لامرية في أننا نحن المسلمين من دعاة الحوار، لا انطلاقا من مواقف آنية، ولا استجابة لظروف وقتية، ولكن لأن مبادئ ديننا تدعو إلى ذلك، وتحث عليه، تجسيدا لوحدة النوع الإنساني، وترسيخا لمبدأ سواسية الناس في الخلقة، وتحقيقا لإرادة الله عز وجل في جعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ذلك التعارف غير المقصود لذاته، وإنما لما يثمر من تعاون لخير الجميع. إذ التمايز ـ في رأينا ـ هو تمايز تناقض.
ولكن يجدر بنا أن نحدد ـ قدر الإمكان ـ معنى المصطلحات التي نستعملها، لأن كثيرا من الالتباس المؤدي إلى الاختلاف ناتج عن الخلاف حول دلالات المصطلح، وأن المسألة لاتنحصر في حدود فقه اللغة، بل تتجاوزها إلى أبعاد سياسية وثقافية وأيديولوجية.
فما المقصود ـ إذن ـ بالحضارة، وعلاقتها بالثقافة وبحوار الحضارات ؟
إن الثقافة في أدنى مستوياتها هي مجموع الاستجابات والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب ـ بحسب عبقريته ـ ضرورات وجوده الطبيعي من مأكل وملبس وتناسل، أما على المستوى الأرفع فإن للثقافة أوجها ثلاثة هي:
تنمية الفكر وترقية الحس النقدي، تكوين الحس الجمالي وإرهاف الذوق، والاستمساك بالقيم وغرس الحس الأخلاقي.
وإذا كان مفهوم الثقافة ينزع إلى الخصوصية، فإن الحضارة تنزع إلى العمومية. فالثقافة هي الحضارة الخاصة بأمة من الأمم، لايشاركها في شأنها أحد، تحمل صيغة هذه الأمة، وتتسم بسماتها، ووراء كل حضارة دين، وقد تصب عدة ثقافات في نهر حضارة واحدة. فالثقافة العربية التي ننتمي إليها هي في أدنى مستوياتها مجموع تقاليدنا وعاداتنا، أما على مستواها الأعلى فهي النهج الذي نهجه الغزالي في الجانب الروحي، وابن رشد في الجانب الفكري، وابن حزم في الجانب الأخلاقي، وابن خلدون في الجانب الاجتماعي. ونشكل ـ نحن العرب ـ بثقافتنا مع ثقافات أخرى ـ الفارسية والتركية ـ أقول ـ نشكل الحضارة الإسلامية التي ساهمنا جميعا في إنشائها وإثرائها.
إن هذه الحضارة الإسلامية التي سادت الكون بالعلم والعقل والعدل في نهاية الألفية الأولى من التقويم الميلادي، عرفت بعد ذلك فترة انحدار ثم فترة انحطاط دام قرونا، وهي اليوم ـ ونحن على أبواب الألفية الثالثة ـ تواجه أزمة مزدوجة: فهي تبحث ـ من جهة ـ عن مشروع نهضوي لتعيش مع العصر، وهذا لن يتأتى بالقطيعة والجهل، ولكن بالحوار والفهم.
وتعاني ـ من جهة أخرى ـ عداء للحضارة الغربية التي بدأت ـ منذ انهيار الشيوعية تزعم وجود خطر من الإسلام، وتريد أن تصرف مشروعنا النهضوي عن مرجعيته الإسلامية برفع شعارات خلابة مثل الحداثة التي في رأيها قطيعة مع العروبة والإسلام، أو بالتركيز على تاريخ ماقبل الإسلام كإبراز الفرعونية في مصر، أو الأشورية في العراق، أو الفينيقية في لبنان، أو البربرية في المغرب والجزائر.
لقد كان الحوار دائما المبدأ الأساسي في معاملة المسلم لغيره، إنه حوار يقوم على المجادلة بالتي هي أحسن، وعلى الإقناع بالمنطق السليم الذي لايستسيغ الربط بين الحضارة والصدام، لأن الصدام يجب ألا يكون مبادرة المسلم، فهو يؤدي إلى الدماء والدمار، بينما الحضارة معناها العمران والسلام.
من الصدام إلى الحوار
إن تاريخ العلاقات بين الحضارتين الإسلامية والغربية عرف فترات حوار وتفاعل، وفترات صدام وتطاحن، والغزو الحديث للأمة الإسلامية جاء بالسيف والمحراث كما قال المارشال بيجو Bugeaud، أو بعبارة أخرى جاء بالمدفع والنهب الاقتصادي ثم تلاه غزو فكري ارتكز على الثالوث المعروف: الاستعمار والتنصير والاستشراق، لأن غزو العقل يضمن له تأييد تبعيتنا له حتى بعد انتهاء الاحتلال العسكري، وهكذا نصبح ونحن نتبني النموذج الغربي، ونتخلى عن المرجعية الإسلامية في مشروعنا النهضوي في الحكم والإدارة والتشريع.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تعاملنا مع عالم ثنائي القطيعة:
معسكر غربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، ومعسكر شرقي تحت قيادة الاتحاد السوفييتي.
