عرض لكتاب “إسرائيل و بلاد المغرب”: في التطبيع و ميكيافيلية الدولة الوطنية في المغرب العربي

الطاهر الأسود
باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

نشر في صحيفة القدس العربي (صفحة مذكرات و كتب) عدد 28 فيفري 2005

المشكل

بالرغم من استمرار الصراع العربي الاسرائيلي فإن طوله الكرونولوجي قد سمح ليس فقط بتجمع كم أرشيفي هائل بل أيضا بمرور الزمن الكافي لرفع السرية عن عدد هام من الوثائق التي لم تكن معروفة. و باستثناء الأرشيف الحكومي العربي (و هو لا يحوي على كل حال على تسجيل لكل الوقائع) و الذي لا يتضمن تراتيب واضحة تضبط المدة اللازمة لرفع السرية عن الوثائق الحساسة فإن باقي مراكز الأرشيف الدولية قد بدأت منذ حقبة الثمانينات و خاصة التسعينات برفع الحجر عن مصادر هامة تساعد على الـتأريخ أو في أقل الأحوال توفير حد أدنى من المعطيات التي لم يكن ممكنا في السابق الاطلاع عليها و هو ما يتعلق خاصة بالفترة الأكثر التصاقا الى الراهن السياسي العربي أي مرحلة النصف قرن الماضي من حياة الدول القطرية/الوطنية العربية. و إذا كان الموضوع لا يزال في حاجة الى تحيين ضروري على المستوى العربي عامة فإن منطقة المغرب العربي بفعل بعدها الظاهري عن المجال الجغرافي الأكثر سخونة للصراع العربي الاسرائيلي قد بقيت متوارية في تلك الصورة، تقبع خلف “اللاعبين الاقليميين الرئيسيين” و هو ما يجعلها تحتاج بالتأكيد الى إهتمام أكبر. فهل كانت هذه المنطقة فعلا متوارية سياسيا و استراتيجيا بتناسب مع تواريها الجغرافي؟

يجيب الكتاب الذي يشكل محور عرضي النقدي هذا، و لو جزئيا، على هذا السؤال. و بالرغم من كل ما يمكن أن يمثله إنتماء مؤلفه الإسرائيلي و رؤيته الصهيونية في الأساس من حدود بديهية تقلل من الشروط الموضوعية للبحث الأكاديمي التاريخي فإننا سنتعامل معه من زاوية ما يمكن أن يوفره من معطيات إخبارية يمكن أن تلقي ضوءا مختلفا على بعض الأحداث المعروفة أو ضوءا جديدا يكشف عن أحداث لم تكن معروفة. و في هذا الاطار يتوفر الكتاب على معطيات كافية تساعد على التوصل الى ثلاث أفكار أساسية. أولا يدفع الى الكف عن النظر الى الأقطار المغاربية على أنها مستنكفة عن الخوض في موضوع الصراع العربي الاسرائيلي، مستغرقة في محيطها الاقليمي أو غير مبالية بما يحدث في “قلب الصراع”. ثانيا يحث على التوقف عن النظر الى الأنظمة الحاكمة من زوايا قيمية و إطلاقية من نوع إما أبيض و إما أسود: إما “وطنية” و “وفية” (فيما يتعلق بالنظامين الجزائري و الليبي) و إما “عميلة” و “خائنة” (و هي التهم التي ما تُثار عادة في علاقة بالنظامين المغربي و التونسي). حيث تقدم الوثائق الأرشيفية الجديدة الخام (الوصفية في الأغلب) صورة أكثر واقعية تقرب الهوة بين هذه الأنظمة و توضح طبيعتها الميكيافيلية و التي تمثل نقطتها المشتركة البديهية. ثالثا، و فيي المقابل، توضح الكثير من المعطيات أن عددا من الشعارات القومية و الوطنية كانت بالتأكيد (و لا تزال) صحيحة و لا تعبر عن أوهام أو تحليلات تامرية، و خاصة تلك المتعلقة بتقييم السياسة الاسرائيلية التي تعتمد التطبيع لـ”تخريب”، كما جاء بشكل صريح في أحد الوثائق الاسرائيلية، “جهود الوحدة العربية”.

الكتاب

تخصص المؤرخ و أستاذ جامعة بار إيلان الاسرائيلي (المتحدر من عائلة يهودية مغربية) مايكل لاسكيار (Michael Laskier) منذ بداية الثمانينات في كتابة البحوث حول موضوع محدد: العلاقات بين “بلاد المغرب” (بالتعريف الفرنسي المحدد فقط في أقطار تونس و الجزائر و المغرب) و إسرائيل. و من الممكن إعتبار باكورة بحوثه كتابه الذي صدر أخيرا في سنة 2004 عن دار النشر التابعة لجامعة ولاية فلوريدا و المعنون “إسرائيل و بلاد المغرب: من إقامة الدولة الى أوسلو” (Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo). و من المؤكد أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها التعرض الى هذا الموضوع. فبخلاف التقارير الصحفية التي تظهر في بعض المنعطفات السياسية توجد بحوث ذات طابع أكاديمي مماثل لمقالات لاسكيار و يتعلق الأمر على سبيل المثال بمؤرخ اسرائيلي اخر يدرس الان في كلية سلاح الجو الأمريكي يعقوب أبادي (Jacob Abadi) و الذي نشر في أواسط التسعينات مقالات مهمة عن علاقة الأقطار المغاربية بإسرائيل.

