خلال الايام الاخيرة من تموز (يوليو)، افصح النائب توم ديلاي (جمهوري) من تكساس، وهو زعيم الغالبية في مجلس النواب ويوصف عادةً باعتباره احد الرجال الثلاثة او الاربعة الأقوى نفوذاً في واشنطن، عن آرائه في ما يتعلق بخريطة الطريق ومستقبل السلام في الشرق الاوسط. وما صرّح به كان يقصد منه الاعلان عن رحلة قام بها في وقت لاحق الى اسرائيل وبلدان عربية عدة حيث عبّر بوضوح، كما اُفيد، عن الرسالة ذاتها. لم يترك ديلاي مجالاً للشك في أنه يعارض تأييد ادارة بوش لخريطة الطريق، خصوصاً ما تتضمنه بشأن قيام دولة فلسطينية. وقال بلهجة حازمة انها “ستكون دولة ارهابية”، مستخدماً كلمة “ارهابية” كما اصبح مألوفاً في الخطاب الاميركي الرسمي من دون اعتبار لظرف او تعريف او خصائص ملموسة. وتابع قائلاً انه توصل الى افكاره بشأن اسرائيل بفضل ما وصفه بمعتقداته كـ”صهيوني مسيحي”، وهو تعبير لا يعد مرادفاً لتأييد كل ما تفعله اسرائيل فحسب بل ايضاً لحقّ الدولة العبرية الثيولوجي في ان تواصل القيام بما تقوم به بغض النظر عما اذا كان سيلحق الأذى في سياق ذلك ببضعة ملايين فلسطيني “ارهابي”.
ويراوح العدد الكلي للاشخاص الذين يفكرون على شاكلة ديلاي في جنوب غربي الولايات المتحدة بين 60 و70 مليون شخص، وينبغي ان يُلفت الى ان من ضمنهم جورج دبليو بوش الذي يعد ايضاً من المسيحيين الذين عادوا بحماس الى ديانتهم، ويُفترض بالنسبة اليهم ان يؤخذ حرفياً بكل ما يتضمنه الكتاب المقدس. وبوش هو زعيمهم وسيعتمد بالتأكيد على اصواتهم في انتخابات 2004 التي لن يفوز بها، حسب اعتقادي. ولأن رئاسته معرضة للخطر بسبب سياساته المدمرة داخل البلاد وخارجها، فإنه والمخططين الاستراتيجيين لحملته الانتخابية يحاولون ان يجتذبوا المزيد من اليمينيين المسيحيين من مناطق اخرى في البلاد، خصوصاً الوسط الغربي. اجمالاً اذاً، تمثل آراء اليمين المسيحي (بالتحالف مع افكار ولوبي حركة المحافظين الجدد المؤيدة بتطرف لاسرائيل) قوة هائلة في الحياة السياسية للولايات المتحدة، وهي الفضاء الذي يدور فيه، واحسرتاه، الجدل حول الشرق الاوسط في اميركا. وعلى المرء ان يتذكر دوماً ان فلسطين واسرائيل تعتبران في اميركا اموراً محلية وليس شؤوناً تتعلق بالسياسة الخارجية.
هكذا، لو ان تصريحات ديلاي كانت مجرد افكار احد المتحمسين المتدينين او هذراً غامضاً لحالم غير ذي شأن، يمكن للمرء ان يصرف النظر عنها بسرعة باعتبارها هراء. لكنها تمثل في الحقيقة لغة سلطة لا تقاوم بسهولة في اميركا، حيث يؤمن الكثير من المواطنيين بانهم يخضعون مباشرة لتوجيه الله في ما يرونه ويعتقدونه، واحياناً في ما يفعلونه. ويقال ان وزير العدل جون اشكروفت يبدأ كل يوم عمل في مكتبه بصلاة جماعية. حسناً، يريد الناس ان يصلوا، وهم يتمتعون بحرية دينية كاملة بموجب الدستور. لكن في حالة ديلاي، عندما يصرح بما قاله ضد شعب بأكمله، الفلسطينيون، بانهم سيقيمون بلداً كاملاً من “الارهابيين”، أي من اعداء البشرية حسب تعريف واشنطن الحالي للكلمة، فإنه يعرقل على نحو خطير تقدمهم في اتجاه تقرير المصير، ويمضي شوطاً في فرض مزيد من العقاب والمعاناة عليهم، وكل ذلك بالاستناد على منطلقات دينية. بأي حق؟
لننظر في وحشية موقف ديلاي وغطرسته الامبريالية: من موقع مهيب يبعد عشرة آلاف ميل يمكن لاشخاص مثله، ممن لا يعرفون شيئاً عن الحياة الفعلية للفلسطينيين العرب، ان يتخذوا عملياً قراراً ضد تحرر الفلسطينيين ويؤخرونه، ويضمنوا سنوات اخرى من الاضطهاد والمعاناة، لمجرد انه يعتقد انهم جميعاً ارهابيون ولأن صهيونيته المسيحية – حيث لا يعني الاثبات او المنطق شيئاً – تبلغه ذلك. اذاً، بالاضافة الى اللوبي الاسرائيلي هنا، ناهيك عن الحكومة الاسرائيلية هناك، يتعيّن على رجال ونساء واطفال فلسطين ان يتحملوا مزيداً من المعوقات ومزيداً من العقبات التي تعترض طريقهم في الكونغرس الاميركي. هكذا ببساطة.