وقد حاولنا ـ نحن المنتسبين إلى العالم الإسلامي، أو الجنوب، أو العالم الثالث ـ أن نستفيد من التناقضات بين القطبين لطرح بعض قضايانا وإيجاد حلول لها.
ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك المعسكر الشرقي تميز الوضع العالمي بهيمنة الحضارة الغربية التي انضوى تحت لوائها الاتحاد السوفييتي، حتى طمع الغرب أن تسلم له الحضارات وهي: الفردية، والليبرالية، واقتصاد السوق، وحقوق الإنسان، والديمقراطية.
وقد أدرك المفكرون الغربيون أهمية المتغيرات على الساحة الدولية بعد انهيار الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة، فدعا بعضهم إلى حوار الحضارات، وركز بعضهم على صدام الحضارات. والعجيب أن وسائل الإعلام ـ في عصر تسلط وسائل الإعلام ـ لم تبرز إلا النوع الثاني من المفكرين، وهكذا أصبح اسم فوكوياما وهيتنجتون من الأسماء اللامعة. فالأول بشر “بنهاية التاريخ”، والانتصار النهائي للنسق الغربي، وأما الثاني فحذر من خطر الإسلام، وأوصى الغرب أن يحاول منع أي تحالف بين الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشيوسية، وأن يوثق الأواصر داخل دائرته الحضارية، ويدخل في عصبيته أوربا الشرقية، وحتى اليابان.
والدليل على إبراز هذه الأفكار من طرف وسائل الإعلام هو أن أبرز ساسة الغرب عبروا عن الأفكار نفسها، بدءاً من الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون إلى الأمين العام الأسبق للحلف الأطلسي ويلي كلاوس مرورا برئيس الحكومة الفرنسية الأسبق بالادور، كلهم حذروا من خطر الإسلام.
ولا بد أن يتوافر شرطان في الحوار نفسه وهما يتركزان في:
أ ـ ألا يقوم على الروح التنصيرية، بل على المبدأ القرآني القائل: لا إكراه في الدين .
ب ـ أن يكون شاملاً، وألا يقتصر على رجال الدين والفكر، بل لابد أن يشمل رجال الاقتصاد والسياسة والأدب والإعلام والفن والرياضة. إن الاستعمار يبدأ اقتصاديا ثم عسكريا، حتى تحمي القوة العسكرية المصالح الاقتصادية، ثم تأتي الثقافة لتحمي الاقتصاد والجيش، ثم يأتي الإعلام، فيجب إذن أن يشمل الحوار كل جوانب الحياة.
أما الشروط التي يجب أن تتوافر في المحاور الغربي فيجب أن تدور حول:
أ ـ أن الغرب الذي يطالب كل الأنظمة القائمة في العالم الثالث بالتزام التعددية، حتى أصبحت هذه الأخيرة أهم المقاييس لديه لإصدار حكم على هذه الأنظمة، نطالبه نحن بدورنا بالتزام التعددية في المرجعيات الحضارية، لأن أحادية الحضارة الغربية معناها إلغاء المرجعيات الأخرى، ومنها المرجعية الإسلامية. وإن فرض مرجعية واحدة على الشعوب كمن يفرض عليها أن تعيش على طعام واحد، ويجبرها على أن تنظر بعين واحدة، ويلزمها أن تتنفس برئة واحدة، والأخطر من ذلك كله عندما يكون ذلك الطعام ملوثا، وتلك العين حولاء، وتلك الرئة مسلولة.
ب ـ أن يعترف الغرب بقانون تداول الحضارات، وأن يقر أن الحضارة ليست حكراً له، تلك الحضارة نداولها بين الناس، نعم إنها اليوم ملك له كما كانت بالأمس ملكا للأمة الإسلامية، وكما تكون غدا لأمة ثالثة.
جـ ـ أن يدرك أن مايسمى بالحضارة الغربية اليوم هو ناتج شارك فيه أجدادنا بالقسط الوافر، والنصيب الكاثر.
شروط المحاور المسلم
أ ـ إذا كنا نطالب الغرب بالتزام التعددية على مستوى الكون، فإنه من واجبنا أن نطبق التعددية في بلداننا، خاصة أن التعددية من أسس حضارتنا. فنحن نعلم أن الخلاف في الفروع رحمة، وأن التعددية المذهبية أول مظهر من مظاهر التعددية في تاريخ الإسلام.
ب ـ أن ننطلق في مشروعنا النهضوي من مرجعية إسلامية، أي أن نبقى أوفياء لجذورنا العربية الإسلامية “شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء”، أما أنصار الحداثة الذين يدعون إلى القطيعة مع العروبة والإسلام فإنهم ـ في الحقيقة ـ يريدون شجرة دون جذور، شجرة اصطناعية، لاتطعم بطنا، ولاتسر عينا، ولاتطرب بحفيفها أذنا.، وأقصى ماتصلح له أن تتخذ زينة أياما معدودة ثم تذهب أدراج الرياح.
