Uncategorized
JPEG

مع أن الاختلاف عميق وواسع جدا بين نظرية صراع الطبقات وفكرة
صدام الحضارات، سواء على مستوى التحليل أو على مستوى الدوافع والأهداف (جعل ماركس هدفه الإيديولوجي هو تحرير الإنسانية بينما لم يتردد هنتنغتون في حصر هدفه في الدعوة إلى الحفاظ على مصالح الغرب) فإن النموذج الإيبستيمولوجي في كلتا النظرتين -وهذا ما يهمنا هنا بالدرجة الأولى- يبقى هو نفسه. إنه النموذج المهيمن على الفكر الغربي، نموذج “الأنا” التي لا تتعرف على نفسها إلا عبر “آخر”، تختاره أو تشكله وتصنعه بالصورة التي تجعله قابلا لأن يقوم بالوظيفة التي تريدها منه، وظيفة تأكيد “الأنا” لنفسها وبَنْيَنَةِ كيانه

1- العقل الأوروبي ومقولة الصراع

من العبارات ما تستدعي مثيلاتها كما يقع في تداعي المعاني والأفكار!

حدث لي ما يشبه هذا عندما اطلعت لأول مرة، منذ سنوات، على مقالة الباحث “الاستراتيجي” الأمريكي هنتنغتون حول ما أسماه “صراع الحضارات”. لقد استدعت هذه العبارة في ذهني بسرعة البرق عبارة “صراع الطبقات”، ثم سرعان ما انساق خيالي مع المقارنة بين أطروحة هذا الرجل الذي أراد -في أواخر القرن العشرين- أن يفسر التاريخ، الماضي منه والآتي، بمقولة “صراع الحضارات”، وبين أطروحة ماركس الذي أراد الشيء نفسه، في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن باستعمال مقولة “صراع الطبقات”!

افتتح ماركس “البيان الشيوعي” الذي أصدره هو وصديقه أنجلز عام 1848 بعبارة شهيرة قال فيها: “إن تاريخ جميع المجتمعات التي عرفتها البشرية حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات”. وقد توقع ماركس أن يشتد الصراع بين الطبقتين المستقطبتين للسكان في أوربا على عهده، طبقة الرأسماليين وطبقة العمال، لينتهي إلى انتصار الطبقة الأخيرة (البروليتاريا) وقيام مجمع بدون طبقات…

تذكرت نظرية ماركس، التي فقدت بريقها اليوم، عندما وجدت الأستاذ هنتنغتون HUNTIGTON يقرر في مقالته التي كانت أشبه بـ”بيان النظام العالمي الجديد” أن الصراع الذي عرفته البشرية وستعرفه مستقبلا سيكون عبارة عن “صدام الحضارات”. ومع أن الفرق شاسع جدا بين المجلدات التي عرض فيها ماركس نظريته في التاريخ والمجتمع وبين المقالة المحدودة التي عرض فيها هنتنغتون فكرته -ولم يتغير مضمونها عندما ضخمت لتكون كتابا- فإن هناك ما يغري بالقيام بنوع من المقارنة بين الخطاطة العامة التي تعرض نظرية ماركس -كما وردت في “البيان الشيوعي” مثلا- وبين العناصر الرئيسية في مقالة الباحث الأمريكي. إنها مقارنة لا تخلو من فائدة على الرغم من أنها ستكون سلبية، بمعنى أنها ستقوم، لسوء الحظ، على مقارنة أخطاء بأخطاء.

1- لقد نظر ماركس إلى الواقع البشري نظرة عمودية فاعتبر الطبقات المكونة للهرم الاجتماعي، في كل مجتمع، طبقات “عالمية” : فالبرجوازية في فرنسا هي نفسها في إنجلترا وألمانيا… والعمال طبقة واحدة أينما كانوا (“أيها العمال في جميع أنحاء العالم اتحدوا”). وهكذا جعل ماركس من المصالح الطبقية، الحقيقة الاجتماعية التاريخية الوحيدة. لقد أغفل إغفالا تاما الفروق القومية والإثنية والاختلافات الدينية والخصوصيات الحضارية والثقافية معتبرا جميع هذه الجوانب الأساسية في حياة المجتمعات البشرية مجرد مظاهر في بنية فوقية تحكمها القاعدة المادية للمجتمع -أي المصالح الطبقية- التي إذا تغيرت تغير الهرم الاجتماعي بأكمله… ولا يحتاج المرء اليوم إلى بيان خطأ هذه النظرة الأحادية، التعميمية. فالتطورات التي عرفها العالم طوال القرن العشرين وفي العقود الأخيرة منه خاصة، قد كشفت عن أن القومية والدين والخصوصيات الثقافية هي حقائق إنسانية متجذرة في أعمان حياة البشر، وأنها إن خف مفعولها في وقت من الأوقات، تحت تأثير عوامل معينة، فهي تعود بعد زوال هذه العوامل أو ضعفها، لتحتل مكانها كعناصر أساسية ثابتة في الحقيقة البشرية.

