اشكاليّة التنمية بين الحداثة والتّراث

JPEG

إنّ التأمّل والتمعّن في مفهوم المصطلحات الثلاثة أعلاه، واكتشاف العلاقة بينها، من الهموم الأساسية لمفكري عصرنا، خاصة في البلدان غير الغربية.

قد نقنع أنفسنا بتصور أوّلي ـ وبطبيعة الحال سطحي ـ للمفاهيم أعلاه بأن نقول: إنّ الحداثة (modernity) كموضوع غربي، وجدت طريقها إلى الظهور باختراق التراث أو التقليد Tradition، وشنّ الحرب ضدّه.. وأنّ التنمية كحصيلة للحداثة، أو على الأقل ملازمة لها، هي بمثابة هدف استراتيجي للبلدان الواقعة خارج نطاق النظام الفكري والحياتي الغربي. ومن هذه المقدمات الأولية يمكن التوصل إلى النتيجة السطحية الآتية: من أجل تحقيق التنمية، ينبغي أن نكون حداثويين، ولا تتحقّق الحداثة إلاّ في محاربة التراث والتقليد.

بيد أنّ كل هذه، تصورات بعيدة عن الواقع، وليس باستطاعتها سوى إرضاء أصحاب الأفكار العاجزة وغير المسؤولة تجاه الإنسان أو مصيره ، ذلك أن المسألة أعقد بكثير من أن تُحَلّ بهذه السهولة. فلا التقليد يتغير ببساطة بمجرد التمني وإصدار الأحكام الوهمية، ولا الحداثة تتحقق بسهولة. إذا ما لم يتغير الأفراد، لن يظهر أي تحول مصيري في حياتهم الاجتماعية، لأن التغيير عملية شائكة جداً، ويبدو أن ليس جميع عناصرها طوع إرادة الانسان.

إنّ بحثنا في هذا المجال إن استطاع أن يفتح نافذة ولو صغيرة أمام الأذهان الباحثة صوب الأفق المضيء، فينبغي أن نكون مسرورين.

إنّ مصطلحات من قبيل التراث والحداثة والتنمية، غامضة ومعقدة، ولا يوجد حتّى الآن تعريف محدد ومتفق عليه لها، وقد لا يظهر مثل هذا التعريف. وإنّ هذا الغموض الّذي هو وليد الفهم المتباين للباحثين ومقدماتهم الفكرية واهتماماتهم المختلفة، والناشئ عن اختلاف آفاق الرؤية الّتي تتسق وطبيعة الموضوع الّذي تهتم به ، أضحى مصدر سوء فهم كبير أيضاً. وللتقليل من سوء الفهم إلى أدنى حد ممكن، يتحتم على الباحث أن يبين بوضوح ـ أولاً وقبل كل شيء ـ تصوّره ومراده من هذه المصطلحات. ولهذا سأحاول توضيح المبادئ التصورية لموضوع البحث كخطوة موفقة أولى في مسيرتنا الفكرية هذه.

ماذا أفهم من الحداثة والتراث ؟

عندما نتحدث عن الحداثة، لا شكّ أننا نعني بها ظاهرة أو منظومة من الظواهر الجديدة. ولكن هل تعتبر كلّ ظاهرة جديدة في حياة الانسان حداثة ؟ أم أن الحداثة سمة محدّدة لعصر أو مرحلة تاريخية ما ؟.

إن المجتمع البشري ـ حتّى في أبسط صورة ـ عرضه للتغيير والتحول دائماً، إذ تحلّ ظواهر جديدة محل الظواهر القديمة في نظام حياة الانسان.. إنّ الفارق الجوهري بين العالم القديم والعالم الجديد ليس في الثبات المطلق للأول، والتغيير المطلق للثاني، بل هو في بطء حركة التغيير في الأول، واكتسابها سرعة متزايدة في الثاني. على إننا لا نطلق كلمة «حداثة» على كلّ تحوّل وبروز ظواهر جديدة في المجتمع، وإن كانت أساسية وباهرة.

في تصوّري، إنّ الحداثة مصطلح يطلق على التحولات الّتي ظهرت في الغرب في العصر الأخير من تاريخ الانسان. بتعبير آخر: يمكن اعتبار الحداثة روح الحضارة الجديدة والثقافة المنسجمة معها.

وبعض النظر عن البحث الشائك في العلاقة بين الحضارة والثقافة، واعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة، أو أمرين يرتبط أحدهما بالآخر ، فمن المسلّم به أن كل ثقافة تنسجم مع حضارة معينة. ونحن نعلم أن الحضارة الحديثة وجدت استقرارها على انقاض الحضارة السابقة، ومن الطبيعي ان تروج إلى ثقافة تنسجم معها. وفي العصر الجديد ظهرت ثقافة جديدة تتسق مع الحضارة الجديدة، حلّت محل الثقافة السابقة. وتعتبر الحداثة روح هذه الحضارة وهذه الثقافة.

أمّا بالنسبة للتراث أو التقليد:

التراث أيضاً، اجمالاً، أمر يتعامل مع الماضي أو القديم. (لا يصح أن ينعت كلّ أمر قديم بالتراث. ففي المصطلح توجد دلالة على السنن الإلهيّة والطبيعية ونظائرها. ومن يؤمن بالسنّة الإلهيّة أو الطبيعية يعتبرها ثابتة. إذ ان هذه السنن بحد ذاتها تحكي عن أمور ثابتة كلما وجدت، وجدت السنّة أيضاً. وإن القوانين الحاكمة على الوجود هي سنة الهيّة أو طبيعية. من الممكن أن يخطئ الانسان في اكتشاف هذه النواميس ويدرك خطأه فيما بعد. غير أن الّذي يتغير هنا ليس أصل القانون، بل فهم الانسان وتصوره له. فنحن وإن آمنا بمبدأ التغيير وعدم الثبات في طبيعة العالم، كما آمن صدر المتألهين ـ أحد كبار فلاسفة المسلمين ـ بـ «الحركة الجوهرية»، أو الماركسيون الّذين يعتبرون العالم يحمل في داخله تضاداً، وبالتبع تكون الحركة والتحوّل صفة ذاتية ومستمرة للعالم. إلاّ أن الجميع يتفقون على أن مبدأ التغيير سنّة ثابتة وغير متغيرة). ولكن لا شكّ في انّه ليس المراد بالتقليد أو التراث ـ في مقابل التجديد أو الحداثة ـ كل أمر قديم، فإن الناس جميعاً أذعنوا عملياً لسلسلة من الأمور الثابتة والقديمة في جوانب من حياتهم، دون أن يتهمهم أحد بالتقليد أو الماضوية.

إذن ما المقصود بالتراث أو التقليد ؟

في تصوري، التقليد هنا شأن انساني له علاقة بفهم الانسان الفكري والعاطفي ، وبتعبير آخر: انّه عبارة عن الرؤية والضابط والسلوك المتعارف في المجتمع والمتصل بالماضي. والتقليد بهذا المعنى يتفق بالسنخية مع الثقافة وفي كثير من الأحيان يعد مظهراً لها، إلاّ انّه لا يمكن أن نطلق على كلّ ثقافة تقليداً أو أمراً تقليدياً. بل التقليد عبارة عن الثقافة الموجود في المجتمع الّذي امتلك في يوم ما حضارة ثمّ بادت، وبقيت تلك الثقافة ـ أو على الأقل آثارها البارزة ـ في أعماق أرواح النّاس.

وان ما أعنيه بالحضـارة ليس بالضرورة الصورة المعقدة أو الراقية والمتطـورة لها ، بل النمط الخاص للمعيشة(1) بالمعنى العام للكلمة، وهو حصيلة ايجاد علاقة خاصة مع الوجود، ويتجلى في الاجابة عن التساؤلات وتلبية الاحتياجات الّتي تظهر إلى الوجود بوحي من هذه العلاقة. وبناء على هذا المعنى، فللبدو أيضاً نوع من الحضارة. كما أن الانسان منذ أن عاش بصورة جماعية ـ ويبدو انّه كان هكذا دائماً ـ كان يتمتع بصورة من صورة الحضارة أيضاً.

