعياته و منظماته المناضلة اليوم عنواناً لمحنة العقلانية السياسية في تونس كما صارت محنة البروفسور منصف بن سالم و مائات من الجامعيين و الكتاب عنوانا لمحنة العقلانية العلمية فيها.

في النصف الأول من التسعينات و في ما كانت الموجة الثانية للهجمة الأمنية على الحركة الإسلامية لا تزال نشطة كانت الأنتليجنسيا قد قفزت بخطوتين إلى الأمام: بخطوة أولى نحو لحظة التغيير من حركة السابع من نوفمبر ومن ثم بخطوة ثانية نحو بعض المقاعد المتقدمة من سدة الحكم، متجاوزة كل التناقضات الإيديولوجية المفترضة و منزلقة عن كل التصنيفات الطبقية التي موقعت نفسها، فيما إدّعت لعقود، أنها أكثر خاناتها طلائعية، و قطعت فجأة مع كل الإلتزامات الأخلاقية و الحقوقية التي صنعت فيها و بها أمجادها، تجتهد في ترشيد العهد الجديد بوضع معالم طريق مواجهة الظلامية الإسلامية في تونس. و فيما كانت تضع كل أرصدتها العلمية و السياسية و الاقتصادية في مزادات السابع من نوفمبر و تنخرط في نظام السوق قبل إفتتاحه، و فيما لا تزال الدولة بحزبها و مؤسساتها و أجهزتها الأمنية، تشن حملات تمشيط، مدينة بعد مدينة بحثاً عن الكتاب الإسلامي و تـعْـقل ملايين الكتب [1] من المكتبات الخاصة و تجرم تداولها و تعتقل عشرات الآلاف من أصحابها، كانت تلك الأنتاليجنسيا تجعل من لحظتها تلك منعطفاً حاسماً من أجل الحداثة و تفتتح عهداً تأسس لنفسها فيه مع الأمّية السياسية، و تعقد مع السلطة تحالفاً لن ينفرط عقده لاحقاً إلا حين تتراجع أسهم نظام السابع من نوفمبر و تكسد بضاعته. و بعد أن عاثوا في البلاد فساداً و إفساداً، كان و لايزال يُعتـقد، أن تلك المعركة تخاض من أجل عيون الحداثة، و أن عصر التنوير يجب أن يدشن بلحظة القطيعة الشاملة مع “الظلامية الإسلامية”.

لقد ظلت النخب الجامعية في تونس طيلة الخمسين عاماً الماضية تنشط أكاديمياً و ثقافياً بعيداً عن اليومي من الحياة الاجتماعية و السياسية بالبلاد، بل و في بعض المراحل السياسية بعيداً عن نشاط و هموم الحركة الطلابية بالجامعة التونسية ذاتها، و عن هموم الحركة العمالية أيضاَ، و مع أنها خرّجت أجيالاً من الكفاءات العلمية العالية فإنّها لم تستطع أن تنقل خبراتها العلمية و كفاءاتها الأكاديمية من دائرة الاهتمامات الجامعية المتخصصة إلى ساحات الفعل المجتمعي و السياسي. فقد ظلت الخبرة و المعرفة التي أفادها الإنتاج الجامعي حكراً على استثمارات الدولة أساساً دون المجتمع المدني، كما ظلت بحوثها رهينة سياسات الدولة بدلا من أن تكون رائدة الحياة الفكرية والسياسية و المجتمعية بل و رضيت بوعي منها أن تلعب باسم الأكاديمية ظهيرالخطاب السياسي الرسمي.

ولئن كانت النخب الجامعية على وجه الخصوص محدود إنخراطها في حركة المجتمع السياسي بين (1956-1987) من مواقع المواجهة ضد الدولة الرأسمالية البورقيبية التابعة و هو موقف لا يبرره بحسب أدبياتها الأصيلة غير طبيعة سلوك البورجوازية الصغيرة ذي النفس النضالي المحدود، فإن إنخراط تلك النخبة في المرحلة اللاحقة في أجهزة الدولة الأمنية لبن علي منذ 1987 و إلى غاية اليوم تكشف عمق المرض الطفولي الذي أصاب تلك النخبة من البورجوزية الصغيرة لا سيما بعد أن اختارت دونما مراجعات أن تلعب داخل مؤسسات الدولة الأمنية و من مواقع متقدمة، دور(المثقف العضوي) على طريقتها.

كانت الجامعة التونسية قد عرفت منذ نشأتها، صراعاً حقيقياً قلّ أن نجد له نظير في الجامعات العربية، بكليات الآداب و العلوم الإنسانية، ينهض على أساس منه إنكار فريق من نخب تلك الجامعة وجود فلسفة إسلامية، فيما يكابد الفريق المقابل من أجل الإعتراف بوجودها. و أياً كان الأمر، فقد ظل هذا السجال يجري على نحو لم يخرج فيه عن الطبيعة الحيوية التي كانت دوما تعرفها الساحة الجامعية خاصة و الساحة الثقافية في تونس عامة، لا سيما و أن الحركة الإسلامية، مع تناميها، مثلت أحد الأطراف الأساسية في معادلة الصراع الإيديولوجي في الشارع السياسي في تونس.

كانت خطابات الفلسفة و العلوم الإنسانية و الحضارة في الجامعة التونسية بما هي خطابات يحتكر، بعض رموزها المناهضة للفلسفة الإسلامية، منبر العقلانية، قد أعلنت إنخرطها مع مؤسسات الدولة، الأمنية والحزبية في جبهة موحدة ضد الظلامية، و انخرط الرعيل الأول من “التقدميين و مريديهم” منذ 1987 في لجنة الفكر بالتجمع الدستوري الديمقراطي أو/و في المواقع الأكثر تقدماً بمؤسسات الدولة ينصحون لها، و يرسمون لها مناهج تطبيقية للتنوير [2]، مؤكدين أن تجفيف ينابيع فكر التيارات الدينية جزء أساسي من المهمة. و أن تعديل الموقف لصالح الإعتراف بالفلسفة الإسلامية و إستثمار بعض إمكانياتها التحررية في المرحلة الراهنة، ليس سوى تكتيك يندرج ضمن موجبات تفصيح معركة طلائع التنوير، لا سيما و أنها ظلت عاجزة أمام قطاع واسع من جمهور المثقفين على التخلص من مشاعر اليتم الحضاري كلما كانت اللحظة التاريخية تضعها في مواجهة الإسلام الاحتجاجي.

