المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
بعد سنوات تيه في منافي الأرض واللغة هاأناذا أ ُعيد للغتي سيادتها، و لقلمي هويته، ولورقتي سواد رسوم طالما سحرت شاعريتها عيني. إنها عبارة عن عودة إلى الذات، وممارسة إستقلال وجداني، باعتبار الذات كائناً مستقلاً بالقوة، وإ ن استُعبدت بالفعل.

لا شك أن كلمة الإستقلال من أُولى المفردات السياسية التي نطقناها و ألفناها منذ طفولتنا. إلى تلك الطفولة سأعود بكم لأروي كيف تقبلت، طفلاً ثم شاباً، ذلك اللفظ و ما حمله من معنى. أستسمحكم لكي أمزج ما هو ذاتي بما هو موضوعي سارداً الأُمور كما هي متجنـباً متاهات التنظير و تعقيدات السياسة.

لقد كان أبي من رجالآت حزب الدستورفي مدينة بنزرت . دستوريا ً نشأ و دستوريا ًمات. حمل في مسيرته السلاح و العلَـَم. و طبعت قضية الإستقلال كيانه و كل ما حام حوله، حتى أن قماش الوسادة التي أوسدتني نُسجت من العلَـَم التونسي. أغرا ضه، كتبه، صوره، علاقاته، حكاياته…كل أشياءه كانت تروي قصة الوطن. سِجل صورالعائلة إختلط بسجل الحركة الوطنية. صوره مع حشاد و بورقيبة و شاكر و غيرهم من وجوه الحركة ملأت، و لا تزال، رفوف أثاث بيتنا. لم أكن أميز بين كل تلك الوجوه الغريبة والأليفة في آن واحد. و كانت أمي تصلحني تارةً و تلقنني أخرى : ” لا ، ذاك فرحات حشاد و ليس عمك…بلى هذا هو الهادي شاكر…”

بقدر ما كان أبي دستورياً، أو قل بورقيبياً، بقدر ما كانت أمي يوسفية. نجحت، وهي الطرف الأضعف في تلك المعادلة ، في أن تخلق في بيتنا نوعا من التوازن السياسي. على العكس، لم يتمكن أبي رغم موقعه من أن يفرض القيم البورقيبية على العائلة. ظلت أمي ترتدي السفساري، و ظل بن يوسف بطلها. ظلت تقيم الصلوات الخمس و تنشأنا عليها. و ظل صيام الإثنين و الخميس سنتها رغم جرعات بورقيبة الرمضانية. صورة ” المجاهد الأكبر”، التي كانت تعبير ولاء البيوت الدستورية لبورقيبة، لم تستطع أن تحتل مكانها على جدران بيتنا رغم إصرار أبي. ” تهديد” أمي كان كافيا : ” لا يجتمع وجهي و وجه بورقيبة تحت سقف واحد.”

على هذا الوجه، لم تكن الرواية الرسمية للحركة الوطنية وحدها التي دخلت بيتنا وعقولنا، فقد زاحمها الصوت الآخر. الإمتحان الأول الذي اعترضته الدولة التونسية الفتية، و الذي تمثل آن ذاك في الصراع اليوسفي البورقيبي، أثر إيجابيا على أجواء العائلة حتى أن أمي، عندما كانت حرارة الجدل السياسي تصل ذروتها، تُضرب عن طبخ الطعام و تقول لأبي : ” إذهب إلى بورقيبية ليطبخ لك الغذاء.” أمي التي لا تحسن القراءة و لا الكتابة و التي لا تخرج من بيتها إلا بسفساريها، رغم قدرتها على خلعه، أدخلت لبيتنا ثقافة المعارضة وتقاليد الإضراب. و رغم حبها الكبيرلأبي و سلامة علاقتهما الزوجية فإنها لم تتنازل قط عن قناعاتها و رؤيتها السياسية على بساطتها. حريتها لم تأخذها من يدي بورقيبة. كل أدبيات حزب الدستور و أجهزته الجهوية و مؤتمراته خرجت في بداية السبعينات وراء جثمان أبي. عند بداية الحصة اليومية من مسلسل التوجيهات الرئاسية كانت هي التي تأمرنا بإطفاء الشاشة و إخراس صوة عدوها بورقيبة. و كنا نلبي الواجب بسرور وطني. الإستقلال الداخلي عن الدولة و حزبها و زعيمها ، كسبته أمي.

خرجت إلى الشارع و في صدري كلمة قالتها أمي لم أعيها في حينها : ” إن البلاد التي تجعل من يوم إستقلالها إسم علبة سجائر تتقاذفها أقدام المارة بلاد لا تحترم استقلالها.” الشارع الذي تلقفني لم يكن كغيره من شوارع الجمهورية، رغم الأعداد الهائلة من علب السجائر 20 مارس (قبل أن تُصبح دولية) المتناثرة كغيرها من الفضلا ت هنا و هناك. إنه شارع بنزرت. تلك المدينة التي لم يشملها الإستقلال.