و لكن تتميز أعمال لاسكيار بتفردها من حيث الاعتماد على وثائق من الأرشيف السري الاسرائيلي تم رفع السرية عنها تدريجيا و ذلك منذ بداية التسعينات عندما بدأ في تأليف كتابه و الذي نشره في الواقع بشكل متقطع في مؤلفاته السابقة و في عدد من الدوريات الدولية و خاصة في الولايات المتحدة و أشير هنا مثلا الى مقال كان قد نشره سنة 2000 في نشرية ميدل ايست ريفيو اوف انترناشيونال أفيرز، الدورية الأمريكية المتخصصة في الشأن السياسي العربي الاسلامي و التي يشرف عليها اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة، و هو بالمناسبة متوفر على الموقع الالكتروني لهذه الدورية لمن يتعذر عليه قراءة الكتاب و يرغب في قراءة تلخيص عام لما جاء فيه. و بالاضافة الى وثائق سرية سابقا محفوظة في الولايات المتحدة و فرنسا تتمثل أهم مصادر لاسكيار في مجموعة من الوثائق السرية المحفوظة إما في مراكز الأرشيف الرسمية الاسرائيلية مثل أرشيف وزارة الخارجية أو في مراكز أرشيفية تتبع أساسا لمنظمات غير حكومية مثل “الارشيف المركزي الصهيوني” في القدس المحتلة و هي تتعلق أساسا بوثائق ترجع للفترة القائمة بين خمسينات و بداية سبعينات القرن الماضي و صادرة إما عن مؤسسات اسرائيلية رسمية مثل وزارة الخارجية الاسرائيلية او مؤسسات مرتبطة باسرائيل مثل “المؤتمر اليهودي العالمي”. كما اعتمد الكاتب ضمن مصادره تقارير لشخصيات رئيسية شاركت في أحداث تتعلق بالفترة الزمنية الخاصة بالوثائق سابقة الذكر، و يتعلق الأمر مثلا بتقارير كتبها ألكس ايسترمن (Alex Easterman) مدير المكتب السياسي لـ “الموتمر اليهودي العالمي” المتركز في لندن عن حوارات و مقابلات أجراها مع مسؤولين مغاربة (الوزير الأول مبارك البكاي سنة 1956 في باريس) و تونسيين (الرئيس بورقيبة و وزير الخارجية بورقيبة الابن سنة 1966 في تونس) و التي نشرها كاملة ضمن ملحق خاص.

و في الوقت الذي قسم فيه المؤلف كتابه الى سبعة فصول فإنه يعالج فيه أربعة محاور أساسية أشار اليها في المقدمة، و تتمثل في : أولا، مختلف الانعكاسات السياسية الناتجة عن وقائع أساسية مثل هجرة اليهود المغاربيين الى إسرائيل و الصراع العربي الاسرائيلي. ثانيا، الانخراط الاسرائيلي في الأوضاع الداخلية لبلاد المغرب. ثالثا، “الدور الريادي” الذي قام بها قادة مغاربيون لإيجاد حل سلمي للصراع العربي الاسرائيلي. رابعا، أهمية دور الأقلية اليهودية المغاربية (و خاصة في المغرب الأقصى) في توفير قنوات اتصال سرية بين إسرائيل و أقطار المغرب.

مفارقات التقارب و الصراع

في سنة 1965 صرح وزير الخارجية الاسرائيلي ل;;يفي أشكو-604; في خطاب بالكنيست “احفضوا نصيحتي: لا تعلقوا أهمية زائدة على ما يسمى بالقادة العرب المعتدلين”. كانت الشكوك الاسرائيلية تجاه ما يُقدم الان على أنهم قادة “معتدلين” أو “متعاونين” مع اسرائيل قوية، و يشمل ذلك بالنسبة لبلاد المغرب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة و العاهل المغربي الحسن الثاني. و من أهم أسباب التشاؤم الاسرائيلي تجاه هؤلاء حرصهم الكبير على عدم التورط العلني في أي علاقة بإسرائيل بالرغم من استعدادهم لعقد لقاءات على أعلى مستوى بالمسؤولين الاسرائيليين. و هكذا فأمام المطلب الاسرائيلي المستمر بالكشف عن هذه العلاقات الخلفية فإن تونس و المغرب حرصتا بشكل فائق و بإلحاح على الطابع السري لأي علاقة بالدولة العبرية. لقد كان هناك توافق تونسي مغربي (بشكل عفوي أم واعي؟) على هذه السياسة و التي ميزت التطورات اللاحقة و الراهنة حيث يحرص كل منهما على اتباع نفس التوجه و القاضي بالامتناع عن اتخاذ أية خطوات تبدو مخالفة للـ”إجماع العربي” الرسمي، و لا يتوقف ذلك على مرحلة المد القومي بل يتعداه للمرحلة الراهنة. و ضمن هذا الاطار يجب فهم ملاحظة أشكول أعلاه: ففي حين أن أهم الفوائد السياسية لتلك اللقاءات من وجهة النظر الاسرائيلية تكمن تحديدا في “كسر حصار” دول الطوق فان تلك الفائدة لم تتحقق عمليا لأنها ببساطة غير مرئية. حيث أن ما يكفل حقا كسر الطوق الأثر الإعلامي بالذات لمثل تلك اللقاءات و ليس حدوثها فحسب.