وفي السياق السياسي من معركة تلك النخبة من أجل حداثة مدفوعة الأجر، اُستُـدْعيَ ابن رشد في التسعينات إلى برامج التعليم والمنتديات و الملتقيات الفكرية و الفلسفية و إلى الدراسات الأكاديمية و غير الأكاديمية و إلى دور السينما [3] و إلى أعمدة الصحف التونسية الصفراء ليكون رجل المرحلة و لتقاد الحملة ضد الإسلاميين تحت لوائه و لــيُجبر هو نفسه على الاصطفاف خلف الأجهزة الأمنية و لتصطف تلك النخبة الحداثوية بيتمه، خلف الرجل، تشهد له بالعقل و التنوير. و ليعاد توصيف المعركة مع الإسلاميين في التسعينات على أنها ذات الخصومة التي كانت بين أبي حامد الغزالي [4] و أبي الوليد إبن رشد [5] يعاودها الأحفاد اليوم. و أن معركتهم هذه ليست منزوعة من سياقها الحضاري و أن هذه النخبة، من موقع تحالفها مع السابع من نوفمبر، إنما تتابع مطمئنة اليوم معركتها ضد ظلامية العصر، كان أباً لها (إبن رشد) قد دشنها من أجل تهافت “ظلامية” أبي حامد الغزالي [6].

و لقد إستحكم المنظور الإستشراقي للفلسفة الإسلامية لدى هذه النخبة ما أنتج قراءة انتقائية لإبن رشد لا ترى في فلسفته من راهنية إلا بمقدار ما تحمله معركة التسعينات ضد الإسلاميين من دواعي تفصيح تلك النخبة لمعركتها و تأصيل خطابها من داخل الفلسفة الإسلامية بصورة لن تكون الهوية إلا واحدة من الإمكانيات التي تطمح هذه النخبة إلى إستعادتها في حدود الحاجات التي تمليها المرحلة.

كانت سنة 1995 قد وافقت الذكرى المائوية الثامنة (1195) لمحنة ابن رشد و كانت الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية قد نظّمت ملتقاها في سنتها تلك تحت شعار كان مسكون بالسياسة أكثر من سكنى الفلسفة: إبن رشد اليوم، و لم يكن (علي الشنوفي) رئيس الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية وقتها ليخفي ما اكتشفته تلك النخبة، و هو يُعدد هواجس اختيار إبن رشد لربطه بعصرنا : ( أن فلسفة ابن رشد رغم اندراجها في زمن غير زماننا، يمكن أن تساعدنا على فهم بعض قضايانا الراهنة، ففلسفة ابن رشد إلى جانب فعلها النظري الخالص، أدت دوراً تنويرياً، ما زال قادراً على دعم تطلعاتنا إلى فكر نقدي يتصدى إلى مظاهر الزيف التي اكتسحت مجالات واقعنا و ثقافتنا….فقد عَرف ابن رشد مضار مزج الدين بالسلطة أي مضار الخطاب اللاهوتي-السياسي، رغم كل الجهود التي سخرها إقرار التعايش السلمي بين النزعات الفكرية المختلفة…..إن التأمل في كل هذه الإمكانيات الفكرية التي فتحها ابن رشد يجعلنا نعتقد أن المرحلة الحضارية التي نعيشها قد تكون هي المرحلة التي تبرز راهنية هذه الفلسفة و ضرورة استعادتها، و لكنها إستعادة لن تكون لها قيمة إلا إذا فهمت في حدود ضرورة استرداد فيلسوف قرطبة و مراكش كرمز خاصة ( رغم) أن فلسفته قادرة على أن تساهم بشكل جدي في إنارة الكثير من قضايانا الراهنة) [7].

و الواقع أن ابن رشد لم يُستَدْعَى من الماضي، بهذه المناسبة، من أجل شيء، إلا بغاية المشاركة في معارك الحاضر تحت بريق العقلانية ضد الدين و السياسة في آن معاً. إذ لم يُستــدْعى ابن رشد على امتداد سنوات التسعين و لا قبلها بوصفه شارحاً لأرسطوطاليس و لا دُعيَ ليدخل علينا بوصفه واضعاً لكتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” الذي كان عمدة في الدراسات الفقهية و الأصولية، و مرجعاً لتنظيم الحياة العملية التي ميّزت منذ عهد المنصور الموحدي حياة المغاربة و لا بوصفه قاضي قضاة قرطبة و لا بوصفه طبيباً أو فلكياً أو فيزيائياً. لقد اُستحضر ابن رشد لسببين، أولهما الإحتجاج بمحنته [8] في القرن الثاني عشر على الظلامية الإسلامية التي بدأت تتنامى منذ الثلث الأخيرة من القرن العشرين، لذلك اختارت الجمعية الفلسفية التونسية محنة إبن رشد (1195) توقيت الاحتفاء بالمئوية الثامنة (1995) لذكراها، و لم تختر مولده أو وفاته توقيتاً للذكرى كما هي العادة في الاحتفاء بعظماء التاريخ و لا إختارت تاريخ تصنيفه شروحات أرسطو أو تاريخ و ضعه كتاب تهافت التهافت أو فصل المقال مثلاً. ثانيهما أن الملتقى اقتصرت مباحثه على المسائل العقائدية-السياسية، حصراً دون التعرض إلى غيرها من المباحث الفلسفية التي عجت بها شروحه و مصنفاته [9].