انّ حضور ثقافة الماضي في العصر الحاضر ـ في وقت اضمحلت فيه الحضارة الّتي هي أساس الثقافة وتوأمها والملازمة لها ـ أمر ممكن ، ذلك أن جذور الثقافة تمتد في أعماق أرواح النّاس، ومن الطبيعي أن تكون أكثر دواماً من الحضارة نفسها ومعالم الحياة العملية ومراكز الأنظمة الاجتماعية ونمط تعامل الانسان مع العالم ومع الآخرين (الّتي تمثل الحضارة). فكم من المعالم الثقافية تستمر لقرون بعد اضمحلال الحضارة، في أعماق نفوس الأفراد الّذين كانت لديهم في يوم ما تلك الحضارة. بتعبير آخر ، التقليد هو تجلي ثقافة الأمس وتجسيد لها في حياة اليوم، في وقت تحولت تلك الحضارة وتبدلت.

فإذا ما ظهرت الحضارة الجديدة، وترسخت الثقافة المنسجمة معها أيضاً، فإن اولئك الّذين كانوا في يوم ما أصحاب حضارة أخرى وتلاشت الآن. أو آلت إلى الانحطاط بيد أن الثقافة المنسجمة معها أو معالمها الثقافية البارزة باقية في أعماق أرواحهم ، ان مثل هذه الأمة، ونظراً لأنها تقف في معرض حضارة وثقافة جديدة، تبتلى بالتضاد والتناقض. فمن جهة يتأثر واقع الحياة بمتطلبات الحضارة الجديدة ومعطياتها. ومن جهة أخرى تبقى النفوس والأرواح محيطة بالتصوّرات والقيم الّتي هي، على الأقل في الوهلة الأولى، على نقيض مع القيم والتصورات المنسجمة مع الحضارة الجديدة.

واليوم فإن هناك شعوباً وأمماً مثلنا مبتلاة بمثل هذا التناقض والتضاد، وان أزمة مجتمعاتنا الرئيسية الروحية والاجتماعية، الّتي تتباين تبايناً جوهرياً مع أزمة الحياة الغربية، ناتجة عن هذا التضاد. ومادام هذا التضاد باقياً ولم يحلّ حلاً جذرياً، فإن الأزمة ستبقى قائمة أيضاً.

انّ المجتمع الغربي بدأ حضارته الحديثة باختراق التراث ورفضه. وهذا يعني أن نعتبر بداية الحضارة الحديثة، هي منذ أن أصبحت تقاليد الكنيسة الفكرية ـ الأخلاقية وكذلك تقاليد النظام الاقطاعي الاجتماعية ـ الاقتصادية محل شكّ وتردد ثمّ نفي وإنكار. وعلى ضوء ذلك برزت معضلة كان فارسَ ميدانها، الحضارة الحديثة وقادتها الفكريون والمعنويون. وترسخت الحضارة الحديثة اليوم في موطن ظهورها في الغرب، مع انّه يمكن القول انّ مركزيتها امتدت من أوروبا إلى أميركا ـ ان لم نقل انها انتقلت إليها تماماً ـ وتجاوزت ذلك لتستولي بنحو ما على مختلف أنحاء العالم ، حتّى أن بلدان مثل بلداننا وقعت تحت تأثيرها إلى حدّ كبير.

من جهة أخرى، مع ان ثقافتنا لم تبق على صورتها الّتي كانت عليها في السابق، لبعد الفترة الزمنية ونتيجة لتأثير الثقافة والحضارة الغربية السائدة في العالم ، إلاّ ان نفوسنا جميعاً ـ على أية حال ـ لم تخل من التأثير الجاد لها أو جانب كبير منها. ـ مهما كانت ـ تتباين، بل تتقاطع مع الثقافة الغربية السائدة.

بتعبير آخر: نحن نمتلك تراثاً كان توأم حضارة أخرى وملازماً لها، وان تلك الحضارة لم تعد موجودة الآن، وانّ الحضارة السائدة الّتي تمتد أبعد من حدود موطنها وتدعي الشمولية أيضاً، قد تركت تأثيرها على حياتنا بشدة.

وكما نعلم جميعاً، انّ الحضارة الحديثة أخذت موقعها على انقاض حضارة القرون الوسطى وثقافتها، وان التناقضات المولدة للاّزمة الّتي تعاني منها الكثير من المجتمعات هي نتيجة صراع الحضارة الجديدة وثقافتها مع التقاليد الّتي هي امتداد للثقافة السابقة في عصرنا الحاضر.

قد يتصوّر البعض ان الحضارة الحديثة وحدها كانت تضاد حضارة القرون الوسطى في الغرب وثقافتها. مع اننّا كنّا أصحاب ثقافة وحضارة متباينتين مع حضارة الغربيين وثقافتهم في القرون الوسطى. بناء على هذا، ان عدم انسجام الحضارة الحديثة وثقافتها مع حضارة القرون الوسطى وثقافتها، لا يعني بالضرورة عدم انسجامها مع ثقافتنا الماضية. ولتأكيد هذا الادعاء يمكن الاستناد إلى جوانب من التمايز بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية، والتباين الحقيقي الموجود بين حضارتي تلك الثقافتين. إلاّ أن هذا ـ انصافاً ـ لا يعني ـ مطلقاً ـ انسجام واتساق ثقافتنا مع الثقافة الحديثة. بل ان السنخية والاشتراك الماهوي بين ثقافة الغرب في القرون الوسطى، وثقافة العالم الإسلامي هو بنحو يمكن عدهما نوعي جنس واحد، ان لم نقل صنفي نوع واحد. في حين ان الاختلاف والتباين بين ثقافتنا الحالية الّتي تمتد جذورها في الماضي، والثقافة المنسجمة مع الحضارة الحديثة الّتي سادت حياتنا، هو اختلاف جوهري في جنس الحضارات.

انّ أبرز أوجه الشبه بين ثقافتنا وتقاليدنا الثقافية، وتقاليد القرون الوسطى وثقافتها، الّتي شنّ الغرب الحرب ضدها وكانت النتيجة ظهور الحضارة الحديثة وانتشارها ، هو محور «الله» في فكر الانسان واعتقاده، ونظامه الفكري والأخلاقي والعاطفي. في حين صار «الانسان» ، انسان هذا العالم، هو المحور في الحضارة الحديثة.

والانسان نفسه ـ في نظر مؤسسي الفلسفة والفكر الحديث الكبار من أمثال ديكارت الّذين ظهروا أوائل العصر الحديث، وأيدوا مبدأ فكرة الإله وما بعد وراء الطبيعة أيضاً ـ يختلف اختلافاً ماهوياً عن الانسان الّذي كان محور اهتمام مسيحيي ومسلمي القرون الوسطى. ويختلف كذلك دور هذا الانسان ومركزيته في نظام الوجود، وعلى الأقل في عالم الطبيعة ، عن ذلك الّذي كان محور اهتمام السابقين.

طبيعي ان الأفكار الميتافيزيقية والإلهيّة والعرفانية والدينية كانت موجودة دائماً في الغرب وتوجد الآن أيضاً ، مثلما كانت الأفكار الالحادية توجد احياناً في القرون الوسطى خاصة في العالم الإسلامي. بيد أن كلامنا ليس في أصل وجود الأفكار والمعتقدات، بل في الآثار المترتبة عليها وعمق تأثيرها وسعة انتشارها في أوساط المجتمع ودورها في حياة الانسان الاجتماعية. وممّا لا شكّ فيه أن الإله والدّين في القرون الوسطى، والطبيعة والانسان الطبيعي في العالم الجديد ، كانوا محور العقل والحياة.

في القرون الوسطى كانت الاصالة، أو على الأقل الاعتبار، تُولى للعالم الآخر، وكان المسلم والمسيحي متساويين في ذلك. في حين أن فكرة الآخرة في العالم المتمدن المعاصر، لم تعد حيوية ان لم نقل انها فقدت اعتبارها تماماً، واقتصر اهتمام الانسان اليوم على الحياة في هذا العالم وهذه الدنيا.