ما لفت انتباهي ايضاً بشأن تصريحات ديلاي ليس افتقارها حس المسؤولية واستهانتها غير المتحضرة (وهو تعبير شائع الاستخدام كثيراً في ما يتعلق بالحرب ضد الارهاب) بالألوف من الاشخاص الذين لم يلحقوا به أي اذى اطلاقاً فحسب، بل ايضاً الواقع الزائف المضلل الذي تشترك فيه تصريحاته مع الكثير مما يصدر عن واشنطن بقدر ما يتعلق الأمر بالنقاشات حول (والسياسة تجاه) الشرق الاوسط والعرب والاسلام. وقد بلغ هذا مستويات جديدة من التجريد الانفعالي، وحتى الفارغ، في الفترة منذ احداث 11 ايلول (سبتمبر). ويسود الفضاء العام الغلو، أي اسلوب ابتكار المزيد والمزيد من التصريحات المتشددة لوصف وضعٍ ما والافراط في وصفه، ابتداءً بالطبع من بوش ذاته، الذي نقلت تصريحاته الغيبية بشأن الخير والشر، ومحور الشر، ونور الله، ومقولاته المكرورة المقززة للنفس بشأن شرور الارهاب، اللغة التي تتحدث عن التاريخ الانساني والمجتمع الى مستويات جديدة مختلة من الجدل التجريدي الذي لا يقوم على أساس. ويتداخل هذا كله مع عظات واعلانات مهيبة الى بقية العالم للتحلي بالبراغماتية، وتجنب التطرف، واظهار التحضر والعقلانية، حتى في الوقت الذي يمكن فيه لصناع السياسة الاميركيين بما لديهم من سلطة غير مقيدة ان يشرّعوا لتغيير نظام هنا، وغزو هناك، و”اعادة بناء” بلد في مكان آخر، كل ذلك من داخل مكاتبهم المترفة المكيفة الهواء في واشنطن. هل هذا اسلوب لوضع معايير لنقاش حضاري ولتطوير قيم ديموقراطية، بما في ذلك فكرة الديموقراطية بالذات؟
كانت احدى الافكار الرئيسية لخطاب الاستشراق كله منذ منتصف القرن التاسع عشر ان اللغة العربية والعرب مبتلون بذهنية وايضاً بلغة لا فائدة منها للواقع. وصدّق عرب كثيرون هذا الهراء العنصري، كما لو ان لغات وطنية بأكملها مثل العربية والصينية والانكليزية تمثل بشكل مباشر عقول مستخدميها. وهذه الفكرة هي جزء من الترسانة الايديولوجية ذاتها التي اُستخدمت في القرن التاسع عشر لتبرير الاضطهاد الاستعماري: “الزنوج” لا يستطيعون النطق كما ينبغي ولذا يجب، وفقاً لتوماس كارلايل، ان يبقوا مستعبدين. و”اللغة الصينية” معقدة وبالتالي فان الرجل او المرأة الصينية، وفقاً لإرنست رينان، شخص مراوغ وينبغي ان يقمع، وهلم جراً. لا أحد يأخذ مثل هذه الافكار على محمل الجد في الوقت الحاضر، الاّ عندما يتعلق الأمر بالعرب واللغة العربية والمستعربين.