لذلك فإنإبن رشد اليوم لن يكون قادراً، بحسبهم، على أن يوفر لهذا العصر، أكثر مما يمكن أن تقدم مباحثه العقائدية و السياسية، في سياق مواجهة إبي حامد الغزالي (أبو الإسلاميين اليوم)  [10]، و ضمن رؤية تجعل من القطع بدل الإتصال، بين الحكمة و الشريعة أصلاً تأويلياً و فصلاً للمقال. و هي قراءة لا تخلو من معايب جمة ليس أقلها أنها تماثل مماثلة غير علمية بين التجربة التاريخية للإسلام السياسي و العقدي و بين التجربة الدينية المسيحية في التاريخ السياسي لأوروبا القديمة و هي أيضاً قراءة، مع كونها مدفوع لها سابقاً من الإستشراق و من النخب التغريبية العربية منذ أول القرن الماضي و حاضراً من الفرانكفونية [11]، فإنها لاتزال تتحذلق بلَيّ النصوص و اجتزائها دون أن تحضى مع ذلك بإجماع يحسم الباب و ينهي القول في المسألة.

و إذ تقدم هذه النخبة قراءتها تلك، فإنها لن ترى، من أجل معارك التنوير المزعومة، من مانع أن تخذل العقلانية كلما كان لزاماً عليها قياس الشاهد على الغائب و إستدعاء الماضي من أجل الإستنصار به، غير آبهة لسقوطها في منهج أشعري لم تكن منذ بعض الوقت تتردد في أن تحمل عليه. و هي برغم جُـبة الفلسفة الإسلامية التي تتزييَ بها تفصح بمنطق المصادرة على المطلوب في بحوثها عن انحيازها اللامشروط إلى حضارة الغرب العلماني، و بينما يؤكد فلاسفة التنوير أن العقل أعدل قسمة بين الناس جميعاً، تذهب هذه النخبة إلى أن عقل التنوير بمركزيته الأوروبية هو أفضل عقل يمكن أن يتقاسمه الناس جميعاً. و هو ما حدا أيضاً بتلك النخبة أن تخرج عن سكينتها لتشجب بصوتها تارة و بصوت ذيولها تارة أخرى حين وَزعت إحدى فروع الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية في ذات السنة و لنفس المناسبة، روزنامة سنة 1995 من الحجم الصغير، رُسم على خلفيتها صورة لتمثال إبن رشد مكتوب في أعلاها: (العرب أعقل الأمم)  [12] و قد استنكرت تلك النخبة فوراً نسبة صيغة التفضيل للفعل الثلاثي عَـقَـلَ إلى العرب حصراً، معتبرة أن مثل هذه المغالاة في وصف العقل عند العرب لا تستقيم لها حجة ولا تبررها إلا شوفينية متطرفة.

لقد شاءت تلك النخبة أن تعيد إحياء خصومة إبن رشد الأمس، بدعوى الدفاع عن العقل و الفلسفة ضد خطاب الغزالي، لتجعل من خصومتها هي، استمرارا لتلك التي جرت بين الرجلين، دفاعاً عن العقلانية و الحداثة ضد الإسلاميين اليوم، و هي تفعل ذلك غير آبهة إلى حقيقة أن المغاربة لم يكونوا إلى حدود عصر إبن رشد قد تعرفوا على علوم المنطق إلا من مصنفات الغزالي [13] و أن الغزالي ذاته حين صنف المستصفى من علم الأصول، و قد وضع الكتاب و هو في مرحلة التصوف، إفتتح مقدمته بالقول أن علوم المنطق (هي مقدمة العلوم كلها و من لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً)  [14]. و أن أبو الوليد إبن رشد كان يرى في الغزالي منذ (المختصر في المنطق) وهو من باكورة أعماله، إماماً من أئمة النظر و حجة في الأصوليات [15] رغم ما بلغه الخلاف معه في مصنفاته اللاحقة من حدة بالغة لم يكن إبن رشد يخفيها دفاعاً عن الحكمة لكن من غير أن تتعدى حدود التبجيل و التقدير الذين ظل يخص بهما الغزالي منذ باكورة أعماله إلى غاية( فصل المقال). لذلك فإن وضع الغزالي في مواجهة إبن رشد، مواجهة النقيض لنقيضه، محاولة غير منصفة نظرياً، فضلاً عن كونها مغرضة و مفضوح انتماءها و ولاءها. كما لا يستقيم موضوعياً وضع التقابل الذي يراد للرجلين أن يكونا عليه و الحال أنه مثل ما تعرضت مصنفات إبن رشد للحرق في(1195م) كانت قبلها مصنفات الغزالي قد تعرضت للمصير نفسه (1107م) حين أصدر قاضي قرطبة و زملائه، على أيام علي ابن يوسف ابن تاشفين حاكم دولة المرابطين، فتوى تتهم الغزالي بالابتداع فأمر بإحراق كتاب إحياء علوم الدين في قرطبة أمام الناس و نودي فيهم على إمتداد المملكة، بقتل من يقرأه [16].

و لو جوّزنا لأنفسنا قياس الشاهد على الغائب، على نحو ما جوّز أولائك لأنفسهم لقلنا: أن المئوية الثامنة لمحنة إبن رشد سنة (1195) و التي تم إحياء ذكراها في تونس سنة (1995) و كان يراد الإحتجاجة بها حينها على ما يوصف بالظلامية الإسلامية، كانت توافق في واقع الأمر محنة الإسلاميين في تونس بين السجون و التشريد التي دشنت لما سيعرف لاحقاً بمحنة المجتمع التونسي برمته و مكوناته المجتمعية الأصيلة و العريقة. و إذا كان إبن رشد قد اُمتُحنَ من قبل أبي يعقوب المنصور بالإبعاد عن القصر لمدة لم تزد عن السنتين ليعيد إليه التبجيل و الإعتبار بعد ذلك فإن نظام بن علي قد حكم على الإسلاميين في تونس بالمؤبدات و الموت البطيء، و عمم اللعنة لتشمل ذويهم و لتمتد إلى جميع أفراد المجتمع التونسي فلا تستثني أحداً و لتطول محنتهم إلى ما يزيد عن العقد و نصف العقد، في وقت لم يكن في بلاط النظام التونسي وقتها غير فقهاء التنوير من رموز يسار عَقدَي الستين و السبعين، قبل أن يميلوا على شعبهم ميلة واحدة.