فمع ان العصر الجديد بات اليوم يفتقر إلى قوة العلوم التجريبية وتباشيرها بالأمل، بالصورة الّتي كان يؤمن بها اسلاف الغربيين في القرن الثامن عشر ويعقدون عليها الآمال ، إلاّ انّه لايزال العلم (science) والتكنولوجيا الّتي هي وليدة العلم، من أهم العناصر الّتي تقود الحياة. وان انسان هذا العصر والى أن يحدد موقفه على الأقل في المجالات الاجتماعية، لا يرى نفسه محتاجاً لأي مصدر أو مرجع خارج حدود الفكر والحس البشري وخبراته التجريبية ، في حين كانت نظرة الانسان العالم إلى الوجود في الماضي، وفهمه للعلم، يتباينان إلى حدّ كبير مع ما نراه اليوم. إذ لم يكن ملاك اعتبار العلم وشرفه، المنفعة الّتي تتحقق منه في هذا العالم مطلقاً ، بل انّ ملاك قيمة العلم والمعرفة في نظر القدماء كان شرف موضوعهما. وبالتالي كانت علوم ماوراء الطبيعة، وبشكل خاص معرفة الله، تعتبر علوماً سامية.

في مجال الحياة الاجتماعية، أو على الأقل جانب مهم منها، كان الادعاء: أن الشريعة أو التصور عن ظواهر المصادر الدينية، هو الحاكم. وكان الانسان يرى نفسه مكتفياً بـ «الوحي» عن أي مصدر أو مرجع آخر للمعرفة وكسب التكليف، أو انه كان يرى المصادر الأخرى تابعة للوحي.

جدير بالذكر انّ الفلسفة الّتي سادت العالم الإسلامي هي الفلسفة المتمحورة حول العقل الارسطي ـ الافلاطوني الجديد(2). وانّ هذه الفلسفة وإن كانت متباينة جوهرياً عن الفلسفة الحديثة وعقلانية الحداثويين، إلاّ أ نّها بقيت مهمشة منزوية أيضاً في مقابل التيارين القويين ، تيار التمسك بالشريعة بين أوساط أهل السلطة وعامة الناس، وتيار التصوف في أوساط الكثير من النخبويين وفئات خاصة من النّاس.

يمكن اعتبار بداية الحضارة الحديثة ـ بعبارة واحدة وبشيء من التسامح ـ من اليوم الّذي أضحى فيه الملاك المهم ـ بل الأهم ـ لتحديد قيمة العلم، هو الفائدة الّتي يقدمها في هذا الحياة. في حين ان جوهر الرؤية والقيمة في الحضارات السالفة (المسيحية والإسلاميّة)، كان تحقير الدنيا ، وان كانت سعة صدر المسلمين في التعامل مع الدنيا أكبر من نظرائهم المسيحيين. بيد أن في كلا العالمين، كان استهداف الحياة الدنياة وجعلها الغاية والهدف يعد أمراً مذموماً.

أجل:

أوّلاً: انّ الحضارة المعاصرة تفرض سيطرتها على حياتنا نحن غير الغربيين أيضاً.

ثانياً: انّ هذه الحضارة تتطلب ثقافة تنسجم معها.

ثالثاً: انّ حياتنا الواقعة تحت تأثير الحضارة المعاصرة ممتزجة بثقافة تقليدية تنسجم مع حضارة غير موجودة اليوم.

رابعاً: تبلورت الحضارة الحديثة من خلال تجاوز الحضارة السابقة والثقافة المنسجمة معها.

بناء على هذا، لابدّ من القول ان تعارض الحضارة الحديثة وثقافتها مع ثقافتنا التقليدية، يعدّ من أهم أسباب الأزمة الّتي نعيشها في عقولنا وحياتنا.

والسؤال المطروح: ماذا ينبغي لنا أن نفعل في هذا المعترك ؟ هل نصرّ على التراث تماماً، أم ننجرف مع الحضارة الغربية وثقافتها والذوبان فيها تماماً ؟ أم من الممكن ازالة التعارض والتناقض بطريقة أخرى، أو على الأقل التحكم به وتوجيهه بنحو لا يقود إلى تدمير حياتنا الاجتماعية ومصادرة هويتنا الثقافية ؟

مع ان هذا التساؤل ـ برأيي ـ لم يطرح كسؤال أساسي لجميع أصحاب الرأي في المجتمعات غير الغربية، وانّه لا يمكن ـ والحال هذه ـ أن نتوقع الحصول على اجابة مدروسة وقادرة على ايجاد حلٍّ للازمة من جميع الأبعاد، إلاّ انّ أصل السؤال في الوقت ذاته كان مستحوذاً على عقول الأفراد ونفوسهم دائماً. وتبعاً للاجابة الّتي عرضوها، برزت في العالم غير الغربي تيارات مختلفة ، أبرزها ثلاثة: التيار المتمسك بالتراث، والتيار المتغرب، والتيار الاصلاحي، تلك التيارات الّتي ضمّ كل واحد منها كماً هائلاً من الآراء والأذواق. ورغم الاختلافات الطبيعية الّتي تتسق مع اختلاف البيئة الاجتماعية والجغرافية، فإن كلاً من التيارات الثلاثة تمتلك عناصر مشتركة تستحق التأمل.

لم يكونوا قليلين، ولا هم كذلك الآن، التقليديون الّذين أصروا دائماً على التراث بجميع أبعاده ووجوهه ، أو بتعبير آخر على تقاليدهم وتصوراتهم الذهنية وتصرفاتهم الّتي اعتادوا عليها بمثابة أمور مقدسة، في مقابل التجديد أو الحداثة، واعتقدوا أن في الامكان العيش في الاطار الضيق للتقليد الموروث عمن سبقهم، بسدّ الأبواب في وجه أمواج الحضارة الغربية وثقافتها المندفعة.

بيد أن اصرارهم الخائب لم يوصل إلى النتيجة الّتي كانوا يرجونها، وقد تمكنت الحضارة الغربية من بسط نفوذها التاريخي ـ الجغرافي (على الأقل في الكثير من مظاهرها وظواهرها) في المجتمعات التقليدية من دون أن يكون للمجتمع التقليدي أي تأمل أو تمعن في طريقة التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة. وبالتدريج اضطر التراث وحماته إلى التراجع من دون أن يكون المجتمع مهيئاً لقبول الحضارة الغربية بصورة مدروسة. وبالتالي تورط المجتمع التقليدي بأزمة مضاعفة.

من جهة أخرى، كان هناك من يتصور بأن الأزمة قابلة للحلّ من خلال قبول الحضارة الغربية بجميع أبعادها ومتطلباتها ومستلزماتها، بما في ذلك ثقافة الحداثة. فالحداثة في نظر مفكري هذه الفئة، تعتبر أبرز مراحل تكامل حياة البشرية وتاريخها، ويتحقق التقدم والتحرر والسعادة بقبولها. وبالتالي لابدّ من تعبيد الطريق لقدومها واستقرارها، والعمل على ازالة العقبات الّتي تعترض طريقها. وفي هذا المجال كانوا يعتقدون بأن التراث عقبة مهمة في طريق الحداثة. وعليه لابدّ من التهيّؤ لاستقبال الضيف القادم، وذلك بمحاربة التراث والقضاء عليه.

وللأسف أن الكثيرين من السطحيين الّذين بهرهم الكم الهائل من الانجازات الظاهرية، والمدهشة بالطبع، للغرب ، آمنوا بذلك. وان حقيقة ما ظهر في مجتمعاتنا تحت لافتة التنوير الفكري أو الوعي الثقافي، كان في الكثير من الأحيان وليد هذا التصور. بيد أن حصيلة فكر وسلوك هذه الفئة لم تحلّ معضلة من معضلات المجتمعات المستعصية على الحلّ، بل وزادت من مشقة العمل ووعورة الطريق:

أ: انّ النظرة الظاهرية والسطحية لهؤلاء، سدت المنافذ في وجه التأمل والتمعن في أسس الحضارة الغربية وثقافتها ، وقد أعاقت التصورات الواهمة الوعي السليم للعلاقة بين التراث والحداثة.