و هكذا حتى في مراحل التقارب و الحوار المباشر حرص، على سبيل المثال، المسؤولين المغاربة على إبقاء أي محادثات مع الاسرائيليين طي الكتمان. و علي سبيل المثال أكد الوزير الأول لمغربي البكاي في لقائه مع ايسترمن سنة 1956 (و الذي خصص لترتيب لقاء بين الملك محمد الخامس و السفير الاسرائيلي في فرنسا) على السرية المطلقة لأية محادثات تجري بين الطرفين. و هو ما حدث كذلك في أول لقاء للحسن الثاني عندما كان وليا للعهد في سنة 1960 (حيث التقى في الرباط بوفد إسرائيلي لمناقشة مسألة تهجير اليهود المغاربة الى إسرائيل) عندما افتتح اللقاء بتحذير شديد من أن أي تسريب لخبر اللقاء سيدفعه لـ”اتخاذ قرار بالامتناع الكلي عن أي لقاء في المستقبل”. كما اضطر ايسترمن للبقاء حبيس غرفته في أحد فنادق العاصمة التونسية في زيارة سنة 1966 دعاه إليها الرئيس بورقيبة حيث ماطله الرئيس قبل لقائه في سرية مطلقة حيث تم تكرار رغبة الرئيس التونسي في الحفاظ على المحادثات في إطار من السرية الكاملة و هو ما اضطر ايسترمن لتقديم ضمانات واضحة في هذا الشأن. و هكذا كان حال التقارب المخفي بين الطرفين منذ بدايته أي منذ بداية الخمسينات. و بشكل عام كان ذلك التقارب شديد الخفاء حتى يفعل أثره.

من جهة أخرى تخللت حالات التقارب تلك حالات من الصراع الصريح. تجسم ذلك مثلا في الحالة المغربية في إطار تأثيرات النشاط الصهيوني في المغرب الأقصى من أجل تهجير اليهود المغاربة الى إسرائيل و هو ما ميز خاصة المرحلة الفاصلة بين سنتي 1956 و 1961. حيث عارض المخزن بما في ذلك الحكومة الجديدة بكل تنوعاتها السياسية بكل قوة سياسة التهجير الاسرائيلية و ذلك لعدة أسباب منها عدم الظهور بمظهر الخارج عن الاجماع العربي المعارض لهجرة اليهود العرب الى إسرائيل و لكن أيضا الحرص على الابقاء على رؤوس الأموال اليهودية ضمن الدورة الاقتصادية المغربية خاصة في تلك المرحلة المبكرة من الاستقلال. و فشلت في هذا الاطار المحادثات التي وقعت بين عبد الرحمان بوعبيد نائب الوزير الأول المغربي و ايسترمن في المغرب سنة 1959 عندما حاول “المؤتمر اليهودي العالمي” التحكم في عملية التهجير و الضغط على الحكومة المغربية لمنح جوازات سفر لليهود المغاربة للذهاب الى إسرائيل. و قد التقت مختلف الحساسيات السياسية ضمن حزب الاستقلال (أي رئيسيا تياري المهدي بن بركة و علالة الفاسي) و ذلك بدعم من مؤسسة المخزن في رفض “التدخل الاسرائيلي السافر” و اتخاذ إجراءات مشددة لمحاصرة محاولات الحركة الصهيونية للقيام بعمليات تهجير غير مشروعة. و هكذا كان الموقف شديد الغموض يتراوح بين الاستعداد للتحادث و اللقاء (و بالتالي عدم استعداء الطرف الاسرائيلي بشكل مطلق) مقابل الامتناع عن قبول المطالب الاسرائيلية و ذلك استجابة للموقف العربي الرسمي المشترك و لكن أيضا لأسباب داخلية خاصة بمصالح الدولة القطرية/الوطنية أساسا.