و لو جاز لنا قياس الشاهد على الغائب لقلنا أن الحملة الأمنية في تونس على الكتاب الإسلامي في التسعينات من أجل إعدام كتب الإخوان المسلمون: حسن البنا و أبو الأعلى المودودي و حسن الهضيبي و السيد قطب و محمد قطب و سعيد حواء و فتحي يكن و مصطفى السباعي و عماد الدين خليل و ويوسف القرضاوي و كتب الغزالي ذاتها… و ما إستمرت عليه أجهزة الأمن في السنوات الأخيرة من الألفية الجديدة من تعقب لمصنفات إبن تيمية وأبن القيم الجوزية و كتب علماء المدرسة السلفية و معاقبة من يحوزها، كانت أكثر شدة و شراسة من الفتوى التي أصدرها قضاة الدولة المرابطية بحرق كتاب الإحياء و معاقبة قرائه.

و لو جاز لنا قياس الشاهد على الغائب لقلنا أيضاً أن أبو يعقوب يوسف حاكم الدولة الموحدية حين أمر بحرق كتب إبن رشد، كان يحاول إسترضاء الفقهاء من أجل أن يستجمع للدولة قواها و يوحد صفها، في مواجهة قوات ألفونس الثامن ملك قشتالة في معركة جرت عند الأرك، بينما نظام بن علي و فقهاءه من نخبة البلاد لا يزالون منذ التسعينات يغييرون برامج التعليم و يجتهدون لتجفيف ينابيع الفكر و المعرفة لنيل رضا الولايات المتحدة الأمريكية من أجل طمس الهوية العربية الإسلامية للتونسيين و تجهيلهم تحت عناوين مواجهة التطرف الديني في التسعينات و مكافحة الإرهاب في فاتحة الألفية الميلادية الثالثة.

وإذا كان يعقوب المنصور قد خص كتب فلسفة ابن رشد وحدها بقرار الحرق دون الكتب الطبية و الرياضية و الفلكية فربما يشفع له أنه استثنى الكتب العلمية من الحرق و يشفع لدولة الموحدين أيضاً أن بلاطها أجَلّ العلم و أهله و أمر بشرح أرسطوطاليس [17] و هيأ بصورة ما لإنبعاث المدرسة الرشدية اللاتينية لاحقاً التي ستنهض بدور حاسم في نهضة أوروبا و حركة تنويرها. فيما سيقوم بلاط نظام ابن عليّ بالانقضاض على الدور الريادي و المستقل الذي ظلت الجامعة التونسية تخدم من خلاله التنمية العلمية التي كانت تُعَدُ من مكتسبات المجتمع التونسي حصراً. و لقد شكلت النخبة المتحالفة مع نظام الأميّة لبن علي ضرباً من الرشدية السياسية لم يكن مضمونها يزيد عن كونه مشروعاً إستئصالياً للحركة الإسلامية بالدرجة الأولى ثم سيتعداه لاحقاً إلى ضرب التدين الفردي بما يشتمل عليه الإسلام من قيم روحية و اجتماعية ظلت لقرون تنسج للمجتمع التونسي روابطه و تمسك بتوازن مكوناته.

لكن لو تجاوزنا مثل تلك القياسات الأشعرية التي لم تعد ممكناتها العقلية تلبي حجم المشكلات الأساسية التي يعانيها الفكر السياسي اليوم، كما أنها أيضاً ممكنات لن تسمح اليوم لأحد بأكثر من إسترضاء نزوعات شخصية أو حزبية ضيقة يطَمْئنُُ بزيفها الفرقاء من خنادقهم المتقابلة إلى أن أسلحتَهم الإيديولوجية لم يُصبْها الصدأ بَعدُ. فلو تجاوزنا إذاً هذه القياسات الفارغة فستضعنا رغبة استرداد فيلسوف قرطبة كرمز، أمام تنوير خانت النخبة مقدماته بل سيضعنا استرداد فيلسوف قرطبة كرمز أمام مفارقات تجربة حداثوية قادتها الأنتليجنسيا التونسية تحت حراب أجهزة الأمن السياسي، فأجهضت مخاضات عشريات راكم التونسيون خلالها ثمار نبوغهم المدني والسياسي.