وقد لا يقل عن الخطأ الذي ارتكبه ماركس ذلك الذي يرتكبه من يجعل من هذه العناصر- التي تدخل عادة في مفهوم الهوية بمعناها الاجتماعي الواسع الذي يشمل الانتماء السلالي والدين والثقافة الخ – الحقيقة الوحيدة، فينظر إلى التاريخ والمجتمع من منظور معاكس تماما لمنظور ماركس، ويرى فيما يزعم أنه “صدام الحضارات” ما رآه ماركس من قبل في “صراع الطبقات”، معتمدا النظرة الأحادية القائمة على تعميم عنصر بعينه وإغفال العناصر الأخرى. لقد ظهرت مؤخرا فكرة “نهاية التاريخ”، التي تعني “انتصار” النظام الليبرالي وانتهاء الصراع بين الطبقات والأنظمة الاجتماعية الممثلة لها. وقد قام حول هذه النظرية جدل واسع: إذ كيف يمكن أن يكون التاريخ قد انتهى وحياة البشر ما زالت، كما كانت، بكل تناقضاتها وأسباب الصراع فيها؟ وها هي فكرة “صدام الحضارات” تعيد الحياة للتاريخ، ولكن لا بوصفه صيرورة وتطورا إلى الأمام، كما كانت تؤكد الماركسية، وقبلها فكر عصر الأنوار عموما، بل بوصفه صداما تناحريا يتم على مستوى أفقي، وكأن الحضارات جزر معزولة وسط بحر متلاطم الأمواج بفعل رياح عاصفة لا غاية لها ولا هدف، الشيء الذي يجعل من “الصدام” المزعوم بينها حركة في نفس المكان، حركة صدام واصطدام لا تحمل أي تقدم للبشرية.

2- لقد انطلق ماركس كما هو معروف من تحليل المجتمع الرأسمالي في أوربا على عهده ثم عمم النتائج التي توصل إليها على جميع البلدان والحقب التاريخية، فارضا هكذا النموذج الأوربي للمجتمع الرأسمالي في القرن التاسع عشر، كإطار مرجعي، للماضي والحاضر والمستقبل، منطلقا في ذلك من مركزية أوربية واضحة، جاعلا من مصالح الطبقة العاملة الأوربية -التي قال عنها إنها ستحرر بعد انتصارها العمال الكادحين في جميع أنحاء العالم- الهدف الأسمى للتاريخ. وبالمثل اعتمد هنتنغتون الغرب (أوربا وأمريكا) منطلقا ونموذجا ومرجعية: فـ “صدام الحضارات” هو “صدام” بين حضارة الغرب والحضارات الأخرى، وبالخصوص منها الإسلامية والكونفوشية. فـ “الغرب” يؤخذ هنا كـ “أنا” موحد، بل وحيد، والباقي يؤخذ كـ “آخر” يقبل التعدد في ذاته، ولكنه واحد بالنسبة “للغرب”. ومع أن هنتنغتون يسكت عن “المصالح” في مقدمات تحليله فإنه ينتهي إليها في نتائجه، إذ يدعو الغرب إلى العمل على الحفاظ على مصالحه داخل عالم، بل عوالم “الآخر”… ! ولنا أن نتساءل: هل مصالح “الغرب” مصالح واحدة موحدة فعلا؟ وهل التباين والاختلاف، بين مصالح الدول الغربية أقل خطرا من التباين والاختلاف بين مصالح هذه الدول ودول أخرى إسلامية أو كونفوشية؟ وإذا كان من الممكن تجنب الصدام بين الدول الغربية، بعضها مع بعض، وبينها وبين اليابان، رغم تناقض مصالحهما، فما الذي يمنع من بناء علاقات سلمية بين الغرب ودول العالم جميعا وهي تابعة بالغرب أو مرتبطة به ارتباط تبعية أو مصلحة؟