في المقابل كانت الثورة الجزائرية و دولة الاستقلال الناشئة عنها في حالة تعارض كبير مع إسرائيل خارجة في الأغلب عن الخيار الجزائري. حيث دخل الاسرائيليون في تحالف استراتيجي مع فرنسا (في إطار ظروف و استتباعات العدوان الثلاثي) جعلهم ليس في موقع دعم سياسي فحسب للجهود الفرنسية لقمع الحرب الشعبية المتصاعدة بل أيضا في موقع التورط العسكري المباشر حيث تشير الوثائق الى اتفاق فرنسي اسرائيلي يتعهد وفقه الاسرائيليون بالانخراط في الجهود الاستخبارية في أوروبا لاعتراض عمليات تهريب السلاح للثوار الجزائريين مقابل توزيد الفرنسيين للدولة العبرية بأحدث الدبابات و الطائرات الفرنسية. و تعمقت أسباب الصراع الجزائري الاسرائيلي عندما اكتشف الجزائريون أنه خلال الأشهر القليلة التي سبقت تسلمهم السلطة (أي قبيل يوليو (جويلية) 1962) قام الفرنسيون و بمشاركة إسرائيلية مباشرة بعملية تهجير واسعة ليهود مدينة غرداية و هو ما انضاف على الدلائل السابقة للتنسيق المباشر بين الفرنسيين و الاسرائيليين في سياسة التهجير هذه حيث سبق لجبهة التحرير أن اعتقلت و أعدمت مبعوثين اسرائيليين مشرفين على عمليات التهجير سنة 1958. و لكن حتى في الحالة الجزائرية لم يكن هذا الصراع غياب أية قنوات اتصال بين الطرفين. فحتى خلال الثورة كان يوجد جناح مستعد للتوافق مع الاسرائيليين و هو ما عبر عنه قيادي جبهة التحرير فرحات عباس في خطابه في الأمم المتحدة سنة 1957 عندما رحب بهجرة اليهود الجزائريين الى إسرائيل. غير أن أحد أهم الشخصيات المثيرة للجدل في علاقة بقنوات مبكرة بين الاسرائيليين و قيادات جبهة التحرير كانت من خلال عبد الرزاق عبد القادر أحد حفداء الأمير عبد القادر و أحد ممثلي التيار اليساري في صفوف الجبهة، و الذي التحق بصفوف الجبهة سنة 1954 بعد ان تزوج اسرائيلية (من أصل بولوني) من “اليسار الاسرائيلي” و أقام معها في أحد المستوطنات الاسرائيلية. و قد شغل في فترة أولى ممثل الجبهة في ألمانيا الغربية و سويسرا و هي الفترة التي نشر فيها مؤلفا دعى فيه بوضوح لتركيز الجبهة على دعم العلاقة مع إسرائيل عوض التعويل على البعد العربي للثورة. و قد أرسى عبد القادر أولى الاتصالات المباشرة بين بعض قيادات الجبهة و المسؤولين الاسرائيليين و ذلك في ربيع سنة 1962. و لكن كان من الواضح أن هذا التيار كان ضعيفا حيث تعرض عبد القادر الى السجن سنة 1963 ثم النفي سنة 1964 (المثير أن عبد القادر توفي في التسعينات في إسرائيل بعد أن أصبحت له هوية و اسم إسرائيليين).

التطبيع و مصالح الدولة الوطنية

كانت مرحلة التأسيس للدولة القطرية/الوطنية المدخل الرئيسي للطرف الاسرائيلي الى منطقة المغرب. حيث كان هناك استعداد متبادل للتوافق على دعم اسرائيلي لمطلب الاستقلال الوطني مقابل التعهد بالمساهمة في الدفع عربيا نحو الاعتراف باسرائيل و تسهيل الهجرة اليهودية. و كما أشرت أعلاه فقد برزت هذه الرؤية حتى ضمن صفوف الثورة الجزائرية بالرغم من كل أسباب الصراع. فقد لعبت لجنة من “اليسار الاسرائيلي” لدعم “جزائر حرة” دورا مهما في خلق قنوات مبكرة مع بعض الناشطين الجزائريين في أوروبا. و قد تدعمت هذه الاتصالات مع “اليسار الاسرائيلي” من خلال اللقاءات التي قامت بها “الحكومة الجزائرية المؤقتة” (ممثلة في أشخاص الوزراء بلقاسم كريم و محمد يزيد) و المتمركزة في تونس مع بعض وجوه هذا التيار و المتمحورة حول المطالب الجزائرية من إسرائيل للتخلي عن دعم الموقف الفرنسي. و تجلى الدخول الاسرائيلي الى الجزائر خلال دولة الاستقلال من خلال المعارضة في ظل دعم حكومتي بن بلا و بومدين للمقاومة الفلسطينية. حيث تكشف الوثائق في هذا الاطار تورط بلقاسم كريم عندما كان يقود تنظيما معارضا من المغرب في السنوات الستين علاقات مع الأجهزة الاستخبارية الاسرائيلية. و من المرجح أن للرئيس الحبيب بورقيبة دورا هاما في هذه المبادرات حيث تذكر بالاتصالات التونسية الاسرائيلية الاولى في نيويورك بداية الخمسينات و ذلك في اتجاه كسب دعم اسرائيلي لمطلب الاستقلال.

قد بدأت هذه الاتصالات تحديدا منذ 25 يونيو (جوان) 1952 من خلال لقاء أحد ممثلي الحزب الحر الدستوري الجديد الباهي الادغم في نيويورك بممثل اسرائيل في الامم المتحدة انذاك و التي قام خلالها المبعوث التونسي بـ”طلب الدعم الاسرائيلي” لمطلب الاستقلال التونسي، كما اكد الباهي الادغم في نفس اللقاء ان حزب الدستور لم يكن وراء الهجمات “المعادية لليهود” في تونس انذاك. و بشكل متزامن دعى بورقيبة في حوار مع صحيفة لوموند الفرنسية في جوان 1952 الى ضرورة قيام الاطراف العربية بتسوية سياسية مع اسرائيل. و اكد نفس الرؤية حين وجوده بالمنفي ضمن المجال الفرنسي سنة 1954 في لقاء مع ايسترمن. و من المثير ان الطرف الاسرائيلي –اكثر ربما من الطرف التونسي— كان مترددا في إعلان هذه العلاقات لتجنب إغضاب سلطات الاحتلال الفرنسي. و تأتي في هذا الاطار اللقاءات بين أحمد بن صالح زعيم المنظمة النقابية التونسية و أحد قادة حزب الدستور مع زعيم الهستدروت الاسرائيلي كوهين-حضرية في إطار اجتماعات المنظمة النقابية الد;;ولية السيزل حيث طلب المسؤول التونسي دعم المنظمة النقابية الاسرائيلية المطلب التونسي بتنظيم مؤتمر السيزل لسنة 1957 في تونس مقابل السماح بمشاركة وفد اسرائيلي في المؤتمر.