إن أولى المهمات التي كان يمكن أن تنهض تلك الأنتاليجنسيا بالاضطلاع بها في حدود صلوحياتها لو أنها قدّرت جيداً راهنية فلسفة ابن رشد اليوم و لو أنها فعلاً عزمت على أن تلعب دوراً طلائعياً من أجل إرساء مقدمات للتنوير، أنها و من مواقعها المتقدمة في مؤسسات دولة السابع من نوفمبر، كان في مستطاعها أن تجتهد لأجل توفير آلية تمويل عمليات نشر رسائل البحث و الدراسات الجامعية المعمقة و تدفع بها أولاً من رفوفها إلى سوق الكتاب لتجعلها في متناول كل قارىء، فلقد كان بإمكان النخب الجامعية التونسية أن تقود حركة للتنوير فعلاً لو أنها أسست للعقلانية آليات تمويل و مؤسسات بحثية و مراكز دراسات و منتديات حوار مستقلة و جعلت من نفسها قطباً معرفياً تنهل من أبحاثها المؤسسات الرسمية و غير الرسمية و المتخصصين من الباحثين وغير المتخصصين و طلبة الجامعة وطلبة الثانويات، و تهيأت تلك المؤسسات والمراكز و المنتديات المستقلة لتكون مرشدة لكل طالب علم من عموم القراء و المثقفين و المعلمين و أستاذة الثانويات و أساتذة الجامعات و الباحثين في علم الإجتماع و علم النفس و العلوم السياسية و القانونية و تتصدر منابر الفكر و منتديات السياسة فتكون لرجل السياسة، أكان في الحكم أم في المعارضة، مراجعاً و لتعمل على أن تُلهم المنظمات و جمعيات المجتمع المدني ما يصلح أن يقوم مقام برامج عملها و ما على أساس منه تتفاضل الأولويات الواجب الإشتغال عليها بقصد تخليص المجتمع من رسوبياته المعيقة للتطور. وهي حين تفعل ذلك فإنما لترسخ بذلك تقليداً جديداً بتعميم المعرفة العلمية و ضرب نهج الإحتكار الذي صار من أسوء عادات النخبة التونسية. و لو أن عزم تلك النخبة على دفع حركة التنوير صادقٌ لكانت شجّعت الأبحاث الأكاديمية باتجاه ما ظل مسكوت عنه من الظواهر الاجتماعية و النفسية و السياسية التي عرفها المجتمع التونسي خلال تحولاته المتعاقبة خلال العقود الخمس الأخيرة و لجعلت من الإشكاليات ذات العلاقة بالتاريخ السياسي التونسي المعاصر، خلال فترة الحماية الفرنسية و بعده، إحدى أهم همومها التاريخية و لقطعت على حزب الدولة سبيل إحتكاره لتاريخ الحركة الوطنية التونسية و لجعلت من القضايا الميدانية ذات الجذور القانونية و الحقوقية أولى مشاغلها من أجل التنمية المدنية و السياسية في تونس.

لقد روّجت تلك النخبة في حينها أن استئصال الحركة الإسلامية، يمكنه أن يؤدي إلى تنقية المناخات المتوترة التي خلقتها أجواء المنافسة السياسية يوم كانت فيها الحركة طرفاً أساسياً في الساحة، و اعتذر النظام حينها و فقهاءه لتأجيله ما وعد به من حريات بسبب انشغله بتسييج معركته مع الإسلاميين، ثم اعتذر بعد ذلك بانشغاله بالتنمية كشرط أساسي لإنجاز حياة ديمقرطية موعودة، ثم اعتذر بـأحداث 11 سبتمبر التي وفرت له مبررات جديدة لتأجيل كل شيىء غير الجاهزية الأمنية و هو اليوم بعد 18 أكتوبر2005 غير معني بتقديم الإعتذارات لأن المعارضة الوطنية التي كان يوّجه إليها خطابه في الداخل صارت، بحسبه، مطعون في وطنيتها لإستقوائها بالخارج….!! و صار يمكنه أن يلفت عناية من في الخارج ممن عبّر عن قلقه بإزاء حالة حقوق الإنسان في تونس إلى ما ترتكبه راعية تلك الحقوق و حاملة تلك القيم (الولايات المتحدة الأمريكية أساساً و الدول المتحالفة معها في حربها على العراق) من تدخلها غير المشروع في شؤون الأخرين و انتهاك حقوق دول ذات سيادة ناهيك عن الإبادة العسكرية الجماعية للمدنيين العرقيين و فضائح التعذيب في أبوغريب. و عليه فقد كان النظام التونسي يجدد خطابه كلما تجددت مبررات استمرار تعطيل الحياة السياسية الرشيدة، و كلما وفرت له الأجواء السياسية الخارجية ما يستعين به مبرراً على استمرار حالة الطوارئ الأمنية على المجتمع التونسي ( الاحتراب الداخلي في الجزائر، التنمية الاقتصادية و مشروع الشراكة الأوروبية، مكافحة الإرهاب الدولي المناهض لقيم الديمقراطية، المعارضة الوطنية التونسية بعد 18 أكتوبر و ادعائه عليها بالإستقواء بالخارج على وطنها……… و هكذا).

كان يمكن لمشاريع التنوير في تونس أن تأسس للعقلانية و العقلانيـة النقدية لو أنها كانت فعلاً طموحاً صادقاً، كما كان يمكن أن نرى في توقيت قياسي ثمار ذلك التأسيس في مؤسسات الدولة و هيآت المجتمع المدني و مكوناته. فالعقلانية التي يمكن أن تنهض بإرسائها النخبة بما هي شرط أساسي من شروط أي حركة تنويرية و بما هي أيضاً شرط من شروط الصحة لحياة أي مجتمع مدني و بما هي بالنتيجة رافعة لكل عقلانية سياسية، كان يمكن أن نرى ثمارها في فصل السلطات التشريعية و القضائية و التنفيذية، لكن حين يُمتحن التونسيون بسطو نظام ابن عليّ على السلطات الثلاثة و تُحوّل وجهتها بفعل إكراهات الأجهزة الأمنية و بمباركة تلك الأنتليجنسيا البائسة فيُنتهك دستور البلاد و تعطل مرجعيته و حين يتحول القضاء أداة لتصفية حسابات نظام ابن علي مع خصومه السياسيين من الإسلاميين و غير الإسلاميين و حين تستعين تلك النخبة بأجهزة الأمن بتخصصاتها لتصنع رأياً عاماً يسكنه الخوف و التسليم فيما ستستمر تلك الأجهزة مستعينة بالصحافة في كيل التهم الباطلة و صناعة الأفلام المسيئة لعرض و شرف الأحرار من التونسيين و التونسيات ممن لا تزال روح الممانعة فيهم تكسر الصمت و حين تتحول المؤسسات الجامعية عن وظائفها العلمية لتعيد إنتاج جيل بدون علم و لا رأي و لا خُلق و لا طموح و حين يُقطع القطر التونسي عن انتمائه العربي و الإسلامي و حين تتحول الحركة الصهيونية العالمية إلى سند أساسي للسياسات التونسية في الداخل و الخارج فإن كل السقوط الذي آلت و ستؤول إليه البلاد لن يكون له من معنى غير الرغبة المبيتة في ضرب العقلانية في تعدد تمظهراتها بما هي شرط التنوير.