3- يمكن للمرء أن يذهب في المقارنة إلى أبعد مما تقدم، فيلاحظ أن التشابه قائم أيضا في “الاستثناءات” و”التحالفات” : لقد جعل ماركس من البرجوازية والبروليتاريا قطبين للصراع قطريا وعالميا. أما القوى الأخرى الواقعة بينهما (الفلاحون، الطبقات المتوسطة، المثقفون) فهي قوى حليفة، بالفعل أو بـ”القوة”، إما للبرجوازية وإما للبروليتاريا. ومثل ذلك فعل صاحب فكرة “صدام الحضارات” بالنسبة لقوى حضارية تقع خارج “الغرب” وخارج “آخر”هِ، المتمثل في الشرق الإسلامي والكونفوشي، فاعتبر بعضها قابلة للانضواء تحت لواء الغرب أو تريد هذا الانضواء، مثل اليابان وروسيا، بينما استبعد قوى أخرى، أو همشها، رغم قربها من الغرب حضاريا (على صعيد الدين واللغة والثقافة) مثل أمريكا اللاتينية. وهكذا فالتشابه على صعيد مكونات القاعدة (أو القانون) يستدعي تشابها مماثلا على مستوى الاستثناء (أو الحالات الشاذة). وغني عن البيان القول إنه إذا كانت “القاعدة” لا تستند على أساس معقول فإن الاستثناء سيكون هو الآخر غير معقول، غير مبرر! فما الذي يجعل الصين أقرب إلى العرب والمسلمين من اليابان؟ وما الذي يجعل اليابان أقرب إلى الغرب منها إلى الصين، هل الحضارة والثقافة أم المصالح؟

ومع أن الاختلاف عميق وواسع جدا بين نظرية صراع الطبقات وفكرة صدام الحضارات، سواء على مستوى التحليل أو على مستوى الدوافع والأهداف (جعل ماركس هدفه الإيديولوجي هو تحرير الإنسانية بينما لم يتردد هنتنغتون في حصر هدفه في الدعوة إلى الحفاظ على مصالح الغرب) فإن النموذج الإيبستيمولوجي في كلتا النظرتين -وهذا ما يهمنا هنا بالدرجة الأولى- يبقى هو نفسه. إنه النموذج المهيمن على الفكر الغربي، نموذج “الأنا” التي لا تتعرف على نفسها إلا عبر “آخر”، تختاره أو تشكله وتصنعه بالصورة التي تجعله قابلا لأن يقوم بالوظيفة التي تريدها منه، وظيفة تأكيد “الأنا” لنفسها وبَنْيَنَةِ كيانها.

يمكن للباحث أن يكتشف رسوخ هذا النموذج الإيبستيمولوجي في العقل الأوربي منذ فجر تاريخه : فمنذ اليونان والعقل الأوربي لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، فبارمينيدس مثلا لم يستطع الكلام عن “الوجود” إلا من خلال طرح “اللاوجود” ولا الحديث عن المتناهي إلا من خلال اللامتناهي. وعندما قام تلميذه زينون الإيلي للدفاع عن أطروحات أستاذه بنى حججه على فكرة “أن كل سلب تَعَيُّن”. وسيأتي سبينوزا في العصر الحديث ليؤكد العكس ويقول “إن كل تعيُّن سلب”. ولم يفعل هيجل شيئا آخر سوى أنه جمع بين فكرة زينون وفكرة سبينوزا ليؤسس الديالكتيك عليهما فيقرر: “كل تعين سلب وكل سلب تعين”! وهذا النوع من الترابط بينهما هو الذي يصنع “التركيب” الذي يتحول بدوره إلى أطروحة تستدعي نقيضها، وهكذا دواليك… ومن هنا أهمية النفي عنده وفي التقليد الفلسفي الأوربي عموما: فالإثبات لا يقوم إلا عبر النفي، والأنا لا تتحدد إلا عبر الآخر، وكما قال سارتر: “الآخر ضروري لوجودي “. وفي الجملة فالعقل الأوربي لا يرى العالم إلا من خلال تقابل الأطراف، كتقابل الأنا والآخر، تقابل تضاد وصراع. وهكذا فسواء تعلق الأمر بالمثالية (هيجل) أو بالمادية (ماركس) أو بالوجودية (سارتر) أو بغيرها من مذاهب الفكر الأوربي، فإن الوجود، ميتافيزيقيا كان أو سيكولوجيا أو اجتماعيا، ينظر إليه على أنه صراع بين أضداد. بل إن اللاهوت المسيحي نفسه يحكمه التقابل والصراع بين “الخطيئة” و”الخلاص”، بين الابن والأب
الخ. وللموضوع بقية