ب: انّ هؤلاء بتحقيرهم للتراث واستهزائهم به بدلاً من تحليله ونقده، تجاهلوا نفوذه المتأصل في أوساط الناس في أحسن الأحوال ، وعجزوا عملياً عن أداء أي دور يذكر أمام الواقع الماثل في المجتمع، ولم يتمكنوا في أي وقت من الحصول على موطئ قدم لهم في أوساط مجتمع يعي التراث ويأنس به ، وفشلوا في العثور على لغة مشتركة للأحاسيس والمشاعر، فمضوا في عزلة مؤلمة دون أن يكون لخطابهم أي أثر يذكر في المجتمع. بل الأسوأ من ذلك، انّهم تعلقوا ـ بدافع المحافظة على بقائهم ـ بأذيال الحكومات المستبدة، أو أمسوا عملياً، وعن وعي في الكثير من المواقف، منفذين لتطلعات الغرب الاستعمارية في بلدانهم.

انّ هاتين الاجابتين، مهما كان الدافع لطرحهما، ونظراً لغربتهما عن الواقع، لن يكون لهما أي تأثير يذكر عملياً، سوى زيادة قلق العقول واضطرابها أكثر فأكثر، وتشديد الأزمة، وزيادة استحكام الطريق المغلق.

ففي عالم الواقع ليس بوسع اصدار الفتاوى والأحلام الوردية الحؤول دون نفوذ الحضارة الغربية وثقافتها إلى المجتمع. كما ليس بمقدور المنشورات والخطابات عزل التراث عن المجتمع. ان حياة الانسان عرضه للتغيير والتحول دائماً ، كما أن عناصر التغيير أيضاً ليست جميعاً طوع ارادة الانسان. الشيء المهم هو بأي فهم وتدبير نتمكن من الحضور الفاعل والواعي في عملية التغيير، والتعامل مع الأحداث بيقظة ووعي بدلاً من الاستسلام الأعمى لها.

اضافة إلى اسلوبي الحل المقترحَين هذين، كانت هناك اجابة أخرى أثارها بعض المفكرين الخبراء الّذين يعيشون هاجس التفكير في مصير شعوبهم، في البلدان الّتي ننتمي إليها ، يمكن أن نذكرها تحت عنوان عام رغم الاختلافات الموجودة بينها، وهو: الحركة الاصلاحية أو المذهب الاصلاحي.

ورغم أن آمالاً كبيرة بمستقبل أفضل، تعقد على التيار الاصلاحي الّذي تمتد سابقته التاريخية في بلداننا إلى ما يزيد على قرن كامل، إلاّ ان الحقيقة هي ان هذا التيار كان قد ابتلي في أغلب الأحيان بالتيه والاضطراب أيضاً نتيجة لتأثير الأزمة العميقة والواسعة الّتي عصفت بحياتنا الفكرية والاجتماعية.

ينطلق الاصلاحيون في عملهم من مبدأين:

الأوّل: «العودة إلى الذات»، وإحياء الهوية الثقافية ـ التاريخية لأمّتهم وشعبهم.

والثاني: «التعامل الايجابي مع معطيات التمدن البشري» ، وفي الوقت ذاته اتخاذ الحيطة والحذر في مقابل النزعة التوسعية والتوجه الاستعماري للغرب.. لكن تيارات الاصلاح المختلفة هذه، تفتقر إلى وحدة الرأي بشأن «الذات» الّتي ينبغي العودة إليها، وكذلك أبعاد الحياة الغربية الّتي لابدّ لنا من اقتباسها وهضمها. هذا فضلاً عن امكانية العثور على آراء متنوعة وأحياناً متضادة في التوجه الاصلاحي الواسع. ليس هذا فقط، بل انّ الأفكار الّتي اثيرت في هذا المجال اتسمت بالاضطراب والوهم ونوعاً من السطحية.

ولكن رغم كل ذلك، تبقى جهود الاصلاحيين تستحق التقدير، باعتبارهم طليعة واعية وقادة أدركوا مكامن الألم. إذ انّهم من خلال ادراكهم لأزمة مجتمعاتهم وموقعها الخطير، أبدوا شجاعة وتفانياً في تحديد معالم الانطلاقة على طريق التحرر من التعاسة والحقارة ، وخطوا في حدود استطاعتهم، الخطوات الأولى في هذا الطريق الوعر المليء بالمخاطر.. وتتضح عظمة هؤلاء المصلحين أكثر خصوصاً إذا ما قورنت مع أسلوب عمل التقليديين المعادين للغرب، والمتغربين الرافضين للتقليد.

بيد أن ما تحقق منذ زمن اتصال العالم الإسلامي بالحضارة الغربية ، ذلك الاتصال الّذي كان قد اشتدّ واتسع نفوذه في القرنين الأخيرين ، هو تجربة قيمة يعد تجاهلها كارثة.

وفي تصوري فإن بإمكان هذه التجربة انّ تقودنا إلى النتيجة التالية وهي، ان أي طريق حل للأزمة يجب أن يكون مسبوقاً بالتأمل والتمعن في أسس الحضارة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب التعرف على التراث والأنس به والتحاور الجاد معه. لأن تجاهل أي واحد منهما سيقود إلى كارثة.. وفيما يلي سنتناول هذه النقطة بشيء من التفصيل.

نحن الآن نقف بين ماض حافل بالأحداث، ومستقبل غامض ، وما بينهما نرفل في عالم تسيطر عليه سلطة الغرب الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.

نحن الآن نقف في قبالة التنمية، الّتي هي نموذج مختار من التقدم الغربي ، ويتحتم علينا تحديد موقفنا منها على وجه السرعة. ومثل هذا الموقف منوط بوعي التنمية والالمام بها، ولن يتحقق إلاّ من خلال التأمل في أسس الفكر الغربي وقيمه ومدنيته.

لابدّ لنا من تحديد: هل فعلاً لا يوجد طريق آخر غير التسليم الكامل أمام أمواج التنمية. أم ان بإمكاننا العثور على طريق آخر يحول دون الذوبان ـ كأمة فقدت هويتها ـ في ما أنتجته الحضارة الغربية من عادات وتقاليد وقيم ، وفي الوقت ذاته يمكّننا من التنمية ؟

طبيعي أن الخوض في تفاصيل البحث عن ماهية التنمية ـ وحدودها وأطرها، يتطلب فرصة أخرى ، ولكن لا يفوتنا التذكير بهذه الملاحظة وهي: انّ التنمية شأنها شأن الكثير من المفاهيم الرائجة في عصرنا ـ ذات هوية وأصول غربية ، ويعنى بها نمط من الحياة الّتي تحققت في الغرب. بتعبير آخر، يمكن تعريف التنمية بعيداً عن الجدل الّذي يدور بشأنها في هذا المجال ـ على الأقل وفقاً لمفهومنا لها ـ بأنها:

«اقامة نمط من الحياة على أساس المعايير والموازين الأصولية للحضارة الغربية».

ألم يُقسم العالم اليوم إلى عالم متقدم «أي مستقر على أساس معايير المحاضرة الغربية»، وعالم متخلف ، وتُعرّف البلدان النامية بالبلدان الّتي تسعى إلى استعارة نموذج الحياة الإجتماعية من الغرب ؟ وهنا على وجه الدقة تطرح بصورة جادة مسألة العلاقة بين التراث «الّذي هو روح الثقافة السالفة»، والحداثة «الّتي هي روح الحضارة الحديثة والتنمية».

أجل ، التنمية موضوع غربي قائم على أسس الحضارة الغربية، الحضارة الّتي تمثل الحداثة روحها. ومن هنا فإن ادراك التنمية والالمام بها غير متيسر من دون التفكير والتأمل في المبادئ النظرية والمباني الأخلاقية للحضارة الغربية، فكيف إذا ما أريد اتخاذ القرار بشأن الاستفادة منها أو رفضها ؟. وفي تصوري انّ البحث بشأن التنمية قبل محاولة التعرف على أصولها وأسسها، يقود إلى التيه والضياع.