في ورقة بحث كتبها قبل بضع سنوات فرانسيس فوكوياما، الفيلسوف المتغطرس اليميني الذي اُحتفي به لفترة وجيزة لفكرته الحمقاء حول “نهاية التاريخ”، قال ان وزارة الخارجية الاميركية ستحسن صنعاً اذا تخلصت من المستعربين والناطقين باللغة العربية لديها لأنهم بتعلم هذه اللغة تعلموا ايضاً “اوهام” العرب. وفي الوقت الحاضر، يهذر كل فيلسوف متخلف في وسائل الاعلام، بما فيهم خبراء مثل توماس فريدمان، بالطريقة ذاتها، ليضيفوا في توصيفاتهم العلمية للعرب بأن أحد الاوهام الكثيرة ل 604;غة العربية هو تلك “الاسطورة” الشائعة التي يحملها العرب عن انفسهم كشعب. وبحسب خبراء من امثال فريدمان وفؤاد عجمي فإن العرب هم مجموعة مفككة من المتشردين، وقبائل تحمل رايات، متظاهرين بأنهم ثقافة وشعب. ويمكن للمرء أن يلفت الى أن هذا بالذات وهم استشراقي يتصف بالهلوسة، لا يختلف عن اعتقاد الصهاينة بأن فلسطين كانت خالية من السكان، وان الفلسطينيين لم يكونوا موجودين هناك ولا يعتبرون بالتأكيد شعباً. ونادراً ما يحتاج المرء الى المجادلة ضد صحة مثل هذه الافتراضات، فهي تنبع بجلاء من الخوف والجهل.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فالعرب يوبخون بقوة دوماً لعجزهم عن التعامل مع الواقع، وتفضيلهم اللغة الطنانة على الحقائق، والانغماس في الرثاء للذات وتبجيل الذات بدلاً من انغماسهم في سرد رصين للحقيقة. والموضة الجديدة هي ان يُشار الى تقرير برنامج التنمية التابع للامم المتحدة الذي صدر العام الماضي باعتباره عرضاً “موضوعياً” لادانة العرب لأنفسهم. ويتم تجاهل حقيقة ان هذا التقرير، كما بيّنت سابقاً، اشبه بورقة بحث لطالب جامعة في علم الاجتماع، تمتاز بسطحيتها وافتقارها الى التأمل بعمق واُعدّت لاثبات ان العرب يمكن ان يقولوا الحقيقة عن انفسهم، وهو أدنى بكثير من مستوى عقود من الكتابة النقدية للعرب منذ زمن ابن خلدون وحتى الوقت الحاضر. يُطرح هذا كله جانباً، كما هو ايضاً حال السياق الامبريالي الذي يتجاهله مؤلفو التقرير من دون اكتراث، وربما كان ذلك مفضلاً اكثر للبرهنة على ان تفكيرهم يتوافق مع البراغماتية الاميركية.
وغالباً ما يقول خبراء آخرون ان العربية، كلغة، تفتقر الى الدقة وعاجزة عن التعبير عن أي شيء بدقة حقيقية. ومثل هذه الملاحظات، حسب رأيي، عابثة ايديولوجياً لدرجة انها لا تستدعي المجادلة. لكن اعتقد انه يمكن الحصول على فكرة عما يحرّك مثل هذه الآراء بالقاء نظرة، كمقارنة مفيدة، على احد النجاحات الكبرى للبراغماتية الاميركية وكيف يبيّن الطريقة التي يتعامل بها زعماؤنا وسلطاتنا الحالية مع الواقع باسلوب متزن وواقعي. وآمل بأن تتضح بسرعة المفارقة المثيرة للسخرية في المسألة التي اناقشها. المثال الذي يخطر ببالي هو التخطيط الاميركي للعراق في مرحلة ما بعد الحرب. ونشرت صحيفة “فايننشال تايمز” تقريراً مفزعاً بهذا الشأن في 4 آب (اغسطس) الجاري يشير الى ان دوغلاس فايث وبول ولفويتز، وهما مسؤولان غير منتخبين يعدان من الأقوى نفوذاً وسط المحافظين الجدد “الصقور” في ادارة بوش وتربطهما علاقات وثيقة على نحو استثنائي بحزب ليكود في اسرائيل، كانا يديران مجموعة خبراء في البنتاغون “ادركوا منذ البداية ان هذه (الحرب وما يعقبها) لن تكون مهمة تنجز بسهولة فحسب، اذ ان (الأمر كله) سيستغرق 60-90 يوماً، يعقبه تغيير سريع وتسليم… الى الجلبي والمؤتمر الوطني العراقي. ويمكن لوزارة الدفاع الاميركية آنذاك ان تنفض يديها من المسألة كلها وترحل بسرعة، وسلاسة، وخفة. وسيكون هناك، في اعقاب ذلك، عراق ديموقراطي متجاوب مع رغباتنا وطلباتنا. وهذا هو كل ما يقتضيه الأمر”.