المثير في الأمر أنه في الوقت الذي كان فيه بعض الوطنيين التونسيين مستعدين لتجاهل الظرف القومي المميز بالصراع مع إسرائيل أملا في دعم إسرائيلي للاستقلال القطري/الوطني كان الاسرائيليون يحظون بعلاقة مميزة مع الفرنسيين جعلتهم يتمتعون بتسهيلات كبيرة داخل تونس يصعب التفكير أنهم كانوا على استعداد للمساعدة على تعريضها لمخاطرة انتقال السلطة في تونس لتيار وطني يعبر عن السكان العرب للبلاد. و من أهم ما تكشفه الوثائق الاسرائيلية الشبكة الواسعة داخل تونس لفرع التهجير التابع للموساد الاسرائيلي و التي كانت تنشط (بعلم السلطات الاستعمارية الفرنسية) على شكل واسع خاصة في الفترة الممتدة بين 1949 و 1956. و قد قام فرع الموساد هذا بتنظيم عملية تهجير حوالي 6200 يهودي الى إسرائيل خلال تلك الفترة. و لكن إضافة الى ذلك تجاوزت مهمات الاستخبارات الاسرائيلية في تونس مسألة التهجير حيث بادرت الى تنظيم خلايا مسلحة للـ “الدفاع الذاتي” (تخوفا من “العنف المتأتي من تصاعد الحركة الوطنية”) في الأحياء اليهودية خاصة في مدينة تونس و جزيرة جربة و لكن أيضا في بقية المدن التونسية مثل قابس و صفاقس. و تواصل وجود هذه الخلايا حتى بعد الاستقلال سنة 1956 و كانت تحت إشراف ضباط من الموساد تم إرسالهم خصيصا من إسرائيل. و بعد سنة 1955 توسعت هذه الشبكة لتشمل بقية أقطار المغرب و خاصة المغرب الأقصى و أصبح ضابط الموساد المشرف عليها يقود أنشطتها من باريس.

و قد شهدت العلاقات الإسرائيلية المغربية قبل الاستقلال وضعا مختلفا بعض الشيئ عما حدث في الجانب التونسي. حيث لم يسع الوطنيون المغاربة الى إقامة أي شكل من الاتصالات قبل ضمان الاستقلال. في المقابل كان الاسرئيليون يتمتعون بتغطية فرنسية لعملية التهجير الواسعة ليهود المغرب و الذين كانوا أكثر عدد من يهود تونس. و حسب الوثائق الاسرائيلية فقد قام الموساد بتنظيم هجرة حوالي 90 ألف يهودي الى إسرائيل عبر فرنسا بين سنتي 1949 و 1956. و قد انعكست العلاقة القوية بين الاستعمار الفرنسي في المغرب و الاسرائيليين من خلال تصريحات ممثل اسرائيل في الولايات المتحدة و التي كانت تدعو لعدم تدخل الامم المتحدة في الشأن المغربي لأنه “شأن فرنسي داخلي” و ذلك في ظرفية حاولت فيها الحركة الوطنية المغربية اختراق المسرح الدولي للضغط على الفرنسيين.

و لكن بعد سنة 1956 سيصبح منطق العلاقة مع إسرائيل قائما على رؤية قيادات الاستقلال الجديدة في تونس و المغرب لأهمية الدور الاسرائيلي في خدمة بناء الدولة القطرية/الوطنية الناشئة بالخصوص مسألة البناء الاقتصادي من خلال البحث عن دعم المؤسسات المالية الدولية، و هو ما تزامن مع رؤية اختارت الابتعاد عن “التجربةالاشتراكية” التي عمت عددا من الأقطار العربية (شهدت تونس مسارا معقدا فشل فيه أنصار التجربة التعاضدية شبه الاشتراكية حسم الصراع السياسي لصالحهم داخل حزب الدستور وهي نفس الوضعية التي شهدها المغرب و لو في فترة مبكرة جدا من عمر الدولة الجديدة). و يبالنسبة لتونس يأتي في هذا الاطار لقاء مهم جدا بالنسبة لصياغة رؤية بورقيبة للسياسة الخارجية التي يجب ان تلعبها تونس في المستقبل و هي على ابواب إنهاء الاحتلال العسكري الفرنسي. ففي شهر فيفري 1956 و خلال المفاوضات الدائرة في فرنسا حول الاستقلال التقى بورقيبة بالسفير الاسرائيلي بباريس ياكوف تسور (Yaakuf Tsur) و بعد سماعه ملاحظات عديدة لبورقيبة تتلخص في “كرهه” لعبد الناصر و سياسته في المنطقة, نصح السفير الاسرائيلي بورقيبة النصيحة التالية: ان عليه “ضمان دعم اليهود الامريكيين للحصول على دعم اقتصادي امريكي”.