جـ ـ أن يملك المحاور المسلم تصورا للعالم الذي يحيط به، وأن يكون ملما بالحضارة الغربية: واقعها، تاريخها، إمكاناتها، ثم يسعى للتفاعل معها بغية فهم الطرف الآخر في الحوار ثم التفاهم معه.
د ـ أن يكون مثالا للخلق الصالح لكي يؤثر في غيره، فلو حكمنا الإسلام في سلوكنا الفردي والجماعي لأصبحنا “خميرة العالم”. وإذا كان الله ـ عز وجل ـ قد أراد لنا أن نكون شهداء على الناس، فإن ديننا لايقبل شهادة المجروح في أخلاقه وسلوكه. وقد قال أحد أعلامنا: “يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن”، وكان القرآن هو خلق رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إن النظام العالمي الجديد الذي تتحدث عنه الألسن حاليا يعني تفوق حضارة واحدة على باقي الحضارات. أما النظام العالمي المنشود فهو نظام يقوم بالفعل على المساواة بين البشر في الفرص والحرية والديمقراطية، وكذلك في التكنولوجيا التي يجب أن تسخر لخدمة الإنسان، لا لحفر هوة بين الشمال والجنوب وتعميقها.
وأنا على يقين من أن جيلنا ـ وربما الجيل الذي بعدنا ـ لن يشاهد عودة الحضارة الإسلامية من التهميش لكي تشارك شيئاً فشيئاً في صنع الأحداث على المسرح الدولي.
أهداف الحوار
1ـ هدف عقائدي:
وهو تصحيح الصورة التي روجت عن الإسلام عقيدة وحضارة، وقد اشترك في هذه القولبة الإعلامية مجموعة من الصحفيين الذين يستمدون مرجعيتهم الفكرية من عدد من الأكاديميين. ومن الأمثلة على هذا ذلك التهويل الإعلامي الغربي لمفهوم الإرهاب والاقتصار في رصده وإدانته الأخلاقية للعمليات المتطرفة التي تقوم بها مجموعات مسلحة مع التغاضي عن عمليات الإرهاب المبرمج الذي تمارسه بعض الدول، كما هو الشأن في العدوان على الفلسطينيين وعلى البوسنة والشيشان.
وليس حقيقياً أن قيم العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها موقوفة على الغرب، أو هي من أصول الحضارة الغربية دون سواها كما يقول هيتنغتون ولانريد أن نخوض في جدل السبق، وهل هذه المبادئ من أصول الحضارة الإسلامية. إن هذا ما أؤمن به شخصياً، ولكن لابد من إقناع مخاطبنا الغربي بأن هذه القيم قواسم مشتركة بيننا، وهذا ما يسهل الحوار، خاصة أننا نجد قبولاً لهذه المبادئ ونضالاً من أجلها في كثير من بلداننا.
2- على الصعيد السياسي:
إن الحوار لايكون إلا بين حضارات متكافئة، وهذا الحوار غير ممكن مادامت الحضارة الغربية هي اللاعب الوحيد على مسرح العالم.
نعم، يسمح للحضارات الأخرى أن تصرخ في منابر كثيرة مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة، لأنها تشبه حديقة “هايد بارك”، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمحافل التي يصنع فيها القرار ـ مثل مجلس الأمن ـ فهناك تتم عملية إقصاء الحضارات الأخرى.
على هذا الأساس يصبح من أهداف الحوار مشاركة الحضارة الإسلامية في صنع القرار، والكفاح من أجل الحصول على مقعد دائم للدول الإسلامية في مجلس الأمن.
3ـ على الصعيد الاقتصادي:
وبما أن الشرط الأساسي للوصول إلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن هو أن تكون قوة اقتصادية ـ ودليل ذلك أن المرشحين الحاليين لهذه العضوية الدائمة هما ألمانيا واليابان ـ فيجب علينا أن نبني اقتصادا متينا، حتى نشارك في صنع القرار بالنسبة لأسعار المواد الأولية التي ننتجها، وبالنسبة للأوراق المالية التي تدفع لنا مقابل هذه المواد،
4ـ على الصعيد الخلقي
إن ما أريد أن أؤكده هو أن الحضارة الإسلامية تتميز وتمتاز بخاصية التفتح على الكون ومن فيه ومافيه، إذ إن مرجعها الأول ـ وهو القرآن الكريم ـ يأمر المسلمين بالسير في الأرض للتعرف على الآخر، والاحتكاك به، والنظر فيما عنده، والإطلاع على ما أنجز ماضياً وحاضراً، التقاط الحكمة أنى وجدت على التعاون مع هذا الآخر. ويعتبر تمايز الناس ـ لونا وعرقا ولسانا ـ آية من آيات الله، وأن الإنسان ـ مطلق الإنسان ـ مكرم من الخالق، ومن كرمه الخالق فلاحق للمخلوق أن يهينه، ويستعبده، ويستعمره،
وختاماً، أقول إن الأفكار لاترسخ في عقول الناس، ولاتخلد في ضمائرهم عن طريق فرضها عليهم، ولكن الأفكار تدوم وتخلد إذا كانت صالحة في نفسها.
iThere are no comments
Add yours