للإستقلال في بنزرت مذاق آخر. كيف لا و تونس استقلت و احتفلت ، ثم أعلنت قيام جمهوريتها و احتفلت ، و بنزرت ظلت قابعة ً تحت نير الإستعمار. تخلى بورقيبة عنها ثم عاد لها ليخوض معركة الجلاء بعد ضغوط داخلية و خارجية مارسها عبد الناصر معية بن يوسف. بدأت لعبة بورقيبة الخسيسة بمجزرة الجلاء وانتهت باغتيال بن يوسف مروراً بإعدام و حبس و نفي الكثيرين من أتباعه المنتمين إلى ما أطلق عليه آن ذاك ” مؤامرة بنزرت”. عرس الإستقلال في بنزرت , الذي كان جلاءً ، نام على أجساد الأبرياء الذين التهمتهم بالوعة بورقيبة السياسية ليغدو على معانات العائلات التي لسوء طالعها أنجبت يوسفياً.

لدهشتي ، وبمجرد دخولي حلبة الشارع ، إكتشفت أن الرواية التي قدمتها لي أمي عن الحركة الوطنية لم تكن فريدة ، إذ ما لبثت أن سمعتها من أحبة جمعتني بهم الصداقة أو الدراسة. غالباً ما كان سرد هؤلاء لأحداث الحركة الوطنية أجلى و أقسى من سرد أمي. فهذا أُعدم أباه، و ذاك مات عمه في منفاه الدمشقي والآخر لا زال يقبع خاله في غياهب سجن ” بنزرت المحررة” ، برج الرومي. لكلٍِ من هؤلاء قصة مع الإستقلال أو فصل قصة. لكلٍ ذكرياته المريرة التي تقاسمناها على هامش الرواية الرسمية و تقيأتها أفواه غضبنا و تمردنا.

عندما وصلنا إلى السنة السابعة من التعليم الثانوي، كانت دراستنا لتاريخ الحركة الوطنية تسلينا حيناً وتغضبنا آخر. و كنا في كلتا الحالتين نتعمد إثارة أستاذ التاريخ الذي كان يجهل ما يدور في خواطرنا و يجهل أيـضاً أن والد أحد تلامذته أعدمه بورقيبة. إجابتنا على أسئلة الإمتحانات كانت تتجنب التبويح بحقيقة ما كنا مقتنعين به. فضلنا، خوفا من الرسوب و طمعاًً في النجاح، الرواية الرسمية على كل الروايات الأخر. مارسنا على أنفسنا فن الرقابة الذاتية. وكان حالنا كحال صحافيي الشروق و الخبر: أبدلنا الدينار بالنقاط و النجاح المدرسي بالنجاح المهني. واكتشفنا يومها أن الرقابة شرطي و أستاذ و دولة و نص وامتحان في التاريخ.

في يوم من الأيام ، عندما قررت إدارة معهدنا إقامة مراسم يومية لرفع العلَـَم ، فررنا، واعتبرنا أن رفع العلَـَم خيانة ً للوطن. الوطن و العلَـَم لا يلتقيان لفضاحة سطو الدولة و حزب الدولة و رئيس الدولة على العلَـَم. العلَـَم في عقولنا كان شعاراً لحزب الدستور، تـُزين به الشُعب الحزبية و يـُعلق في الأماكن التي يـُكذب فيها و يـُنافق فيها، و يُـصفق فيها، و يـَجتمع تحته سماسرة الوطن. العلَـَم كان نشاناً بورقيبياً شأنه شأن النشيد الوطني يحبه رئيس الشعبة و عمدة الجهة و واشي الحارة. و نحن و هؤلاء لا نجتمع على حب شيء واحد. بغضناهم في الوطن ثم في الله و كفرنا بطقوس أعيادهم و جاهلية إستقلالهم. بالنسبة لنا، لم يكن عيد الإستقلال سوى عيد ميلاد ثان لبورقيبة ، يحتفل به من كان وليـًا له. هذا ما علمـَناه شارع و حارات بنزرت العتيقة. كان عيدنا عيد جلاء بنزرت. عيد سرقه منا زين العابدين بن علي ليـحل محلـه عيد سابع نوفمبرِه. لكل رئيس عيدان و ولادتان و نهايتان. تلك هي سنة الأولين من حكام العرب.

خرجت من بنزرت إلى تونس عبر الجسر المتحرك الذي سـُمي رسميـًا على إسم بورقيبة. أهالي مدينة بنزرت ، كعادتهم ، لم يأبهوا بهذا الإسم . تجاهلوه ليطلقوا عليه إسم جسر بنزرت.

دهشتي الثانية كانت عندما صادفت رواية أمي عند طلبة أصيلي العاصمة و الكاف و قفصة و قابس و غيرها من المدن التي لم ترضى بهيمنة بورقيبة. إكتشفت أن مدينتي لم تكن وحدهاالثائرة بل لم تكن أثأر المدن التونسية. كبرت و كبرت أعداد الذين لم يصدقوا يوماً أسطورة الإستقلال، إذ سرعان ما قاسمت نفس شجون السياسة مع طلبة من الساحل. و كانت دهشتي أكبر.

شارع بنزرت الذي علمني أن الإستقلال قناع الإستعمار الأمثل إمتد إلى الوسط و الجنوب طولاً، ثم إلى الشمال الغربي و الساحل عرضاً. إلتصق بشوارع أخرى، بمدن , بقرى و بحارات عتيقة. كلها تحمل سمة الإستقلال التي روتها أمي : علب سجائر تتقاذفها أقدام المارة. تبول عليها قطط الليل حيناً و كلاب الشارع حنينًا.