و بالاضافة الى التعاون الاقتصادي المباشر بين الحكومتين و الذي انطلق بشكل فعلي مع لقاء السفير الاسرائيلي تسور في 3 اكتوبر 1956 مع وزير المالية التونسي، فإن اهم ثمار هذه العلاقة خاصة بالنسبة لتطوير العلاقات التونسية الامريكية كان مع اواسط الستينات. ففي ماي 1965، أي بعد اقل من شهرين من خطاب اريحا الشهير و جولة بورقيبة المثيرة في المشرق العربي في مارس 1965، سافر بورقيبة الابن و الذي كان وزير الخارجية التونسي و حامل اسرار ابيه انذاك الى واشنطن في زيارة هدفها طلب الدعم المالي الامريكي. و استجابة لطلبه فقد طلبت وزارة الخارجية الامريكية من اسرائيل التوسط للجانب التونسي مع حكومتي فرنسا و المانيا الغربية للحصول على دعم مالي يقدر ب20 مليون دولار، كما طلب الامريكيون في نفس الاطار من اسرائيل شراء الخمور التونسية. و تلاحظ الوثائق الاسرائيلية في هذا الاطار ان موافقتها على الاستجابة للمطالب الامريكية كان في اطار املها ان تساهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية “معتدلة” اخرى من اجل “إفشال أو تخريب الجهود المصرية و السورية للوحدة العربية”. و خلال نفس الفترة أقام الطرفان خلية اتصال دائمة من خلال سفيريهما في باريس: السفير التونسي محمد المصمودي و السفير الاسرائيلي والتر ايتان (Walter Eytan) و ذلك بحضور الموساد الاسرائيلي. كما التقى المصمودي مرة على الاقل بوزير الخارجية الاسرائيلي انذاك ابا ايبان (Abba Eban) و ذلك بمنزل البارون دي روتشيلد. بالاضافة الى وجود قناة اتصال اخرى من خلال ايسترمن و الذي كانت له علاقة قديمة ببورقيبة كما اشرنا الى ذلك سابقا. و من اهم النقاط التي يمكن التأكيد عليها في علاقة بالنقاشات التي تمت عبر قنوات الاتصال هذه هي الطلب التونسي من خلال محمد المصمودي (مثلا في لقاء يوم 4 اكتوبر 1966 بين الاخير و ايسترمن) لدعم اليهود في الغرب لتونس ماليا و اقتصاديا عموما، و ذلك لتجنب علاقة مباشرة و مكشوفة بين الطرفين و هو الامر الممكن في حالة الاعتماد على يهود يحملون جنسيات اخرى غير.

و بالنسبة للحالة المغربية فقد اتخذت العلاقة بعدا أكبر بكثير بعد الاستقلال تجاوز التنسيق الدولي ليصبح فيه الدور الاسرائيلي في المعادلة السياسية الداخلية للمغرب أكبر من أي قطر مغربي اخر. و تجسم قضية الدور الاسرائيلي في اغتيال المهدي بن بركة هذه العلاقة الخاصة و التي جعلت من الاسرائيليين منخرطين مباشرة في مسألة الصراع على السلطة في المغرب من خلال محاولة دعم المعرضة المغربية في مرحلة أولى ثم العمل على التخلص منها في مرحلة لاحقة. و لعل من أهم المساهمات الوثائقية لكتاب لاسكيار هي ما كشف عنه في علاقة بهذا الموضوع و الذي تثبت بلا مجال فيه للشك الدور الكبير الذي لعبه الموساد الاسرائيلي ليس في اغتيال بن بركة فحسب بل أيضا في إقامة شبكة مشتركة مع الاجهزة الامنية المغربية لمراقبة أنشطة المعارضة المغربية على امتداد القارة الأوروبية. و تشير هذه الوثائق الى مرور علاقة الاسرائيليين ببن بركة منذ تمركزه في منفاه الباريسي بمرحلتين. المرحلة أولى اتسمت باستعداد للقاء و التحاور و هو ما تجسم في لقاء بن بركة بممثل سامي إسرائيلي (و كان حسب الوثائق ضابطا كبير في الموساد) و ذلك في شهر اذار (مارس) 1960 حيث طالب الاسرائيليون على وجه الخصوص باستعادة الاتصالات الربيدية بين إسرائيل و المغرب في ظل الحكومة التي كان يسطر عليها أنصار بن بركة. كما اجتمع الأخير في شهر نيسان (أفريل) من نفس السنة بإيسترمن و الذي ينقل في تقريره تصريح بن بركة حول استعداد الاتحاد الاشتراكي لافتكاك السلطة عبر الضغط السلمي و استعداده لإقامة علاقات سلمية مع الدولة العبرية. و تمضي الوثائق الاسرائيلية للحديث عن علاقة تجاوزت مجرد اللقاء و التشاور حيث تذكر تقديم “المؤتمر اليهودي العالمي” في شهر يوليو (جويلية) 1960 لدعم مالي لبن بركة بقيمة ألف دولار. و قد قام الاسرائيليون في هذه المرحلة باللعب على حبلي المعارضة و السلطة حيث تشير الوثائق الى سماح وزير الخارجية الاسرائيلي لإيسترمن بالذهاب في أغسطس (أوت) 1960 الى الرباط للقاء ولي العهد المغربي و رئيس الحكومة انذاك الحسن الثاني حيث قدم له نفس قائمة المطالب الاسرائيلية التي تم عرضها على بن بركة في اجتماع اذار. و يبدو أن هذه السياسة الاسرائيلية المزدوجة أثرت على أي امكانية لانحياز اسرائيلي واضح لأي من الطرفين و هو ما يبدو ما أدى الى قرار بن بركة التخلي عن هذه العلاقة خاصة في ظل الدعم المتزايد الذي بدأ يلمسه من قبل الحكومة الجزائرية. في المقابل تطورت العلاقة بين المخزن المغربي و الاسرائيليين خلال الستينات خاصة من خلال رجال أعمال مؤثرين في الساحة الدولية بالاضافة الى الأثرياء من اليهود المغاربة و هو ما كان منسجما مع طموحات العاهل المغربي لإقامة علاقات قوية مع الأوساط المالية الدولية. و قد تطورت العلاقات الأمنية بشكل متسارع بعد قيام الموساد بإشعار المقربين من ولي العهد انذاك الحسن الثاني في كانون الثاني (ديسمبر) من سنة 1959 بتحضير المعارضة المغربية لإفتكاك السلطة. و يبدو أن علاقة الموساد بالجنرال أوفقير قد توثقت منذ تلك اللحظة حيث تشير الوثائق الاسرائيلية الى مساعدته شبكة الموساد في المغرب على استمرار عملية تهجير اليهود المغاربة. و لكن نقطة التحول الدراماتيكية في هذا التحالف الأمني/المخابراتي غير المسبوق عربيا حدثت حسب الوثائق الاسرائيلية مع أواسط سنة 1963 عندما قام الجنرال أوفقير بالاتفاق مع الموساد في تمرين أعوان و ضباط مغاربة من قبل ضباط إسرائيليين. و في فترة قريبة من ذلك و لكن غير محددة حسب هذه الوثائق ذهب الملك الحسن الثاني الى حد القبول بوجود مكتب دائم للموساد على الأراضي المغربية و قد أشرف هذا المكتب على الحفاظ على علاقة مستمرة بين الاسرائيليين و المخزن و قام مثلا بترتيب زيارة اسحاق رابين للمغرب سنة 1976. كما قام المكتب بتنسيق الدعم العسكري الذي قدمه الاسرائيليون للمغرب خلال المواجهات مع الجيش الجزائري سنة 1963. و عموما فإنه ضمن هذه المعادلة بالذات شاركت المخابرات الاسرائيلية في عملية إغتيال المهدي بن بركة و التي لم تكن إلا نقطة في بحر من التنسيق الوثيق بين الطرفين.

