بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستقيم عمل مؤسّسة ما دون توافق وتفاهم بين الإدارة والموظّفين وفي إطار من الشفافيّة والثقة المتبادلة. ولكنّ الوضع في مركز تونس الدوليّ لتكنولوجيا البيئة بلغ حدّا دفع بالعاملين إلى اللجوء إلى القضاء بعد أن سدّت كلّ أبواب الحوار والتفاهم بينهم وبين السيّدة آمال جراد، المديرة العامّة للمركز.
ويعتبر مركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة أحد الهياكل التابعة لوزارة البيئة والتنمية المستديمة. وقد تمّ بعثه في جوان 1996 وهو مؤسسة عمومية لا تكتسي صبغة إدارية، هدفها تقديم المساندة الفنية للمؤسسات قصد إرساء منظومات التصرف البيئي ومساعدتها على إحكام التصرف في إفرازاتها الصناعية طبقا للمواصفات والقوانين الجاري بها العمل، بالإضافة إلى تعزيز وتكوين القدرات البشرية والمؤسساتية في مجال الحفاظ على البيئة وتولّي عمليّات التحليل والتقييم البيئي وفقا للمعايير الوطنية والدولية، وتطوير التكنولوجيات مع ملاءمتها للواقع الوطني والعمل على تشجيع التكنولوجيات النظيفة ونشر المعلومات البيئية باستخدام مجموعة واسعة من الوسائل. كما يلعب دورا كبيرا في تعزيز التعاون الإقليمي والدولي وهو ما تترجمه الشراكة القائمة حاليّا بين المركز والعديد من المؤسّسات الدوليّة كالبنك الدولي ووكالة التعاون الفنّي الألمانية ونظيرتها اليابانيّة ووكالة التنمية الفرنسيّة وغيرها من الأطراف الدوليّة الأخرى.
ولمزيد تسليط الضوء على حالة الارتباك التي يعيشها المركز منذ ما يزيد عن 4 سنوات، اتّصل بعض العاملين بموقع نواة لاطلاع الرأي العامّ على حجم المشاكل وطبيعتها وتأثيرها على عمل المركز ووزارة البيئة ككلّ.
فكيف بدأت الأزمة وما هي أبرز المشاكل والإخلالات التي دفعت بالعاملين في المركز إلى اتخاذ هذه الخطوات التصعيديّة؟
بداية التجاوزات تعود لعقد من الزمن
بدأت أولى التجاوزات بحسب شهادة العاملين في مركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة منذ سنة 2002 حين تمّ تعيين السيّدة آمال جراد “رئيسة مديريّة” وهي خطّة وظيفيّة لا يعتمدها الهيكل التنظيميّ في المركز، واستمرّت في هذا المنصب المستحدث إلى حدود سنة 2009 حين تفطّن مدير عامّ سابق لهذا التجاوز الخطير وإيقافها عن هذه الخطّة لكن دون أن تتمّ محاسبتها عن الأجر الهامّ الذّي تمتعت به طيلة سبع سنوات في هذا المنصب.
المشاكل إذن كانت قد بدأت مع الإدارة قبل سنة 2010، وتأزّمت الأمور في شهر جويليّة 2010 وتعثّرت المفاوضات بين الإدارة العامة للمركز والنقابة الأساسيّة لتبدأ جولة جديدة من الإحتجاجات والأجواء المشحونة المستمرّة منذ شهر أكتوبر 2011، والتي وجدت طريقها إلى المحاكم لتكون المطالب الأساسيّة اليوم إقالة المديرة العامّة للمركز التيّ عيّنت في هذا المنصب منذ الأوّل من مارس 2012، وفتح ملفّات الفساد التي تنخر المؤسّسة بحسب العاملين.