هناك من يزعم أن الشعوب محكومة بالتخلف والتعاسة وبالتالي الفناء، إلاّ إذا قبلت التنمية وانصاعت لجميع متطلباتها ومعطياتها.. وبما انّ التنمية حصيلة الحداثة، فليس هناك طريق يفضي إلى النجاح والسعادة غير أن نكون حداثويين ومتحضرين بالحضارة الحديثة.

انّ مثل هذا الحكم صحيح إذا اعتبرنا الحضارة الغربية، الّتي هي موطن التنمية، آخر الحضارات البشرية. وعندها سنقول ان ليس أمام الانسان من سبيل غير التسليم أمام هذه المرحلة الأخيرة من تكامل الحياة الإجتماعية.

بيد أن الّذين ينظرون إلى الحضارة الغربية بأنها الحضارة الأخيرة وليست آخر الحضارات، ويعتبرونها أمراً نسبياً ومحدوداً وقابلاً للزوال كأي شأن بشري آخر ، لا يرون مثل هذا الحكم مقنعاً بالنسبة لهم. وطبعاً لا يخفى أن رفض ذلك لا يعني التسليم أمام التقليديين والرجعيين ورفض جميع شؤون التنمية وموازينها ، بل يؤكد رفض آراء اولئك الّذين يزعمون بحتمية التسليم أمام أمواج التنمية بمعناها الغربي.. ولكن على أية حال، يعد موضوع التنمية من أبرز هموم مفكري ومسؤولي المجتمعات الّتي نعيش فيها.

وممّا يذكر في هذا المجال، انّ مهمة المفكرين والمثقفين الواعين تتباين مع ما يفكر به السياسيون والمسؤولون عن ادارة المجتمعات ، رغم انّ الصلاح لا يتحقق إلاّ إذا أصبحت السياسة والنشاط السياسي تابعين للفكر والحكمة، وليسا نطاقاً مفروضاً على الأفكار.

انّ ماهو مهم بالنسبة لنا نحن الّذين نحيا في عالم الفكر والرأي، هو الحذر من الاستسلام للأمواج المطالبة بالتنمية تماماً، دون أن نتساءل عن مبادئ الحضارة الحديثة ومبانيها الّتي هي موطن التنمية وقاعدتها ، ومن غير التأمل في روح هذه الحضارة أي الحداثة ـ حتّى وان لم يكن هناك مفر من قبول التنمية بالصورة الّتي اختبرت بها في الغرب ـ يبقى الاستفسار عن مبادئها ومعطياتها من أهم مسؤوليات المفكرين والمثقفين الصادقين. وحقيقة الأمر هي أن التنمية الواقعية المتأصلة لن تتحقق أصلاً بمعزل عن الفكر، لأ نّه:

أوّلاً: ليست التنمية موضوعاً آلياً يأتي ويستقر من غير تدخل الانسان.

ثانياً: المجتمع الّذي يفتقرإلى الفكر المبدع، يفقد هويته في أول مواجهة لأية مشكلة. ولا يخفى أن المشـكلات الانسانية والاجتماعية لا تحل بالقـوة والقـانون الجـاف قـرارت الساسة، رغم امكانية استتارها لبعض الوقت.

باختصار ، ان تحديد موقفنا النهائي من التنمية منوط بحسم موقفنا من الحضارة الحديثة وروحها أي الحداثة، الّتي تعد حتّى الآن من أهم قضايانا. فنحن الّذين نعيش معترك الصراع بين التراث «الّذي هو أساس شخصيتنا وهويتنا الثقافية والتاريخية»، والحداثة «الحدث التاريخي المهم وظاهرة العصر المقتدرة» ، نعيش وضعاً متأزماً جداً.. أزمة ابتلعت حتّى كثير من المصلحين الباحثين عن حل لها.

انّ تجربة المتغربين والتقليديين المرّة ماثلة أمامنا. ويقضي الوعي والفطنة انّ نحول دون تكرار تلك التجارب المكلفة، وان نأخذ منها العبرة فحسب للبحث عن سبيل أفضل.

الحضارة الحديثة كما ذكرنا، هي الحدث المهم للعصر الأخير من التاريخ البشري، الّذي رافقته انجازات ايجابية مدهشة لجميع بني الانسان. بيد أن مساوئها ليست قليلة أيضاً، ولا تنحصر في جرائم الغربيين السياسية ـ الاقتصادية خارج حدودهم الجغرافية. بل انّ الغرب نفسه يواجه في داخله مشكلات عظيمة أيضاً، كانت في جميع الأوقات تقريباً سبباً في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الكبيرة.

نحن الشرقيين إذا لم نكن يائسين منهزمين، تمكّناً من الحكم بنحو أفضل بكثير، على الأقل بالنسبة للمآسي الّتي أوجدتها مظاهر الحضارة الغربية الاستعمارية لغير الغربيين. فإذا لم يكن الانسان ألعوبة بيد الحوادث، وكان بيده الخيار في كل الأوقات وجميع الأحوال ، فماذا سيكون خيارنا في مقابل حضارة الغرب ؟. من الواضح انّ الاختيار السليم هو الّذي يرتكز إلى الوعي والحكم العقلاني. المهم هو أن نصل إلى مرحلة وعي الغرب وروحه «الحداثة»، وعطيته «التنمية»، ونتوصل إلى حكم سليم ومنطقي.

الحضارة الغربية أيضاً موضوع بشري. وعليه في نسبية وممكنة الزوال، إلاّ أن يبالغ أحد ويزعم بأ نّه مع طلوع شمس الحضارة الحديثة، سوف يجف ينبوع تساؤلات الانسان واحتياجاته.. أليست الحضارة استجابة لروح الانسان الباحث الّذي يتساءل في كل لحظة عن الوجود والعالم والانسان ؟.. أليست احتياجات الانسان المتجددة لحظة بلحظة هي الّتي تدفعه للهث وراء تلبية احتياجاته ؟.. أليست الحضارة وليدة استجابة يقدمها الانسان على تساؤلاته والاحتياجاته المتنوعة والمعقدة ؟.. ومن الطبيعي ان هناك تساؤلات واحتياجات مهمة وتاريخية تصحب الاجابة عليها في عملية نشوء الحضارة. كما ان هناك تساؤلات واحتياجات تولد في ظروف زمانية ومكانية وتاريخية خاصة، تحمل بين طيّاتها بطبيعة الحال ملامح الزمان والمكان والتاريخ وتأثيره. ولهذا السبب تتبدّل الحضارات، إذ لا توجد حضارة ثابتة وخالدة.

وباعتقادي، مادام الانسان على قيد الحياة، فإن تساؤلاته واحتياجاته قائمة أيضاً. وان أي سؤال أو استفسار تتم الاجابة عليه، وأية حاجة يتم توفيرها ، يقودان الانسان لمواجه عشرات الأسئلة والاحتياجات الجديدة.. وبالتالي فإن كمال حياة الانسان هو حصيلة ثمرة روح الانسان الشائكة والمعقدة.

انّ أية حضارة مادامت قائمة، تستطيع أن تجيب على تساؤلات الانسان وتلبي احتياجاته من خلال الطاقة الذاتية الكامنة فيها. ولكن الحضارة شأنها شأن أية ظاهرة انسانية، أمر يختص بهذا العالم. وإذا ما تدنّت الحضارة وتناقصت قدراتها الذاتية وعجزت عن تقديم الاجابة الناجعة على الاستفسارات الجديدة ، عندها يتلاشى الأمل بالتدريج لدى اتباعها. وعن هذا الطريق تبلى الحضارات وتنحدر نحو الانحطاط والفناء.

كانت الحضارة الغربية قد واجهت حتّى الآن أزمات عديدة، إلاّ انّها استطاعت أن تجتازها بالاعتماد على طاقاتها الذاتية. ومن أبرز هذه الأزمات كانت الأزمة الّتي عصفت بها في القرن التاسع عشر وامتدت إلى القرن العشرين بصورة ما. كما أسفرت هذه الأزمة عن وجهها الكريه في الحربين الكونيتين. بيد أن الرأسمالية والليبرالية الغربية استطاعت أن تصمد أمام رقيبها العنيد «الاشتراكية»، بعد اجرائها تعديلاً في اسسها ومرتكزاتها.