لقد كانت العقلانية النقدية هدفاً يوم أريد للجامعة التونسية و مشاغلها العلمية أن تكون غير معنية بالظواهر الاجتماعية و النفسية و السياسية و القانونية المستحدثة التي عادة ما تصاحب نمو كل مجتمع في جميع مراحله الطبيعية، و تركت مشكلاته مبهمة بغير إحاطة علمية لأصولها و منابتها و مستقبلياتها.

و كانت العقلانية السياسية هدفاً يوم قامت الأجهزة الأمنية بالسطو على مؤسسات الدولة و بدل الفصل بين السلطات الثلاث باتت تلك السلطات في قبضة نظام الأمية السياسية و عصاباته و جيىء إلى الأحزاب الوطنية المعارضة فاُريد استئصالها(حركة النهضة الإسلامية) أو تفخيخها من الداخل(حركة الديمقراطيين الاشتراكيين) أو محاصرتها و تضيق الخناق عليها(حزب العمال الشيوعي التونسي و الحزب الديمقراطي التقدمي)…

و كانت العقلانية العلمية هدفاً يوم اُكره المختصون على نموذج إصلاح للتعليم كانت معلومة وقتها نتائجه فكان أن آل التعليم التونسي اليوم إلى وضع كارثي لم يعد يخف على أحد شناعة نتائجه.

و بدلاً من أن نرى ما يمكن أن تستثمره تلك الأنتاليجنسيا المتحالفة مع نظام الأميّة من راهنية فلسفة ابن رشد في تطوير حياة التونسيين المعاصرة و تأسيس لمقدمات الحداثة، صارت المحنة الرشدية واقعاً تونسياً منذ تسعينات القرن الماضي إلى هذه اللحظة. فحين يُعاقب مختار اليحياوي قاضي قضاة البلاد التونسية لدفاعه عن استقلالية القضاء و المحاماة فقد عَاقـَبَ يعقوب المنصور قبله ابن رشد قاضي قضاة قرطبة. و حين يَُزَجُ بمحمد عبو لرأي أفصح عنه على رؤوس الملأ و تُحَاصَرُ أمنياً مؤسسات المجتمع المدني فقد قضى قبلها ابن رشد بضع سنين في العزلة منبوذاً لمقالات للعقل و الحكمة و الحق و الحقيقة أسس بها لغيرنا. لقد صارت محنة القاضي مختار اليحياوي و المحامي محمد عبو و محنة المجتمع المدني عامة بجمعياته و منظماته المناضلة اليوم عنواناً لمحنة العقلانية السياسية في تونس كما صارت محنة البروفسور منصف بن سالم و مائات من الجامعيين و الكتاب عنواناً لمحنة العقلانية العلمية فيها.

لقد كشفت السنون العجاف التي هَـيْمن الاستبداد فيها على مقدرات الدولة و المجتمع في تونس أن النخب الجامعية(الآداب و الفلسفة و العلوم الإنسانية و العلوم السياسية و الحقوقية..بصورة حصرية) التي إنخرطت في حزب الأفاريات [18] و تطوعت في صفوف نظام الأمّية السياسية لم تكن مسؤولة فقط عن مواقفها السياسية الخاطئة بل مسؤولة أيضاً على إجرامها في حق المجتمع التونسي و فئاته. فالدركات السحيقة التي بلغتها البلاد من الحيف السياسي و الاقتصادي و التفاهة الأخلاقية و المعرفية و الثقافية إنما تتحمل تلك النخبة مسؤولية تبريرها. فقد أبانت محنة المجتمع التونسي، إن قُرأَتْ بعقلانية تجريبية، أن نظرية استئصال الحركة الإسلامية، بوصفها مقدمة للتنوير، كانت بلاريب نظريةً لا تاريخية [19كما أبانت ذات المحنة أن التنوير خارج الوفاق الوطني، يظل فعلا ظالما و مشروعاً لحداثة مغدورة في المقدمات و النتائج و يضع هذا التنوير في المحصلة على ذات الدرجة من التساوي للظلامية، ليس بوصفه وعياً زائفاً وحسب، بل أيضاً بصفته الترسانة النظرية للاستبداد./.


[1] في أولى سنوات التسعين من القرن الماضي شنت الدولة الأمنية في تونس حملة تمشيط حقيقية على الكتاب الإسلامي في المدن التونسية، مدينة بعد مدينة وقد رافق هذا التمشيط حملة دعاية استعانت الأجهزة الأمنية فيها بكوادر التجمع الدستوري الديمقراطي و قواعدها من أبناء الشوارع و مليشياته، الشيء الذي أثار في قلوب المواطنين الفزع والرعب وحمل الإسلاميين جميعهم على إعدام كتبهم حرقاً أو غرقاً في الأودية والبحار أو طمراً تحت التراب ومَنْ شقّ عليه إعدام مكتبته الثمينة بكتبها الفريدة أقام عليها جداراً ظلت لأكثر من عشر سنوات، لا هي ترى نور الشمس ولا العقول ترى نورها، ولم يفرج عن بعضها إلا السنين الأخيرة.لكن يجب أن نشير على سبيل المقارنة للأهداف والوسائل التي تفتتح طريق العبور إلى الحداثة المغشوشة حيث في أفريل من سنة2003 أي في الأيام الأولى من الحرب على العراق، وبحسب ما يذكر تقرير الأمم المتحدة فإن 10ملايين كتاب أحرق في بغداد،ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا من أجل أن يتمتع العراق بقيم الديمقراطية والحداثة.