2- بدلا من صراع الحضارات : توازن المصالح!

في المقال السابق تحدثنا عن مقولة “الصراع” في العقل الأوربي في سياق تحليلنا لمفهوم “صراع الحضارات”. واليوم نعرض لمفهوم “الأنا والآخر” في السياق نفسه، فنقول :

يستطيع الباحث، على صعيد التعرف على الهوية، أن يجد بسهولة في الفكر الأوربي ما يؤكد أن “الأنا” في هذا الفكر لا تتعرف على نفسها إلا عبر “آخر” تضع نفسها كقابل له، كذات تدخل معها في صراع! وهكذا فمنذ اليونان والرومان و”المواطن” يتعرف على هويته من خلال “العبد” داخليا و “البرابرة” خارجيا. أما في القرون الوسطى فلقد كان “الإسلام” (أو العرب) هو “الآخر” الذي تتعرف من خلاله أوربا المسيحية على نفسها. أما في العصر الحديث، ومع انتشار الرحلات والاستكشافات الجغرافية وذيوع الفكر العلماني، فإن ثنائية “شرق/غرب” أصبحت تحكم حديث الأوربي عن نفسه. واستمرت هذه الثنائية في التغلغل داخل العقل الأوربي إلى درجة أن مفكرا إنجليزيا لم يستطع تحديد “الغرب” إلا بقوله : “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”، وكان الشرق يعني آنذاك الشرق الأوسط والشرق الأقصى معا.

وعندما قام الاتحاد السوفيتي حل “الآخر” الشيوعي محل “الآخر” الشرق، فصار الغرب يتعرف على نفسه من خلال نقيضه على صعيد النظام الاقتصادي : العالم الشيوعي الذي يمتد شرق أوربا الغربية ليشكل الشرق الجغرافي النسبي Eastالذي سيحل محل Orient الشرق (الأوسط والأقصى)، كما حل بالمقابل لفظ West الغرب الجغرافي محل Occident الغرب الحضاري، فصار الغرب يتعرف على نفسه من خلا Eastالذي يعني شرق أوربا وروسيا، وصار التقابل هذه المرة بين East-West وليس بين Orient-Occident. ولعل ما لا ينتبه له كثيرون أن التقابل الأول تقابل جغرافي محض بمعنى أن الحضارة واحدة وأن الاختلاف في المنهج المتبع في المجال الاقتصادي وحده. أما التقابل الثاني فهو تقابل حضاري على الرغم من أن المنهج الاقتصادي واحد!

ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي برزت ثنائية شمال/جنوب لتحل محل ثنائية غرب/شرق بعد أن لم يعد “الشرق” قابلا للتوظيف في التعرف على “الأنا”/ الغرب بعد سقوط الشيوعية… وكما استعمل العقل الأوربي الجهات الجغرافية المتقابلة (شرق غرب، شمال جنوب) للتعرف على نفسه استعان أيضا بالألوان لنفس الغرض. وهكذا فـ “الآخر” هو تارة “الخطر الأحمر” وتارة “الخطر الأصفر” وتارة “الخطر الأخضر “(= الإسلام ).. وهاهي فكرة “صدام الحضارات” تجمع بين هذين الأخيرين تحت اسم “الحضارة الإسلامية الكونفوشية”، وفي جميع الأحوال يتم السكوت عن اللون “الأبيض” لأنه هو المطلوب تعريفه.