ملّف الفساد والإخلالات
تضمّن الملّف الذي تحصّلت عليه “نواة” العديد من المخالفات والتجاوزات التي شملت العديد من المشاريع التي تمّ تمويلها من قبل الشركاء الدوليّين بالإضافة إلى المخالفات الإداريّة وسوء التسيير والتصرّف. ودون أن ننجرّ إلى لعب دور القضاء، فإنّنا سنحاول عرض الإخلالات التي وردت في الملفّ وطبيعة الأجواء المشحونة التي تسود هذه المؤسّسة في انتظار أن تحسم المحاكم في هذا النزاع الذي يمتدّ لسنوات وأثّر في مردوديّة المركز وإشعاعه.
مشروع البيئة والطاقة كمثال؛ تجاوزات بالجملة وتأخير غير مبرّر
مشروع ضخم يموّله الاتحاد الأوروبيّ بما قيمته 7,5 مليون دينار لم بلغ نصف مدّة الإنجاز، إلاّ أنّ نسبة تقدّم الأشغال لم تتجاوز 12% رغم صرف أكثر من 800 ألف دينار. ويعزو الملّف المقدّم هذا التأخير إلى عديد الممارسات المتعلّقة بسوء التصرّف والتسيّير من قبل المديرة العامّة والخبير الأجنبيّ Heinz Engel ، الذّي أصرّت السيّدة آمال جراد على التمسّك بع رغم عديد التقارير والتشكيّات الصادرة عن فريق العمل وعن الشركاء والممولّين بخصوص عدم قدرته على تسيير المشروع وعلاقاته السيّئة مع الخبراء المتعاونين ممّا دفع شركة GOPA التي انتدبته إلى قرار عزله والذّي تعطّل بسبب إصرار المديرة العامّة على التمسّك به وإبقاءه صلب المشروع ممّا حدا في النهاية بالعديد من الخبراء المنتدبين إلى تقديم استقالاتهم. ويدور الحديث في المؤسّسة حول أنّ ارتباط مصالح المديرة العامّة بالخبير الأجنبيّ عبر شركة ECE Tunis ، هو الدافع الرئيسيّ لإصرار السيّدة آمال جراد على التمسّك بالخبير وتحدّي الشركاء والمموّلين وطاقم العمل، كما جاء على لسان العديد من العاملين بالمركز.
كما يتناول الملفّ أوجها أخرى للتجاوزات، تشمل تقديم منح مرتفعة للأصدقاء والمقرّبين تضاهي أحيانا نصف المرتّب الشهريّ بعنوان مراقبة مصاريف المشروع بالإضافة إلى استشراء التسيّب وفقدان السيطرة على التسيّير، والتّي أدّت إلى سرقة تجهيزات مخبريّة متطوّرة تمّ اقتناؤها في إطار التجهيزات التابعة للمشروع بقيمة تناهز المليون دينار وتمّ التستّر على اختفاءها وعدم الإذن بفتح تحقيق أو الإعلان عن فقدانها وهو ما يعتبر تصرّفا غير مفهوم وتجاوزا خطيرا يدخل في خانة إهدار المال العامّ.
مشروع البيئة والطاقة لم يكن المثال الوحيد
التجاوزات لم تقتصر على مشروع البيئة والطاقة، ولم تكن حديثة العهد، بل هي امتداد لسياسة متواصلة أدّت إلى توتير العلاقات مع الشركاء والمموّلين في أكثر من مناسبة، وسنسوق هنا أمثلة لعديد المشاريع التي توقّفت أو حدثت بها عديد الإخلالات كما جاء في الملّف:
– مشروع “الإنتاج الأنظف التونسي” المموّل من طرف كتابة الدولة السويسريّة ومنظّمة الأمم المتحدّة للتنمية الصناعيّة والذي ناهزت قيمته 4 مليون دينار، وقد تسبّبت السيّدة آمال جراد في سحب الشريك السويسريّ ثقته من المركز بعد الرفض الغير مفهوم والمفاجئ للمديرة العامّة انتداب خبير أجنبيّ رغم موافقتها على ذلك في اجتماع التوقيع ومصادقتها على محضر الجلسة الذي تضمّن انتداب الخبير.