[2] نتحدث هنا عن السادة: محمد الشرفي وحمادي بن جاب الله وعلي الشنوفي وعبد السلام المسدي وعبد المجيد الشرفي وعبد الباقي الهرماسي وزهير الذوادي وعبد الحميد لرقش والصادق شعبان… وآخرون ونحن إذ نشير إليهم بالإسم فإننا نعلم أن أدوارهم في سياق جبهة التحالف مع النظام وحزبه في تلك المرحلة، مع أنها كانت معلنة من قبلهم ولم يواري أحد منهم حينها ما كان يضطلع به من مهمات في نطاق ذلك التحالف إلا أنه يمكننا القول أنه على مستوى الأداء، كانت الجهود بينهم متفاوتة.

[3] تم توزيع شريط: المصير في دور السينما التونسية كما إشتغلت الدعاية له وتثمين جهود إنتاجه وتحليل معانيه البليغة في الصحف التونسية، لكونه شريط سنمائي يروي محنة إبن رشد دون أي أدنى توثيق علمي لمادته التاريخية ومراجعة لوقائعه وهولا يعتمد إلا على قراءة انطباعية ومزاج مخرجه يوسف شاهين وعلى نص سناريست فرنسي الجنسية وقد صُور الإسلام فيه مساوياً للإرهاب وإبن رشد مساوياً للعقل المضطهد.

[4] هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي المعروف بأبي حامد، ولد بمدينة طوس من خرسان في سنة 1058م، عاش في كنف أحد المتصوفين تابع تعليمه في طوس وجرجان ونيسابور حيث تتلمذ على إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وبعد موت الجويني تعرف الغزالي على الملك السلجوقي وزير الدولة ومؤسس المدرسة النظامية في بغداد والتحق بالبلاط خرج سنة478هـ ثم عينه النظّام أستاذاً في جامعة بغداد وداوم فيها على التدريس بين (484_488هـ)، خرج من بغداد وإستقر لفترة بالشام فألف فيها كتابه الأشهر إحياء علوم الدين..قضى القسم الأخير من حياته في العبادة والزهد إلى أن وافته المنية سنة( 505هـ).من أهم مؤلفاته الإحياء والمستصفى من علم الأصول، مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، معيار العلم، محك النظر، المنقذ من الضلال، إلجام العوام عن علم الكلام…. وفي علاقته بدولة المرابطين يمكن أن نضيف إلى ترجمته أنه حين أدرك الضعف ملوك الطوائف بالأندلس وعجزوا على حماية دويلاتهم أمام تهديدات جيوش ألفونس جاء قضاة تلك الدويلات، إلى يوسف ابن تاشفين أمير دولة المرابطين يستنجدونه ويشكون إليه عجز ملوكهم، فإستصدر من قاضي غرناطة وقاضي مالقة فتوى تطعن في أهلية أولائك الملوك وشرعية قيامهم على ممالكهم، كما طلب الفتوى أيضاً من أكثر فقهاء الشرق الإسلامي علماً و شهرة فأيدوه وكان من بين أكثرهم شهرة وقتها الإمام أبي حامد الغزالي.

[5] هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، شارح لمصنفات أرسطو، إشتهر في العالم اللاتيني باسم[AVERROES ]، وباسم [الشارح] أيضاً وهو عالم متبحر في العلوم الشرعية والعلوم العقلية: مثل الفيزياء، والطب والفلك كما في أصول الفقه والفلسفة.
ولد بقرطبة في1126م وتوفي بمراكش في 1198م ينتمي إلى عائلة أندلسية مجيدة.كان جده فقيهاً مالكياً وقاض وإمام بجامع الأعظم بقرطبة.كما كان أباه أيضاً قاض والتراجم تأكد في مجملها على التكوين الشرعي العميق والمتوسع الذي تأهل به إبن رشد في المراحل الأولى من تحصيله.قدمه إبن طفيل إلى الأمير الموحدي أبو يعقوب يوسف ( 1163-1184)، فكُلف بشرح مصنفات أرسطوطاليس وإجلاء ما أغمض من عباراتها. تولى القضاء في أشبيلية سنة(1169) ثم بقرطبة في(1171م)، ولما صار أبو يعقوب خليفة اتخذه لنفسه طبيباً سنة(1182) ثم تولى القضاء مجدداً في قرطبة مسقط رأسه و في منصب أبيه وجده.

[6] صنف إبن رشد كتابه تهافت التهافت ليرد فيه على النقد الذي وجهه الغزالي لأطروحات الفلاسفة الإسلاميين ابن سينا والفارابي في كتابه تهافت الفلاسفة

[7] من كلمة الافتتاح علي الشنوفي رئيس الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية في ملتقي إبن رشد اليوم للأيام 19_20_21مارس1995عن المجلة التونسية للدراسات الفلسفية: عدد19سنة1998.

[8] خلال حكم يعقوب المنصور(1184_1199) ظل ابن رشد يحض بالتبجيل عند الأمير لكن بين سنتي(1195_1197) نال ابن رشد غضب أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي فأبعده من القصر ونفاه إلى مدينة أليسانة اليهودية بالقرب من قرطبة والواقع أن عدة روايات تتحدث عن هذه الحادثة فمنها ما يرد الأمر إلى:أن أبي يوسف يعقوب المنصور وقف من العلوم الفقهية والكلامية والفلسفية موقفاً صارماً وهو بذلك يتراجع عن الموقف الذي إتخذه والده مع ابن رشد حين دعاه إلى شرح مصنفات أرسطو.ومن تلك الروايات أيضاً القول أن الإشاعات التي صارت بين العامة والتي تشير إلى أن أبي يوسف يعقوب المنصور يشتغل بالعلوم العقلية ، فاتجه إلى اظهار محاربته للفلسفة وأصدر أمراً بإحراق كتبها الموجودة في الخزانات ،وقد كان ذلك كما ذهب أغلب المؤرخين رغبة من الخليفة في إسترضاء الفقهاء من أجل استجماع القوة اللازمة لمواجهة النصارى في الشمال، ذلك أن الفقهاء في تلك المرحلة مثلوا قوة سياسية ضاغطة على الخليفة.

