dettes-etats-tunisie

بقلم محمد سميح الباجي عكاز

الجوع كافر، وعندما يجوع الفرد فلا معنى عنده حينئذ للشعارات الرنّانة ولن يسكت جوعه الخطابات الرنّانة أو تحفيز الروح الوطنيّة، وهو ما على السياسيّين أن يفهموه خلال معالجتهم لوضع تونس الاقتصاديّ المتردّي. لا شكّ بأنّ الأزمة التي يعيشها الاقتصاد التونسيّ منذ سنوات قد وصلت حدّا خطيرا يهدّد بانهيار لا القطاع الاقتصاديّ فحسب، بل النظام السياسيّ والسلم الاجتماعيّ، فالاقتصاد هو صمّام الأمن والاستقرار، وهو ما أثبتته عديد التجارب في دول عديدة غرقت في الفوضى بعد أن جاعت شعوبها. ومن هنا وجب البدء بالعمل جدّيا على معالجة هذه الوضعيّة التي كانت أحد الأسباب القادحة لانتفاضة الشعب التونسيّ في 17 ديسمبر 2010، والذي ثار لا ضدّ الكبت والقمع والديكتاتوريّة فقط، بل كانت البطالة والفقر والجوع الذي تعرفه فئات واسعة من الشعب الدافع الأكبر للخروج في وجه النظام السابق.

في حواره الموجّه للشعب التونسيّ، كشف رئيس الحكومة مهدي جمعة تفاصيل عديدة تتعلّق بوضعيّة الاقتصاد الوطنيّ، وأعلن عن عديد الإجراءات التي تنوي حكومته اتّخاذها لإنقاذ الاقتصاد هذه السنة. ومن أهمّ ما طرحه مسألة القروض والهبات من الخارج والاكتتاب العموميّ.

فما هو الاكتتاب العموميّ أو ما يسمّى بالاقتراض الوطنيّ؟ وهل تنجح هذه الخطوة في مثل هذه الظروف في إنقاذ الاقتصاد الوطنيّ؟

تونس تفتح باب الاكتتاب العموميّ للمرّة الثالثة منذ الاستقلال

يبدو هذا المصطلح غامضا لدى العديد من المواطنين الذين وجّهت إليهم رسالة مهدي جمعة، فالاكتتاب العموميّ أو الاقتراض الداخليّ ورغم أنّه يدخل حيّز التنفيذ للمرّة الثالثة منذ استقلال البلاد، إلاّ أنّ التباعد الزمني جعله مجهولا لدى الكثيرين. المرّة الأولى التي التجأت إليها الدولة إلى هذا الإجراء كان سنة 1964 حين كانت البلاد ورشة بناء نشيطة وكانت الحكومة آنذاك منكبّة على تأسيس الدولة وخوض معركة تنمويّة صعبة عقب خروج الاستعمار العسكريّ الفرنسيّ، وهو ما جعلها تلجأ للاقتراض الداخليّ لتعبئة الموارد وتوفير السيولة اللازمة التي لم تغطّها القروض الخارجيّة. أمّا المرّة الثانية فكانت سنة 1986 إبّان الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي عرفتها البلاد في أواخر عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وكانت البلاد حينئذ تعاني من ضغوط البنك الدوليّ لإجراء تغييرات هيكليّة كبرى، وغارقة في الديون الخارجيّة والفساد الذي تسبّب في إهدار المال العام وتردّي المستوى المعيشيّ لأغلب المواطنين
. وأخيرا، يبدو أنّ حكومة “التوافق” الجديدة قد اختارت اللجوء لهذا الخيار بعد أن وصلت القروض الخارجيّة حدّا خطيرا أوجب البحث عن مصادر اقتراض جديدة.