– مشروع تكوين 10 خبراء مدقّقين بيئيّين خارجيّين والذّي فشل بعد تقاعس المديرة العامّة عن إعداد إجراءات التعاقد التكميلي مع مكتب AFAQ-AFNOR الموكول له مهمّة التكوين ممّا أدّى إلى توتير العلاقة مع هذا المكتب والإخلال بواجبات المركز على مستوى تحقيق الأهداف والمؤشّرات في ما يتعلّق بتكوين الخبراء الذين سيدعمون مشروع التأهيل البيئي.
– التقاعس في المشاركة في اجتماع الانطلاق الرسميّ لمشروع نشر العلامة البيئيّة بحوض المتوسّط المموّل من قبل المفوضيّة الأوروبيّة بقيمة 3,6 مليون دينار، وإنجاز الموقع الالكتروني الخاصّ بالجانب التونسيّ.
– مشروع الاستثمار في قطاع المياه PISEAU II المموّل من طرف البنك الدولي: تمّ توكيل وزارة الفلاحة لتنفيذ المشروع بإشراف من وزارة البيئة، وقد كان من المقرّر أن يكون مركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة شريكا في هذا المشروع الذي تبلغ ميزانيته 255 ألف دينار، ولكنّ المديرة العامّة آمال جراد أصرّت أن تقتصر مهمّة المركز على إسداء الخدمات على عكس رأي البنك الدوليّ ووزارة الفلاحة، وخصوصا في تضارب مع القانون الذي يمنع تدخّل المركز كمسدي خدمات باعتباره مؤسّسة حكوميّة. وقد توقّف انجاز المشروع غلى حدّ هذه اللحظة بسبب هذا القرار وبعد الملاحظات السلبيّة التي وجّهت إليه من طرف البنك الدوليّ.
– تأخّر انجاز العديد من المشاريع الخاصّة بالتحويل التكنولوجيّ والابتكار بقيمة جمليّة بلغت 955 ألف دينار نتيجة التأخّر في نشر تلك العروض رغم أنّ كرّاس الشروط جاهز منذ سنة 2011.
أجواء مشحونة وعلاقات متوترة مع الموظّفين والنقابة الأساسيّة
المشاكل في مركز تونس الدولي لتكنولوجيا البيئة تجاوزت مسألة الفساد والتقاعس المتعلّق بالمشاريع، لتشمل العلاقة بين المديرة من جهة والعملة والموظّفين من جهة أخرى. وقد وردت في الملّف أمثلة كثيرة حول حجم التوتّر الذي يسود المؤسّسة نتيجة فقدان الثقة والتي يعزوها العاملون بالمركز إلى ممارسات المديرة العامّة، كسياسة المحاباة و التنكيل بالإطارات والأعوان وهو ما دفع النقابة الأساسيّة إلى التدخّل عبر إصدار لائحة تتعلّق بتصرّفات السيّدة آمال جراد وتنظيم وقفة احتجاجيّة بتاريخ 1 جوان 2012.
ولم تكن تلك الوقفة الاحتجاجيّة هي الوحيدة من نوعها، بل سبقتها وأعقبتها العديد من التحرّكات الرامية للتعبير عن غضب العملة وضيقهم بممارسات المديرة وتجاهلها لمطالبهم بخصوص تسوية وضعية العمال العرضيّين وتحسين الوضعيات المهنيّة.
ويبدو أنّ هذه الأزمة مستمرّة غلى حين حسم القطب القضائي والقطب المالي فيها بعد أن التجأ الموظّفون إلى المحاكم إزاء صمت وزارة الإشراف على مراسلاتهم العديدة وتغاضيها عن حلّ المشكلة ولعب دورها في تنظيم العمل والإشراف على هذه المؤسّسة.
وإلى حين أن يحسم القضاء المسألة، تتجاوز ابعاد هذا الملّف مجرّد شبهات الفساد وطبيعة العلاقات الوظيفيّة لتضع أكثر من نقطة استفهام حول دور سلطة الإشراف وصمتها إزاء هذه البلبلة في مركز يتجاوز بعده الوطنيّ وينعكس أداؤه على صورة تونس عموما لدى شركاءها في العالم.
[…] […]