[9] من أهم مصنفات إبن رشد من غير شروحات أرسطوطاليس نذكر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد وكتاب مناهج الأدلة في عقائد الملة وتهافت التهافت وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال.

[10] الغزالي أبو الإسلاميين وابن رشد أبو العلمانيين هكذا أصّلت في تاريخ الفلسفة الإسلامية للعلمانيين، الحملة الدعائية المرفقة بالهجمة الأمنية على الإسلاميين في منتصف عشرية التسعينات من القرن الماضي، ومنحتهم بمناسبة حملة الاستئصال تلك، جذوراً لم يكونوا قبل اليوم يدّعونها لأنفسهم، ولا تمسكوا بالانتساب إليها بعد انقضاء الحملة.

[11] في الجامعة التونسية لا يرى بعض المثقفين الصغار من مريدي النخبة المتحالفة مع نظام السابع من نوفمبر، مانعاً أن يعيد كتابة مداخلته من اللغة العربية الى اللغة الفرنسية مقابل إكراميات يغدقها المركز الثقافي الفرنسي عليه، وقد يرتفع الأجر إن تعلق الأمر بتحويرات في المضمون. هذا ويشجع كل من المركز الثقافي الفرنسي والمعهد الفرنسي للتعاون( institut français de coopération) بصورة علنية كل نشاط علمي أوثقافي يُعرض باللغة الفرنسية بصورة كلية أو جزئية.

[12] أنظر الصورة في الأعلى وهي صورة تمثال إبن رشد بقرطبة اختيرت لتكون خلفية روزنامة سنة 1995 وقد كتب في أعلاها عبارة (العرب أعقل الأمم) وهي عبارة منسوبة لإبن المقفع وردت في كتاب العقد الفريد لإبن عبد ربه _ج/1.والذين أعدوا هذه الروزنامة وصمموا خلفيتها يعتقدون أن الإشتغال على توظيف رمزية ابن رشد في وقت انغلق فيه الطوق الأمني على جميع مناشط الحياة في تونس وفي أعقاب زلزال حرب الخليج الثانية وتدمير العراق وفي سياق الهرولة العربية نحو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي ومراتونات المفاوضات المنفردة تحت مظلة اتفاقية أسلو، قد يكون مفيداً ، فبنظر العروبيين والإسلاميين وكثير من الوطنيين من غير العروبيين والإسلاميين، يبدو أن إبن رشد كان يمكنه في تلك اللحظة أن يلعب أيضاً دوراً مضاداً للحلول الأمنية التي اختارت الأنظمة العربية أن تنهجها ضد الحركات الإسلامية كما يمكن لإبن رشد اليوم أن يلعب أيضاً برمزيته دوراً مضاداً للتغريب والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ومناهضة مشاريع العولمة التي دخلت فوراً بعد حرب الخليج الثانية طور التنفيذ.وقد لخصت عبارة العرب أعقل الأمم كل المعاني والقضايا التي تمثل خطاً فاصلاً بين العلمانيين الليبراليين الجدد والذين يتموقعون على جبهة العمل العربي والإسلامي.

[13] مصنفات الغزالي المنطقية هي: معيار العلم، محك النظر، ومقدمة كتاب المستصفى من علم الأصول..

[14] المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي ج/1ـ صفحة 10

[15] المختصر في المنطق: لإبن رشد

[16] لما آل حكم الدولة المرابطية بعد وفاة يوسف إبن تشفين سنة (1106) إلى إبنه، عسر عليه إحكام السيطرة على أطرافها المترامية لقلة التماسك في التنظيم الداخلي للدولة، فصار مرد الأمر فيها للفقهاء الذين تنازعهم الخلاف الفقهي والمذهبي، لكن مع انتشار كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في الأندلس أثار لدى هؤلاء الفقهاء المعارضة فأصدر قضاة قرطبة فتوى اتهموا فيها الغزالي بالإبتداع والهرطقة فاُحرق كتابه في قرطبة على مرأى من الناس وفرضت عقوبة القتل على كل من يقرأه.

[17] كانت شروح إبن رشد لمصنفات أرسطو قد أنجزت بطلب من الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف قبل أن يصبح خليفة على البلاد.

[18] حزب الأفاريات هو التجمع الدستوري الديمقراطي على حد التشخيص الكلينيكي للدكتور منصف المرزقي.

[19] يكتب برهان بسيس في ختام مقاله في جريدة الصباح بتاريخ27أفريل2006 ناصحاً واضعي استراتيجيات نظام ابن علي، بعد أن ألمح إلى فشل السياسات التعليمية و الإعلامية إلى أنه “علينا فعلاً التفكير“، و الواقع أن مثل هذه النصيحة حين تأتي متأخرة بنحو خمسة عشر سنة، فإنها لا تعني أكثر من أن العقل السياسي الذي أدار سياسات الدولة كان في غيبوبة بفعل شهوة السلطة و أن النخبة التي رسمت استراتيجيات الدولة و كانت وراء النتائج الشنيعة التي أفرزها المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة على مستوى أنماط الفكر و السلوك لجيل تربى على نهجها ليست إلا نخبة ظلامية الفكر إنتهازية الأخلاق و أن العقل عند تلك النخبة لم يبلغ بَعدُ لحظة التفكير و لا التفكير عندهم بلغ لحظة الفعل..!!.و برهان بسيس الذي إعتادت السلطة أن تدفع به للواجهة الإعلامية ليحيك حجة يداري بها سوءة النظام كلما عجز النظام على الدفاع عن نفسه إنما يمنحنا بهذه الإشارة البليغة من لدنه الحجة البالغة إلى أن لحظة موت النظام وشيكة لأن وحده الذي يفكر، موجود(أنا أفكر إذن أنا موجود) و طالما أن عزائم النظام على التفكير فعلاً قد خارت فلاريب أن ساعته قد حضرت، و أقلها إحتضاره بالمعنى السياسي.