نعرف الآن، بالطبع، انه جرى خوض الحرب بالفعل وفقاً لهذه المنطلقات وجرى احتلال العراق عسكرياً بناءً على هذه الافتراضات الامبريالية المستبعدة كلياً في الواقع. فسجل الجلبي كمخبر ومصرفي لم يكن، في أي حال، جيداً. ولا أحد بحاجة الآن الى التذكير بما حدث في العراق منذ سقوط صدام حسين. فالفوضى الفظيعة، من سلب ونهب المكتبات والمتاحف (وهو ما يتحمل مسؤوليته كلياً الجيش الاميركي كقوة محتلة)، والانهيار التام للبنية التحتية، ومشاعر العداء وسط العراقيين – وهم ليسوا، بأية حال، مجموعة واحدة منسجمة – تجاه القوات الأنكلو اميركية، وفقدان الأمن وغياب الكثير من متطلبات الحياة اليومية في العراق، واولاً وقبل كل شيء الافتقار البالغ الغرابة الى الاهلية البشرية – أشدد على كلمة “بشرية” – لدى غارنر وبريمر وكل مرؤوسيهم وجنودهم، للتعامل على نحو ملائم مع مشاكل العراق في مرحلة ما بعد الحرب… هذا كله دليل على ذلك النوع من البراغماتية والواقعية الزائفة المدمرة للتفكير الاميركي الذي يُفترض انه في تناقض صارخ مع براغماتية وواقعية اشباه الشعوب الأقل شأناً مثل العرب الممتلئين بالاوهام فضلاً عن لغة مَعيبة. وحقيقة الأمر هي ان الواقع لا يخضع لمشيئة الفرد (مهما كان قوياً)، كما انه لا يخلص الولاء لبعض الشعوب والذهنيات اكثر من غيرها. فالحالة البشرية تتألف من التجربة والتأويل، وهذان شيئان لا يمكن اخضاعهما كلياً بالقوة: انهما ايضاً المجال المشترك للبشر في التاريخ. والاخطاء المريعة التي ارتكبها ولفويتز وفايث ترجع الى الاستعاضة على نحو متعجرف بالتجريد وبلغة جاهلة في النهاية عن واقع اكثر تعقيداً وعناداً بكثير. وها هي النتائج المروعة لا تزال ماثلة امامنا.
اذاً دعونا لا نقبل بعد الآن الديماغوجية الايديولوجية التي تترك اللغة والواقع ملكاً وحيداً للقوة الاميركية، او لما يسمى بالمناظير الغربية. ان جوهر الأمر هو بالطبع الامبريالية، أي تلك المهمة المتغطرسة (التافهة في النهاية) بتخليص العالم من اشرار مثل صدام باسم العدالة والتقدم. وهناك التبريرات المعدّلة لغزو العراق والحرب الاميركية على الارهاب التي اصبحت احدى القضايا الاسوأ المستوردة من امبراطورية فاشلة سابقة، بريطانيا، وساهمت في اضفاء فظاظة على الخطاب وتشويه الحقائق والتاريخ بفصاحة مفزعة، تلك التي يطلقها صحافيون بريطانيون مغتربون في اميركا ممن لا يملكون الأمانة كي يقولوا بشكل صريح، نعم، نحن متفوقون ولدينا الحق في ان نلقّن السكان الاصليين درساً في أي مكان في العالم نشعر فيه بأنهم اشرار ومتخلفون. ولماذا نملك هذا الحق؟ لأن اولئك السكان الاصليين ذوي الشعر الأصوف فشلوا، ونحن نعرفهم من تجربتنا في ادارة امبراطوريتنا طوال 500 عام ونريد الآن لأميركا ان تقتدي بها: انهم يعجزون عن فهم حضارتنا، وهم مدمنون على الخرافة والتعصب، وهم طغاة متمسكون بعناد بتقاليد بالية ويستحقون العقاب، ونحن، والله، من سينفذ المهمة باسم التقدم والحضارة. واذا كان بعض بهلوانات الصحافة المتقلبين (الذين خدموا سادة كثيرين لدرجة أنه لم تعد لديهم اية معايير اخلاقية اطلاقاً) يستطيع ان يستشهد بماركس وعلماء ألمان – على رغم عدائهم المعلن للماركسية وجهلهم التام بأي لغات او عــلوم غير انكلــيزية – لدعم ما يقولونه، فانهم سيبدون اكثر ذكاءً بكثير. لكنها في الواقع عنصرية فحسب، مهما جرى تجميلها.