إلى هذا النوع من التقابل ينتمي مصطلح “حضارة” (في عبارة صراع الحضارات) في الفكر الأوربي، فقد ظهر مصطلح “حضارة أول ما ظهر كمقابل لحياة “المتوحشين”، في عصر الأنوار في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم انتشر في القرن التاسع عشر حتى إن نابليون قد استعمله مخاطبا جيوشه في حملته على مصر قائلا: “أيها الجنود، إنكم ستقومون بفتح سيكون له على الحضارة وعلى العالم تأثيرات لا تقدر”.

وهكذا فغزو نابليون لمصر هو نقل لـ”الحضارة” من أوربا إلى خارجها : في أوربا يعيش “المتحضر”، أما خارجها فيعيش “المتوحشون”. ومن هنا تلك ا لنظرة الأوربية التي ترى في التوسع الاستعماري عملية “تحضير” : نقل الشعوب الواقعة خارج أوربا من حالة التوحش إلى حالة الحضارة. يقول دولباخ : “إن “التحضير” الكامل للشعوب وللرؤساء الذين يحكمونهم وإصلاح الحكومات والعادات والتجاوزات إصلاح مرغوب فيه ولا يمكن أن يكون إلا من عمل قرون” (يجب أن نضيف : من الاستعمار). وقد عبر فرويد بقوة ووضوح عن هذا المعنى، أعني التقابل بين “الحضارة” و”التوحش”، فقال : “تدل كلمة حضارة على مجموع الأعمال والتنظيمات التي إذا نحن أقمناها أبعدتنا عن الحالة الحيوانية التي كان عليها أجادنا”! ومعنى ذلك أن ما أقامه العرب من حضارة هو وحده الذي يرفع الإنسان عن درجة الحيوان. أما الحضارات الأخرى السابقة فمسكوت عنها لأن العقل الأوربي، بما فيه عقل كبار العلماء، أمثال فريد تحكمه المركزية الأوربية!

هل نخلص من كل ما تقدم إلى القول “إن نظرية صدام الحضارات” إنما تعني اصطدام الأنا الغربي “المتحضر” بالآخر الإسلامي/الكونفوشي المتوحش”؟

إن هناك في التحليل الذي اعتمده هنتنغتون ما يجر إلى هذا النوع من التأويل. ذلك أن العنصر الأساسي، الذي تعتمده نظريته في التمييز والفصل بين “الغرب” والأمم الأخرى التي تضعها في مواجهة معه، هو عنصر “الأسلحة المتطورة”: الغرب يملك هذه الأسلحة ويجوز له ذلك لأنه عاقل متحضر، أما الأمم الأخرى فلا ثقة فيها لأنها غير متحضرة، وبالتالي يجب أن لا تملك الأسلحة المتطورة. والدليل الذي يقدمه هنتغتون على تعقل الغرب وتحضره أنه، “يروج لفكرة الحد من انتشار الأسلحة كمقياس عالمي”، كما يروج أيضا لمبدأ عقد معاهدات للحد من انتشار الأسلحة ومراقبتها كطريقة لتحقيق ذلك المقياس”! هذا بينما تسعى الدول الأخرى (الآخر للغرب) مثل الصين وكوريا وإيران لاكتساب السلاح المتطور. هناك إذن طرف “يحدد ويمنع نمو تكديس الأسلحة في الوقت الذي يقوم فيه بتخفيض قدراته العسكرية الخاصة به، وطرف يطور أسلحته”. الطرف الأول متحضر والثاني…؟

إن منع الأسلحة الفتاكة من الانتشار من جهة، وتدمير الموجود منها من جهة أخرى، عمل حضاري لا شد فيه، بل إنه واجب إنساني، ولكن منطق صاحب نظرية “صدام الحضارات” في هذا الصدد منطق غير مستقيم: إنه يقبل بوجود السلاح النووي عند بعض الدول ولا يقبل بوجوده عند دول أخرى، ولا مبرر له في ذالك إلا كون الدول المالكة للأسلحة النووية لم تستعملها (لنسكت عن هيروشيما وناكازاكي) بينما أن الدول التي تسعى لاكتسابها لا ثقة فيها لأنها تنتمي إلى أمم غير “متحضرة”… و “معادية” للغرب، ولذلك فمن المحتمل أن تستعملها !