كما أضحى الضعف الذاتي والأصولي الّذي كان يعاني منه رقيبها، سبباً في انهيار المعسكر الاشتراكي أمام حيرة العالم ودهشته. ولكن وكما واضح، انّ الحضارة الغربية تعاني من أزمات عميقة أخرى أيضاً.. أزمات تبدو وليدة التساؤل عن جوهر الحضارة الغربية، ومؤشراً على اضمحلال أو ضعف الثقة بقدرة هذه الحضارة ولياقتها على الاستمرار والخلود. وإذا ما وُجدت هذه التساؤلات من قبل، فهي اليوم بنحو أشمل وأكثر جدية.

على أية حال، أضحى الاعتراض اليوم على الأصول الفلسفية والأخلاقية والقيمية للحضارة الحديثة، أوسع وأعمق بكثير ممّا كان عليه في السابق.

انّ التمعن في تطلعات الحضارة الغربية والعوامل الروحية والمادية المؤثرة في نشوئها وانتشارها، يساعدنا في الحكم على واقع هذه الحضارة ومستقبلها. صحيح انّ كلاً من روح الانسان الباحثة، وتساؤلات الانسان المتجددة، وعجز حضارة القرون الوسطى وثقافتها عن الاجابة على تساؤلات الانسان وادراك احتياجاته المتجددة وتلبيتها، واللجوء إلى القهر والاضطهاد والضغوط الروحية والجسمية لخنق تلك التساؤلات ومصادرة الاحتياجات ، كل هذا كان من جملة الأسباب المهمة الّتي عملت على تبديل السؤال والحاجة إلى نوع من الانفجار الفكري والاجتماعي، ممّا أدى إلى انهيار البناء القديم لحضارة القرون الوسطى الكنيسة ـ الاقطاعية.

بيد أنه من السذاجة أن نتصور أن التساؤلات الناتجة عن تأملات الانسان وروحه الباحثة، كانت السبب الأول وراء انتهاء حضارة القرون الوسطى ، أو أن نعتبر الاجابات المنطقية الّتي عرضها المفكرون وأصحاب الرأي استجابة لتلك التساؤلات، مثّلت العامل الوحيد وراء ظهور الحضارة الغربية، أو انّها من أهم العوامل. بل انّ كل من هذه التساؤلات، أضاف إلى الاحتياجات وتوفيرها ، وبفعل تأثير عوامل روحية واجتماعية عديدة، وكذلك دوافع لم تكن بأجمعها عقلانية ومنطقية، كل ذلك كان من العوامل المؤثرة في ايجاد الحضارة ودوامها.

طبيعي ليس هناك أدنى شكّ في مدى تأثر الطروحات المتعقلة والمنطقية الّتي قدّمها المفكرون آنذاك رداً على التساؤلات وتلبية للاحتياجات، في ظهور الحضارة الحديثة. ولكن:

أوّلاً: انّ هذه الطروحات نفسها مبنية على عوامل ذهنية مختلفة، وأحكام عاطفية مسبقة، ودوافع نفسية متنوعة. كما انّها جاءت كرد فعل على ممارسات القرون الوسطى المتزمتة الّتي يمكن ـ بل يجب ـ التعرف على الكثير من أسبابها ودوافعها من خلال نقيضها، أي تلك الأوضاع الّتي أدت إلى ردود الفعل هذه.

انّ افراط الكنيسة، والنظام الفكري ـ العقائدي المغلق للقرون الوسطى، واللّجوء إلى القوة لترسيخ النظرة الضيقة والتصور البشري عن الدين والكون اللّذين كانا قد اكتسبا صبغة مقدسة ، كل ذلك أضحى سبباً في بروز ردود فعل متطرفة أعلنت رفضها للنهج والأسلوب غير السليمين اللّذين كان يمارسهما القيمون على الدين. ليس هذا فحسب، بل انتقل الكثير من الشكوك والانكار والرفض للواقع، إلى أركان الدين الّتي كانت تعتبر أساس الواقع وعين التصورات الرسمية والتقليدية عن الدين ، بفعل الاصرار الباطل لأرباب الكنيسة. وبنحو ما يمكن القول ان الدافع الّذي كان وراء اقبال الحداثويين غير المنطقي على الدنيا وادارة ظهورهم إلى المثال والقيمة، كان وليد هذه الحالة النفسية المؤلمة.

ثانياً: من جانب آخر، يجب أن لا نعتبر التأمل والتعطش للمعرفة وحدهما السبب وراء ظهور الحضارة الحديثة وثقافتها. بل ان الكثير من الأطماع والآمال والتطلعات الدنيوية البحتة، لعب دوراً في نشوء الحضارة الحديثة أيضاً. إذ انّ الكثير من الحقائق السامية والمعنوية الانسانية، أمسى في ظل ذلك موضع تجاهل واساءة أيضاً.

فهل كان دور القوّة الفاعلة «الطبقة البرجوازية»، وبتعبير آخر العناصر المؤثرة والفاعلة في الحضارة الحديثة، في ايجاد هذه الحضارة وقيادتها، أقل من دور المفكرين في مطلع المرحلة التاريخية الجديدة ؟ هذا فضلاً عن ان الّذي كان يدفع البرجوازيين ليس ايمانهم بالحق أو حرصهم على اكتشاف الحقيقة وتحريرها من سلطة الكنيسة والاقطاع واضطهادهما ، بل كان اندفاعهم في الغالب من أجل تحقيق الآمال والأحلام الوردية والحصول على أكبر حجم ممكن من مزايا الحياة المادية وأفضلها.

لقد مثّلت الحرية والأخوة والمساواة، الّتي كانت محل اهتمام الجماهير وانجدابهم لها دائماً، الشعار المركزي لواحد من أبرز وأشهر مظاهر الحضارة الحديثة، أي الثورة الفرنسية الكبرى. بيد أن هذه الشعارات نفسها كانت في الواقع وسيلة بيد الطبقة الجديدة لمحاربة خصومهم من الاقطاعيين والنبلاء، وتحقيق تطلعاتهم وآمالهم وطموحاتهم. حتّى انّه يمكن القول انّ العلماء والمفكرين كانوا في الحقيقة المسوّغ المنطقي والعقلاني لتطلعات الطبقة الجديدة وأحلامها في معظم الأحيان.

ولا يخفى، انّه في ظل هذا المعترك الطبيعي اتضح الكثير من الأمور الجديدة الّتي سخرتها وتسخرها البشرية لخدمتها، واستطاعت بفضلها أن تحقق في الكثير من الأحيان تقدماً كبيراً أيضاً. ولكن ينبغي أن لا نغفل ونحن نتطلع إلى الحضارة الحديثة في مرآة العلم الحديث والتكنولوجيا وآرائها في الحرية وتشكيلاتها، وحق سيادة الشعب، وايكال السلطة السياسية إلى ارادة الشعب واشرافه، ونظائر ذلك الّتي تعد من انجازات الانسانية الّتي تستحق التقدير ، ينبغي أن لا نغفل عن الوجه الآخر لهذه الحضارة أي الاستعمار والاضطهاد والقمع الدموي الّذي يمارس بحق غير الغربيين، ونهب ذخائر الآخرين المادية والمعنوية، وتدمير البيئة، وتزويج الاعلام الكاذب والانتهازية. وكذلك أيضاً أفول بريق الكثير من القيم الانسانية والمثل المعنوية والأخلاقية وغيابها عن واقع حياة انسان اليوم الّذي بهرته الدنيا. انّ كل هذا من نتاج حضارة الغربيين. وانّه لمن الخطأ والاجحاف من لا يرى اولئك الّذين يشغلهم هاجس التفكير بالحداثة وحصيلتها «التنمية»، كل هذا جنباً إلى جنب.