غير أنه مقابل كل ذلك لم يتوان العاهل المغربي أمام ارسال فوات مغربية الى سوريا للمشاركة في حرب أكتوبر و هو ما أدى الى أزمة حقيقية مع الاسرائيليين. كما أنه لم يخاطر بإبرام أي اتفاق للسلام بعيدا عن الاجماع العربي بعد كامب ديفيد و التي ساهم في التوصل اليها من خلال استضافته لأولى الاتصالات المصرية الاسرائيلية. و هكذا كانت حسابات الحسن الثاني متعلقة بشكل كبير باستراتيجيا عامة خاصة بما يراه “مصالح المغرب” بالضبط كما كان يرى الرئيس بورقيبة دواعي تحالفه و صراعه مع مختلف الأطراف الدولية بما في ذلك الاسرائيليين من خلال “المصالح التونسية”، و هي مصالح لا يتم تعريفها من خلال الانعزال المطلق عن “المصالح العربية المشتركة” و لكن لا يتم أيضا ربطها تماما ياستراتيجيا عربية موحدة. في نفس الوقت كانت الرؤية الإسرائيلية لا ترى مانعا في المساهمة في “حفظ الاستقرار” أو “المساعدة المالية” للأنظمة القطرية/الوطنية في المغرب العربي مادام أن ذلك يأتي في إطار مساهمة هذه الأنظمة للحد من استمرارية و عمق أي توجه عربي مشترك لمواجهة الطرف الاسرائيلي. و قد أصبحت هذه العلاقة أكثر قوة مع سقوط جدار برلين و نهاية حرب الخليج الاولى حيث تم الانخراط الرسمي العربي الجماعي في تطبيع العلاقات خاصة و أن “دول الرفض” مغاربيا أي الجزائر و ليبيا قد تخلت عن خطوطها الحمراء و تتقدم باتجاه التأسيس لتطبيع العلاقة مع الاسرائيليين. غير أن هذه العلاقة بقيت أيضا ضمن حدود تجاذبات ما تبقى من الصراع العربي الاسرائيلي حيث لم يتوان التونسيون و المغاربة من سحب ممثيهم الديبلوماسيين من تل أبيب بعد اندلاع الانتفاضة الثانية بل و حتى السماح و المشاركة الرسمية في تظاهرات تندد بالمرحلة الراهنة من العدوان الاسرائيلي. و لا يتوان الاسرائيليون في ظل هذا الظرف من المقاطعة (الرسمية على الأقل) من التنديد بـ “الدكتاتوريات العربية” حيث يقومون من خلال تحليلهم الأحادي الطابع من اعتبار “المشكل الرئيسي” عربيا غياب الاصلاحات الديمقراطية.