يرتكز الاقتراض الداخليّ على مبدأ المساهمة الاختياريّة من قبل الأشخاص الطبيعيّين والمؤسّسات والبنوك وصناديق الاستثمار وشركات التأمين في اكتتاب عموميّ أو ما يمكن تسميته استثمارات متوسّطة أو طويلة المدى على شكل قروض لفائدة الدولة. وتحدّد الحكومة قيمة الاكتتاب وفق الحاجيات والأهداف المرصودة وتتولى بنفسها طرح سندات القرض العام للاكتتاب فيها مباشرة لكل من يريد ذلك، محددة بدء ميعاد الاكتتاب ونهايته، وشروط القرض والمزايا التي تمنح للمكتتبين فيه. ومن ثمّ يتمّ توجيه المبالغ المحصّلة للإنفاق على الحاجيات المحدّدة سابقا فيما يتحصّل المكتتب على عائدات سنويّة قارة حسب حجم سند الاكتتاب أي مبلغ المساهمة.

تبدو هذه الخطّة في قراءة أوليّة أفضل بكثير من اللجوء إلى القروض الخارجيّة وذات بعد وطنيّ بحت يقوم على أساس التكافل الجماعيّ إلى حين مرور ألازمة، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بشدّة في الحالة التونسيّة، هل تستطيع فعلا القروض الداخليّة انتشال البلاد من الأزمة الاقتصاديّة الراهنة؟ وما مدى قابليّة الوضع التونسيّ على الصعيد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ لنجاح مثل هذا الإجراء؟ وأخيرا ما هي حدود هذا الحلّ الذي اقترحه رئيس الحكومة الجديد؟

اكتتاب سنة 2014، والظروف الاستثنائيّة

من الضروريّ قبل وضع البرامج والخطط الإصلاحية لإنقاذ الاقتصاد الوطنيّ الأخذ بعين الاعتبار الوضع العام للبلاد ومدى قدرتها في ظلّ الخصوصيات الظرفيّة على التلاؤم مع القرارات والخطط المقترحة.
باعتراف الجهات المسئولة، ومختلف الخبراء، تعيش البلاد منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات ظروفا اقتصاديّة صعبة للغاية، إذ يستمرّ العجز المسجّل في الموازنات الماليّة رغم الارتفاع الطفيف من سنة إلى أخرى، كما أنّ تفاقم الإرهاب يهدّد بشكل جدّي جهود استقطاب الاستثمارات الخارجيّة وحتّى المستثمرين المحلّيين وهو ما تجلّى في التخفيض المستمّر لتصنيف البلاد الائتماني أو في التراجع الرهيب الذي عرفه الدينار التونسيّ في السنة الفارطة.

لقد أعلن مهدي جمعة بصراحة أنّ العجز المسجّل لسنة 2014 قد بلغ 12 مليار دينار، عجز مهول بالنظر إلى الظروف الراهنة والاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعيّة لهذه السنة. ولكنّ الملاحظة الأهمّ، أنّ سعي الدولة لتغطية هذا العجز سيكون موجّها بالأساس لتوفير مصاريف الإنفاق ومتطلّبات الاستهلاك لا للاستثمار وخلق فرص جديدة للعمل وموارد إضافيّة للدولة. هنا تكمن المعضلة الكبرى، فإذا اعتبرنا وفقا للتصريحات الرسميّة أنّ عمليّة الاكتتاب ستكون أشبه بالاستثمار أو القرض، فإنّ توجيه الأموال لتغطيّة مصاريف الإنفاق سيعيدنا للمربّع الأوّل ومعضلة البحث عن موارد جديدة لمزيد تغطية النفقات الاستهلاكيّة كون المبالغ السابقة لم تستثمر في مشروعات ذات مردوديّة قادرة على تسديد فوائد الاكتتاب واصله.