إن المقارنات السابقة قد يكون فيها بعض التجاوز أو الخلل على مستوى الصرامة المنطقية، ولكن المقارنة هي كذلك دوما. فالمقارنة ليست برهنة، ولكنها مع ذلك وسيلة مفيدة للتوضيح. ولا شك أن المقارنات التي قمنا بها قد أبرزت بوضوح أن عبارة “صدام الحضارات” تخفي أو تريد أن تخفي حقيقة اجتماعية تاريخية تكتسي اليوم طابعا دوليا لم تعرفه من قبل، هذه الحقيقة هي أن ما يهدد الاستقرار والسلام في عالم اليوم أكثر من أي وقت مضى هو صراع المصالح، وهو أشبه ما يكون بـ ” الصراع الطبقي” على مستوى عالمي.

يذكرنا هذا السياق من التفكير بمفهوم كان قد ظهر في أواخر الخمسينات من هذا القرن عندما أخذ الاستعمار الكلاسيكي يتراجع ليترك المجال لقيام دول مستقلة، سرعان ما بدا واضحا للعيان ذلك الفرق الشاسع بينها وبين الدول المصنعة. لقد ولدت الدول المستقلة تلك، التي شكلت ما سمي بـ”العالم الثاث” في حالة من “التخلف” بالمقارنة مع الدول التي كانت تستعمرها من قبل، والتي بقيت تتحكم في اقتصادياتها، مما جعل العلاقة بين الطرفين تبدو لبعض الكتاب آنذاك في صورة علاقات طبقية على مستوى عالمي. ومن هنا وصفت أمم البلدان المستقلة حديثا بكونها “أمم بروليتارية”.

إن من ينظر إلى الوضع العالمي المعاصر نظرة موضوعية، متحررة منطق المركزية الأوربية الغربية، سيرى نظاما تسود فيه علاقة معينة هي علاقة النظام الرأسمالي العالمي بالبلدان التي كانت تشكل “العالم الثالث” والتي أصبحت بحق، في النظام العالمي الجديد، في وضعية “الأمم البروليتارية”. فسلوك الدول الغربية والنظام الاقتصادي العالمي الذي تفرضه، سواء عبر العلاقات الثنائية أو عبر المنظمات والأجهزة الدولية، يجعل علاقاتها مع البلدان الفقيرة وغير المصنعة عموما، علاقات استغلال. والصراع أو الصدام في هذا النوع من العلاقات هو صراع المصالح وليس صدام الحضارات.


ما الفرق بين التعبيرين؟

على العكس مما قد يتبادر إلى الذهن فإن عبارة “صراع المصالح” تفتح المجال لمعالجة عقلانية للصراع. فصراع المصالح معقول، أي يمكن حصر أسبابه وفهمها والسيطرة عليها، ومن ثمة يمكن حله عقلانيا، وذلك بالعمل على تحقيق الحد الأدنى من توازن المصالح، وهو شيء ممكن، وبالتالي فهو لا يؤدي حتما إلى الحرب. والمثال على ذلك ما حققه الغرب الصناعي في أقطاره من توازن بين الطبقات وذلك بما سنه من قوانين اجتماعية وسلالم متحركة للأجور وضمان اجتماعي وتعويضات عن البطالة الخ، مما كذب مقولة ماركس حول “الفقر المطلق” وحتمية الثورة في أوربا. أما عبارة “صدام الحضارات” فهي مقولة غير معقولة لا تقبل المعالجة العقلانية، وهي قبل ذلك وبعده مقولة غير صحيحة. إن العلاقة بين الحضارات أمس واليوم ليست علاقة تصادم بل علاقة تداخل. والصدامات والصراعات التي حدثت داخل الحضارة الواحدة كالحضارة الأوربية مثلا هي أكثر عددا وأوسع تدميرا من تلك التي حدثت بين دول تنتمي إلى حضارات مختلفة. وقد تكفي الإشارة إلى أن الحربين العالميتين اللتين عرفهما التاريخ البشري قد حدثتا داخل الحضارة الغربية وبفعل تناقض المصالح فيها. إن عالم اليوم يعيش أكثر من أي وقت مضى ظاهرة تداخلالحضاراتفي كافةالمجالاتبحيثلانجانب الصواب إذا نحن قلنا إن العالم اليوم يعيش حضارة واحدة تشارك فيها جميع الشعوب (هل يجوز مثلا تجاهل دور العمال الأجانب في إعادة بناء أوربا بعد الحربين العالميتين؟ وهل يجوز تجاهل دور الأدمغة المهاجرة سواء في أوربا أو أمريكا؟ وهل يمكن فصل المصنوعات اليابانية /الكورية /التايلاندية الصينية عن المصنوعات الأوربية/الأمريكية؟ ثم هل يمكن نسيان أن الحضارة الحديثة تدين في وجودها للحضارات الشرقية القديمة وأنها ترتبط مباشرة بالحضارة الإسلامية؟ إن العالم اليوم يعيش حضارة واحدة شاركت وتشارك جميع الشعوب في صنعها، وبالتالي فهي حضارة إنسانية بمعنى أنها من صنع الإنسانية جمعاء طوال تاريخها المديد.