المشكلة هي في الواقع أعمق وأكثر إثارة للاهتمام مما تخيل المجادلون بعنف لمصلحة القوة الاميركية ووكلاء الدعاية لها. فالناس في ارجاء العالم يعانون المأزق الذي آلت اليه ثورة في الفكر ومفردات اللغة اصبحت الليبرالية الجديدة و”البراغماتية” الاميركية تمثل فيها، من جهة، على ايدي صناع السياسة الاميركيين معياراً شمولياً، في حين أن هناك – كما رأينا في مثال العراق الذي اشرت اليه اعلاه – شتى انواع الزلات والمعايير المزدوجة في استخدام كلمات مثل “الواقعية” و”البراغماتية”، وكلمات اخرى مثل “علماني” و”ديموقراطية” بحاجة الى اعادة نظر واعادة تقويم كاملتين. فالواقع اكثر تعقيداً وتنوعاً من ان يستسلم لصياغات تافهة مثل “سيؤدي ذلك الى عراق ديموقراطي متجاوب معنا”. ومثل هذا التفكير لا يمكن يجتاز اختبار الواقع. ان المعاني لا تُفرض من ثقافة على اخرى، مثلما لا تملك لغة بمفردها او ثقافة بمفردها سر كيفية انجاز الاشياء بكفاءة.
لقد سمحنا، كما أرى، كعرب وكأميركيين لوقت أطول مما يجب لبضع شعارات جرى الزعيق بها كثيراً عنـ”نا” وعن طريقتـ”نا” ان تؤدي مهمة النقاش والجدل والحوار. واحد الاخفاقات الكبيرة لمعظم المثقفين العرب والغربيين في الوقت الحاضر هو انهم قبلوا من دون نقاش او تمحيص دقيق تعابير مثل العلمانية والديموقراطية، كما لو ان كل شخص يعرف ما تعنيه هذه الكلمات. لدى اميركا حالياً سجناء اكثر من أي بلد في العالم، كما تنفذ فيها عمليات اعدام اكثر من أي بلد في العالم. وكي ينتخب المرء رئيساً للولايات المتحدة، لا يحتاج الى الفوز باصــوات الناخبين بل يتعيّن عليه ان يـــنفق اكثر من 200 مليون دولار. كيف تجتاز هذه الاشياء اختبار “الديموقراطية الليبرالية”؟
اذاً بدلاً من تنظيم شروط النقاش من دون شكوكية حول بضعة مصطلحات غير متقنة مثل “الديموقراطية” و”الليبرالية” او حول مفاهيم غير مدروسة عن “الارهاب” و”التخلف” و”التطرف”، ينبغي ان ندفع باتجاه نوع اكثر تطلباً من النقاش يجري فيه تعريف المصطلحات من وجهات نظر متعددة ووضعها دوماً في ظروف تاريخية ملموسة. ويكمن الخطر الكبير في ان يُقدّم التفكير “السحري” الاميركي على طريقة وولفويتز وتشيني وبوش على نحو مضلل باعتباره المعيار الأسمى الذي ينبغي ان تتبعه كل الشعوب واللغات. لذا علينا، حسب اعتقادي، واذا كان العراق مثالاً بارزاً، الاّ نسمح لهذا الأمر ان يحدث من دون نقاش جاد وتحليل معمق، ويجب الاّ نسمح بتخويفنا لنتصور بان قوة واشنطن مرعبة على نحو لا يقاوم. وبقدر ما يتعلق الأمر بالشـــرق الأوسط، يجب ان يتضمن النقاش العرب والمسلمين والاسرائيليين واليهود كمشاركين متساوين. واحض كل شخــص على ان يشارك في هذا النقاش ولا يخلي ميدان القيم والتــعاريف والثــقافات من دون نــزال. انها قطــعاً ليســــت ملك بضعة مسؤولين في واشنطن، مثلما هي لي7;ت مسؤولية بضعة حكام في الشرق الاوســط. يوجد ميدان مشترك لمشروع إنساني يجري انشــاؤه وإعادة انشائه، ولا يمــكن لأي قدر من الصخب المتبجح الامبراطوري ان يخفي هذه الحقيقة او يلغيها.
…………………..
الحياة 2003/08/25
iThere are no comments
Add yours