اذن، إذا ما قبلنا أن الانسان يستطيع ـ تبعاً لوعيه وارادته ـ أن يختار طريقه، بل قد يترك بصماته احياناً لصالح الطريق الّذي اختاره، تبعاً للظروف الاجتماعية والتاريخية، فسيكون من الطبيعي اعتبار التسليم التام أمام هيمنة الغرب، ليس منطقياً ولا انسانياً، كما انّ الوقوف غير المنطقي في وجه الكثير من شؤون الحضارة الغربية أمر غير ممكن ، وإذا ما حصل فهو غير عقلاني وغير مجد أيضاً. فالخطوة الأولى هي أن نعي الغرب ونتعرف عليه بصورة سليمة.

من جانب آخر، لا يمكن التعامل مع التراث بسخرية واستهزاء، لأن التراث معين الهوية التاريخية والاجتماعية للأمم، خاصة الأمة الّتي لها حضارة متميزة وثقافة غنية.. فالتراث تجل لثقافة المجتمع ولا يوجد مجتمع من دون ثقافة. وفي هذا المجال تستحق التأمل كلمة أرسطو المعبّرة الّتي وردت في كتابه «السياسة» بالنسبة لدور العُرف وضرورة الاهتمام به في مواصلة الحياة الجيدة للمجتمع والمدينة.

انّ القضاء على التراث يعني مصادرة أساس الهوية التاريخية والثقافية لأية أمّة والقضاء عليها. وإذا ما قدّر لأمة أن تتغير، فانّه ينبغي لها في البدء أن تستشعر وجودها وشخصيتها من خلال ارتكازها إلى هويتها التاريخية، لكي تتمكن من الانطلاق منها. وطبيعي انّ التقليد في بعض الأحيان يكون حائلاً دون التغيير والتطور، ولذا لا مفر من اختراقه. بيد أن الخروج على التقليد يكون مجدياً إذا كان مسبوقاً بالاتكاء إلى نوع من التقليد الذاتي، كما رأينا ذلك في تاريخ العصر الحديث.. ألم يستيقظ الغرب بفضل عودة إلى التراث ؟ إذ عاد المفكرون إلى التراث اليوناني الفكري والفني، وإلى تراث روما الاجتماعي «عصر النهضة» ، كما عاد المتدينون إلى ما كانوا يعتبرونه حقيقة دين المسيح والتراث المسيحي الحقيقي «عصر الاصلاح». وكانت هذه العودة ذاتها مصدر الهام لعصر البناء والاعمار.

وكانت لهاتين الفئتين ـ المفكرين والمتدينين ـ حكاية واحدة في رفض التقاليد الّتي كانت سائدة في عصرهم. بيد أن الظروف كانتبنحو ساعدت البرجوازيين في تحقيق فوزهم بمساعدة المفكرين غير الدينيين ـ ليس بالضرورة أن يكونوا معادين للدين، وبالتالي شيّدوا صرح الحضارة السامق في غياب الدين أو انزوائه، على هَدْي العقلانية الجديدة الّتي ـ بطبيعة الحال ـ فكانت قد تأسست في ظل العودة إلى العقلانية التاريخية. وعليه فلا مفر من الاتكاء إلى التراث حتّى في الصراع مع التراث.

نحن أيضاً ـ الّذين عقدنا العزم على التغيير والتحول، ونريد أن نغير عصرنا من خلال التحكم بمصيرنا ـ يجب أن نحذر التخلي عن تراثنا بذريعة الرغبة في الحصول على التنمية الغربية، دون أن نحقق التنمية الحقيقية. وإذا كان نقد التراث واعادة صياغته أمراً ضرورياً ـ وهو ضروري بالفعل ـ فانّ الأمة القادرة على ذلك هي الّتي لها هوية. والأمة الّتي تفتقر إلى التراث، ليست أكثر من جماعة غير واعية، عديمة الفكر والارادة، يتقاذف حياتها طوفان الحوادث.

وفضلاً عن ذلك، لا يمكن مصادرة التراث أو القضاء عليه أساساً بقرار يصدره أهل الفكر أو الساسة، لأ نّه أعمق بكثير من أن يتم القضاء عليه بهذه السهولة. ونظراً لتأصل التراث وتجذره في أعماق روح المجتمع، فإن الصراع غير المدروس معه، من الممكن أن يقود إلى مضاعفة المعضلات الاجتماعية.

اذن لا يمكن القضاء على التقليد بسهولة، كما انّه لا ينبغي أن نقدم على مثل هذا العمل الخطير دون دراسة. لابدّ من النظر إلى التراث باعتباره أحد الأسس الأصيلة لهويتنا التاريخية، وعلينا أن لا نُفرغ المجتمع من هويته بذريعة الحداثة.

ما ذكرناه لا يعني التسليم التام مقابل التراث أبداً، لأن التراث أيضاً، كما هي الحضارة، موضوع بشري يستحق التغيير. وان آمنا بأبعاد ثابتة في مجال حياة الانسان المعنوية والعقلية والارادية، فانّه يجب القبول بأن جانباً مهماً ـ ان لم نقل جميعه ـ مما نصطلح عليه بالتراث، هو نتاج بشري متأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، وبالتالي فهو عرضه للتغيير وليس مقدساً وخالداً.

انّ تحول التقاليد المستمر ـ احياناً بحركة متسارعة وأخرى بطيئة ـ على مرّ التاريخ، هو أكبر دليل على انّه لا مفر من التحول والتغيير. المهم هو كيف يتقبل الانسان ذلك، وإلى أي حدّ هو مستعد للمساهمة في العملية طوعياً لا أن تضطره الظروف إلى ذلك.

التراث يتغير بالضرورة وان استطاع أن يحافظ على بقائه رغم اقتضاء ومتطلبات حياة الانسان المتحولة. ولكن هل أن مثل هذه المحافظة مطلوبة ؟

التراث شأن بشري. وان أي وجود يصنعه الانسان يجب أن لا يحدّ من وجود الانسان غير المتناهي ذاتاً وبالقوة.. انّ الابقاء على التقليد الّذي انتهى عصره يعني فرض اطار ضيق على كيان الانسان وروحه اللّذين يتسعان إلى ما لا نهاية. وإذا ما تحقق مثل هذا ـ ليس على المدى البعيد، فانّه يعد خيانة بحق وجود الانسان ويلحق ضرراً بروحه.

يظهر الانسان علاقة خاصة مع الوجود ، وفي ظل هذه العلاقة تنشأ الحضارة. وان وعي الانسان لهذه العلاقة يكون وليد الثقافة. وإذا ما واجهت الشؤون الثقافية، الّتي تجري بصورة طبيعية في الروح، وضعاً مختلفاً يبرز التقليد.. والتقليد يرتبط بوعي الانسان وميوله وفهمه بنحو ما. وان هذا الوعي والرغبة والفهم أمور طبيعية إلاّ انّها غير ثابتة. بيد أن هذا التغيير لا يتعارض مع وجود أمور ثابتة في ساحة الوجود، وفي ساحة وجود الانسان أيضاً ، ذلك أن وجود الأمر الثابت لا يعني أبداً بقاء وعينا له ثابتاً دائماً أيضاً. فهل كان وعي الانسان واستيعابه للحقيقة المتسامية والمقدسة في درجة واحدة ومستوى ثابت على مرّ التاريخ ؟ علماً أن الثقافة والتراث يتعاملان مع الوعي والفهم.

الملاحظة المهمة هي انّه إذا ما ظهر الوعي والفهم بصورة اعتيادية، وأنس بهما الانسان، وأمسى هذا الايناس مصدراً أو مظهراً لذاكرة الأمة والمجتمع التاريخية، ففي هذه الحالة يعد التخلي عنه أمراً شاقاً وصعباً. وتكون الصعوبة أكبر إذا ما اتخذت التقاليد صبغة الدين ومظهره. أي ان تحل التقاليد وفهم الانسان المحدود محل الموضوعات المقدسة والمتسامية. ففي هذه الحالة سيُعد أي نوع من الاعتراض على هذا الفهم والعرف، بدعة وخروجـاً عن الدين. وعندها تمسي محـاربة المبتدع أمراً مقدساً وسامياً. ولهذا تكون المشكلة آنفة الذكر أعظم وأخطر في المجتمعات الدينية.