نعم هناك خصوصيات حضارية وثقافية وإثنيات وقوميات وهي مكونات متجذرة في الحياة البشرية كما نوهنا بذلك من قبل، وهذه جميعا لا تحكمها علاقة وحيدة الاتجاه، بل تربطها علاقات تداخل وحوار في إطار من الاحتكاك على هذه الدرجة أو تلك من الشدة. ولا يكتسي هذا الاحتكاك صورة صدام إلا إذا كان يحركه صراع المصالح. وإذا كنا قد أبرزنا من قبل جنوح الفكر الغربي طوال تاريخه المديد إلى إعطاء أهمية كبيرة للنفي ولمقولة “الآخر” فإن ذلك لا يعني في نظرنا أن الأمر يتعلق بخصوصية حضارية أو ثقافية ينفرد بها الغرب، بل إن الأمر يتعلق بظاهرة بشرية عامة، فكرية وسلوكية، يمكن أن تبقى محصورة في مستوى العلاقات السلمية البناءة، علاقات الحوار والتلاقح والإغناء المتبادل، في إطار الإعتراف بحق الاختلاف، وهي لا تتحول إلى مستوى الصدام إلا إذا حركها الميل إلى الهيمنة، إلى الانسياق مع منطق المصالح، منطق الأنانية.

وإذن، ففي عصرنا الراهن، كما كان الشأن في جميع العصور، نوعان من العلاقات على الصعيد العالمي: هناك علاقة “تداخل الحضارات” وهي علاقة سلمية تتجلى اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في انتشار المنتوجات الصناعية والمعارف العلمية ووسائل المواصلات والاتصال والتواصل، وهناك علاقة “صراع المصالح” وهي علاقة عدوانية في الغالب، ولكن ليس من الحتم وقوع الصدام والانفجار، لأنه من الممكن جدا إقرار التوازنات الضرورية التي من شأنها أن تخفف من تناقض المصالح وتفتح المجال واسعا للتعاون الدولي في إطار من التعايش السلمي. ولقد غدا من الكلام المكرور التنبيه إلى أنه لو صرفت نسبة 10% من ميزانيات “الدفاع” والتسلح لدى الدول الصناعية الكبرى في مشاريع تنموية هادفة في البلدان التي وصفنا سكانها قبل بأنهم “أمم بروليتارية”، لصار شبح الصدام بعيدا جدا ولانفسح المجال أكثر وأكثر للعملية التاريخية التي تسود عصرنا، عملية تداخل الحضارات وتلاقح الثقافات. إنه اليوم فقط، بعد نهاية الحرب الباردة، بات التعايش السلمي ممكنا حقا. وكل شيء يتوقف في هذا المجال على الغرب، على طريقة تعرفه على ذاته وتعامله مع “الآخر”. إن العلاقات الدولية هي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى التزام قواعد جديدة للتعامل مع الآخر، قواعد قوامها فهم الآخر من داخل منظومته المرجعية، والاعتراف بحق الاختلاف في إطار توازن المصالح وتكفؤ الفوص والتفاهم الذي يعني في نفس الوقت : التسامح.

وبعد، فقد أسهبنا في الحديث عن “صراع الحضارات” وانتهينا إلى أن هذه مقولة خاطئة غير بريئة، وأن المقولة البديلة والصحيحة هي “توازن المصالح”. يبقى الكلام عن المقولة التي يروج لها عندنا نحن: مقولة “حوار الحضارات” أو حوار الثقافات”. والموعد المقال المقبل.

محمد عابد الجابري