في ذات السياق، فإنّ الاقتراض الداخليّ لا يؤدي لزيادة الثروة المحليّة وإنما ينقل جزء من هذه الثروة من الأفراد المكتتبين في القرض إلى الدولة أي هو عبارة عن إعادة توزيع لجزء من الثروة الوطنيّة لصالح الدولة. ولكنّ انعكاسه سلبيّ على الاستهلاك، إذ أنّ التقليص من الكتلة الماليّة أو إخراجها من الدورة الاقتصاديّة سيحدّ من نسق الاستهلاك وبدوره سيتراجع الاستثمار الذي لن يتحسّن في ظلّ مثل هذا الانكماش الاقتصاديّ والذّي عمقته سابقا إجراءات البنك المركزيّ الذي رفع من نسبة الفائدة الرئيسيّة كخطوة للسيطرة على ارتفاع نسبة التضخّم دون أن يأخذ بالحسبان انعكاساتها السلبيّة على الاستثمار.
هذا الإجراء الأخير للبنك المركزيّ لم يضع حدّا إلى يومنا هذا لمشكلة التضخّم، وهي هنا مشكلة أساسيّة تقف عقبة أمام نجاح الاقتراض الداخليّ، فتواصل ارتفاع نسب التضخّم سيفقد شيئا فشيئا القيمة المرجوة من الفوائد المنتظرة من عمليّة الاكتتاب، خصوصا أنّها ستستمرّ لخمس سنوات على الأقّل، وإن لم يوضع حلّ لفرملة نسق غلاء المعيشة، فلن تكون العمليّة مشجّعة للأشخاص الطبيعيّين أو المؤسّسات الاقتصاديّة والماليّة.

النقطة الثانيّة، هي سياسيّة بامتياز، فالوضع السياسيّ في البلاد وطبيعة الحكومة الجديدة التي لن يتجاوز عمرها الأشهر وغموض المستقبل السياسيّ في الساحة التونسيّة، كلّها عوامل تلعب ضدّ نجاح هذه الخطوة المقترحة إن سلّمنا بصوابها. فتصاعد الإرهاب واحتدام التجاذبات السياسيّة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابيّ، حيث يحاول الجميع دون استثناء اللعب بورقة الوضع الاقتصاديّ لصالح الحملة الانتخابيّة، يجعل من الأرضيّة الأساسيّة المطلوبة لأيّ إصلاح اقتصادي، ألا وهو الاستقرار الأمنيّ والسياسيّ، غائبا عن المشهد العام في تونس. وهو ما سينجرّ عنه عزوف المساهمين الأهمّ كالشركات والبنوك عن المخاطرة في مثل هذا المناخ.

أمّا على صعيد الأشخاص الطبيعيّين، فلا بدّ من وضع أكثر من نقطة استفهام. فالأزمة المستمرّة منذ 3 سنوات، سبّبت تآكل الطبقة الوسطى بشكل رهيب، ممّا أثّر على مقدرتها الشرائيّة بشكل ملموس، وهو ما يخرجهم تماما من المساهمة في الاقتراض الداخليّ نظرا للأعباء المعيشيّة التي تثقل كاهلهم وهي الشريحة الأكبر والأهمّ من الشعب التونسيّ. وقد قمنا في “نواة” في وقت سابق بسؤال عدد من المواطنين حول رأيهم في الموضوع.

رغم إجماع العديد من الخبراء على أهميّة عمليّة الاكتتاب العموميّ ودوره في حلّ جزئيّ للأزمة الراهنة، إلاّ أنّها تبقى حلاّ ظرفيّا واضطراريّا غير قادر على حلّ مشاكل الاقتصاد التونسيّ برمتّه، فالمعاناة أعمق من أن تنهيها ملاليم المواطنين العاديّين والأزمة أكبر من أن تنفرج بمساهمات الشركات الوطنيّة المنهكة أصلا من ارتدادات الوضع الاقتصاديّ، ورغم أنّ حلّ هذه المعضلة هو الشغل الشاغل للجميع وأولويّة وطنيّة على الجميع تحمّلها، إلاّ أنّ الحكومة للأسف لن تجد في الجيوب الخاوية ما يلبّي حاجياتها، ولن يقدر النسيج الاقتصاديّ المحليّ المتآكل نتيجة تراكم المشاكل الهيكليّة الممتدّة لسنوات من تغطية أزمة المرحلة الراهنة.