من المسلّم به أن عقولنا وحياتنا تقتضي التغيير والتحول.. تحول في الرؤية وفي العلاقات الاجتماعية. ولا شكّ في ان التقليد، في الكثير من الأحيان، يعد من العوائق الكبيرة الّتي تحول دون التحوّل. بيد أن رفض التقاليد بصورة عشوائية لا يمكن تحقيقه بسهولة ولا هو مرغوب فيه أن وجد، لأنه يفرغ المجتمع من الهوية الّتي يحتاج إليها في التغيير بقوة. أما النهج السليم فهو: ان تكون لنا مساهمة واعية وحذره في عملية التغيير والتحوّل، وفي اعادة صياغة التراث باعتباره موضوعاً بشرياً.

سأحاول تلخيص البحث لأصل إلى النتيجة:

ان مجتمعنا بحاجة إلى التحوّل والتكامل. ولكن يجب أن نعلم أن التنمية بمعناها الغربي ليست أكثر من منهج في التحوّل، كما انّها ليست المنهج الوحيد، فهي حصيلة ظهور وشيوع هوية جديدة في الغرب، وفّرت للغربي أرضية فهم جديد للوجود وللانسان، استناداً إلى التراث والتذكير بالماضي التاريخي.

لقد توصل الغرب في البدء إلى مرحلة من امتلاك الرأي والعزم، عبر عملية شاقة وطويلة، وباجتيازه لطوفان من الصراعات والأزمات. ثمّ تضافرت عناصر الفكر والمشاعر والبحث عن الحقيقة والمناقشة والرغبة والاحقاد والأحلام الوردية، والتقت معاً، لتعطي الحداثة والتنمية.

ونحن اليوم نحيا في عصر اتضحت فيه أكثر من أي وقت آخر، نقاط ضعف الحضارة الحديثة وروحها ـ الحداثة ـ ، ليس خارج العالم الغربي فحسب، بل وفي داخل الغرب أيضاً.. نحن نحيا في عصر شكّك الحداثويون أيضاً في شمولية الحضارة الغربية وقدرتها على تحقيق النهاية المرجوة والأخذ بالبشرية إلى برّ الأمان.

انّ وعي هذا الأمر يقودنا إلى الامتناع عن التسليم الأعمى إلى معايير التنمية الغربية.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى يحول في الوقت ذاته دون اعتبار التراث أمراً مقدساً لا يحتمل التغيير. وعليه فنحن نقف في مواجهة شأنين بشريين. أحدهما متأصل في أعماق الروح والمجتمع ، والآخر ورد من الخارج ونفذ إلى حياتنا: انهما التراث والحضارة الحديثة.. الشيء المهم هو انّ ننظر إلى هذين الشأنين البشريين على انهما شأن بشري وليس حقيقة مطلقة وغاية نهائية منشودة ، كما ابتلى بذلك كثير من التقليديين المتحجرين، والمتظاهرين بالحداثة السطحيين.

اذن، ما ينبغي لنا أن نفعل ؟

اسمحوا لي أن أحلّق قليلاً في الخيال، ولكن للبحث عن سبيل إلى الواقع. وعلى الرغم من ان الخيال يلعب دوراً مهماً في حياة الانسان الفردية والاجتماعية، وقد يتسم في الكثير من الأحيان بدور أهم من دور الفعل ، ففي الكثير من الحالات الّتي يعجز فيها العقل ويصل إلى طريق مسدود، يتم اختراق الطريق المسدود بأجنحة الخيال وفتح آفاق جديدة حتّى أمام العقل، ليصول ويجول فيها.. بيد أن التحليق بالخيال في جمع أهل العلم والفكر قد ينسجم كثيراً مع حكم العقل. ولكن التحليق بالخيال في ميدان لم تتحقق فيه بعد القدرة للصول والجول بمركب العلم والفكر المحض ، ليس غير محبب تماماً. فكم من الأحلام فتحت أمام العلماء والمفكرين سبل حل لمستقبل أكثر اشراقاً.. فإذا كانت لغة العلم في موضع ما لكْنَة بطيئة، فإن فسح المجال أمام الخيال لا يعد أمراً مخالفاً لحكم العقل.. وبطبيعة الحال ليس المقصود الخيال المجرد، بل الخيال الّذي بامكانه انّ يوصلنا إلى شواهد علمية وعينية كثيرة على صحة مضامينه.

أريد أن أقول:

لأجل تحديد معالم عصرنا الراهن، ينبغي أن نتطلع إلى المستقبل. وحتّى نتمكن من الحصول على تصوير سليم عن مستقبلنا يحظى بالقبول، ليس أمامنا خيار سوى أن نعي ماضينا ونألفه ونأنس به.

وفي الغد سوف تخطو البشرية خطوات أبعد من حضارة اليوم. ولا شكّ سوف يأتي مثل هذا اليوم ، وان الّذي سيصل إليه قبل غيره، من يعي الماضي وفي الوقت ذاته يتطلع إلى المستقبل، وليس التقليديين المتحجرين الواقعين تحت أسر الماضي ، ولا الحداثويين السطحيين المبهورين بهيمنة العصر وظواهره.

فلماذا لا نتطّلع إلى الحضارة القادمة، ونبدع كل نوع من التغيير الّذي ينسجم معها ويتسق مع التقدم نحوها ؟. طبيعي انّ مثل هذه الرؤية الّتي تحلّق عالياً، مبتنية ومسبوقة بنظرتين نقديتين:

الأُولى: النظرة النقدية للتراث والاستعداد لتقبل التغيير فيه.

والثانية: النظرة النقدية للحداثة باعتبارها مرحلة عابرة في تاريخ حياة الانسان وليست آخر مراحل تكامل التاريخ.

وبطبيعة الحال ان الخوض في المستقبل لا يعني انكار الحاضر ورفضه. ان الّذين يصنعون الحضارة، ورجال المستقبل، تتحقق لهم درجة من النمو والوعي والشجاعة يتمكنون من خلالها اكتساب جميع المعطيات الفكرية والميدانية لانسان اليوم.

فنحن لسنا محكومين بالذوبان في نظام الحضارة الحديثة، إلاّ إذا كنّا لا نؤمن بدور الحرية وارادة الانسان، الّتي تتأثر بالطبع بشدة بالعوامل البيئية والتاريخية والاجتماعية ولكنها ليست أسيرة لها. بيد انّه ليس بمقدورنا تجاهل كل هذه الانجازات الباهرة (العلمية والاجتماعية والسياسية).

لماذا لا نحاول ايجاد علاقة جديدة مع الوجود، بذهابنا أبعد من الحاضر ـ من خلال التسلّح بنقد الحداثة ونقد التراث معاً، وأن نكون أصحاب رؤية جديدة نقيم على ضوئها حضارة جديدة، وأن نمثل نحن مرحلة جديدة في حياة الانسان ، في ذات الوقت الّذي نرتكز إلى ماضينا المنتج لحضارتنا، نستفيد من المعطيات الباهرة للحضارة الحديثة ؟ خاصة ونحن نمتلك في التاريخ سابقة حضارية ونفوذ حضاري ترك بصماته على مصير العالم والانسان.

لماذا لا نحاول ثانية في ايجاد حضارة أخرى ؟ وبطبيعة الحال ليس بالعودة إلى الماضي للوقوف عنده، وهي الرجعية بعينها ، بل من أجل الارتكاز إلى قاعدة موثوقة ومطمئنة والانطلاق منها إلى ما هو أبعد من آفاق هذا العصر، نحثّ الخطى نحو مستقبل يستند إلى الحاضر والماضي.

……………………………………..

1يقصد «كل شكل من أشكال تنظيم الحياة البشرية» على حد تعبير علماء الانثربولوجيا وليس ما يقابل البداوة.

2يقصد حكماء الحوزة الاسكندرانية ـ وأشهرهم فلوطين، أو ما يسمون بالافلاطونيين الجدد.

نقله إلى العربية منير مسعودي