غير أن التعريف الاسرائيلي لهذه الاصلاحات يتسم بطابع سياسي غير مجرد عن المصالح الاسرائيلية، فبالنسبة لشمال افريقيا يعتبر الاسرائيليون أن من أهم القضايا التي تحتاج الى “إصلاح عاجل” هي مسألة “اللاجئين اليهود” من شمال افريقيا تم “طردهم” أو “دفعهم” للهجرة من خلال العداء المستمر الموجه ضدهم خاصة بعد قيام الدول الوطنية. و من أهم المنظمات ذات الارتباط الاسرائيلي التي تروج بنشاط لهذه القصة منظمة (Jimena) (منظمة “يهود أصيلي الشرق الاوسط و شمال افريقيا”) و التي تتكون بالاسا-87; من يهود ذوي أصول شمال افريقية (خاصة تونس و الجزائر) مقيمين بدول غربية و لكن يحملون أيضا جوازات سفر إسرائيلية يطالبون بتعويضات و الاعتراف بهم من قبل الأقطار المغاربية كلاجئين تعرضوا للاضطهاد. و تستخدم الحكومة الاسرائيلية بنشاط هذه الحكاية خاصة أثناء المفاوضات حول وضع اللاجئين الفلسطينيين حيث يطالب الاسرائيليون بمبدأ “المعاملة بالمثل” و اعتبار “اللاجئين اليهود” بنفس وضعية اللاجئين الفلسطينيين (يستهدف ذلك طبعا دفع الحكومات العربية للضغط على الجانب الفلسطيني للتنازل عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين). و كما تُظهر الوثائق الاسرائيلية الواردة في كتاب لاسكيار فإن الهجرة اليهودية لإسرائيل كانت مرتبطة بالدرجة الأولى بمخطط إسرائيلي بإشراف مباشر من الموساد لم يكن متأثرا البتة بوقائع حقيقية للاضطهاد بل أن الحكومات الجديدة في بداية الأمر رفضت بشدة هذا المخطط و لم تعمل أي من الأطراف الوطنية على الدفع نحو تهجير الأقلية اليهودية. و المثير أن منظمة (Jimena) كانت من المنظمات “الشمال افريقية” القليلة التي شاركت و عبرت عن “قضية الاصلاح في شمال افريقيا” (من خلال الدعوة لـ”إرجاع حقوق اللاجئين اليهود”) في موتمر مثير للجدل “من أجل الاصلاح في الشرق الأوسط” الذي نظمه بعض المتوترين “الليبراليين” العرب من أنصار الحكومة الاسرائيلية و النيومحافظين في واشنطن في أكتوبر 2004. المؤتمر الذي كان في الأساس واجهة للمجموعة التي تعمل في الأوساط اللبنانية الأمريكية المقربة من تيار “قرنة الشهوان” حيث لعب وليد فارس دورا رئيسيا في تنظيمه بالاضافة للحضور الكبير للمجموعة القبطية المتطرفة التي يقودها مايكل منير. كما شارك في النقاشات تحت يافطة منظمة حقوقية ديبلوماسي اسرائيلي معروف يعمل الان في السفارة الاسرائيلية في واشنطن ضمن الجهاز الاعلامي. و إضافة للمنظمة اليهودية فإن بقية “ممثلي” شمال إفريقيا تراوحوا بين ممثلين مقيمين بالخارج عن منطقة القبايل الجزائرية و منظمة موريتانية تتخصص في مسألة “استعباد العرب للسود”. و في العموم فإن “قضية الاصلاح و الديمقراطية” في الرؤية الاسرائيلية و كما عبر عنه هذا المؤتمر تتمثل بالأساس في مشكل واحد: “اضطهاد العرب المسلمين” لبقية الأقليات لا أكثر و لا أقل.

و في الواقع فإن البلاغة الاسرائيلية المتصاعدة حول قضية الاصلاح في الشرق الأوسط مرتبطة بقوة بظرفية سياسية معينة و هي بالأساس شعار ذرائعي لا غير (على العكس من بعض أقطاب التيار النيومحافظ الأمريكي و الذين يعتقدون بجدية في “مثالية” أهدافهم). و علينا أن نشير هنا الى أن ناتان شارانسكي و الذي شارك حزبه في حكومة شارون قد ألف كتابه “الحجة من أجل الديمقراطية” (و الذي “قرأه” الرئيس بوش و يقع تقديمه على أنه “تحليل طليعي” في التدليل على الحاجة الملحة لدمقرطة المنطقة العربية) ألفه ضمن ظروف إنحسار التطبيع الرسمي العربي، و بمعنى اخر كرد فعل على هذا الانحسار. طبعا مثل احتلال العراق و مخلفات 11 سبتمبر مناسبة جديدة في ظل الخطط الجديدة للقادة الاسرائيليين (الذين تخلوا عن مقررات مدريد منذ أواسط التسعينات و قرروا التخفيض من سقف المطالب العربية الى “السلام مقابل السلام” عوض “الأرض مقابل السلام”) لفتح مرحلة أخرى من تطبيع العلاقات التي يمكن أن ترتقي مستقبلا الى علاقات ديبلوماسية كاملة، خاصة و أن وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم، المتحدر من عائلة يهودية كانت تقطن مدينة قابس التونسية، يعتبر نفسه “مغاربي الهوى”. المشكل الذ ي ينتظر الاسرائيليين الان هو أن تيارا مهما أمريكيا بدأ في التصديق الجدي في الأطروحة النيومحافظة (و التي لا يمثل كتاب شارانسكي بالمناسبة إلا قشرة قشرتها) حول “الحاجة الدولية” لدمقرطة المنطقة، حيث أن إصلاحات ديمقراطية عربية حقيقية ستجلب الى السلطة (أو دوائر نفوذها) بالتأكيد قوى وطنية متعطشة للتأثير السياسي تستمد قوتها الجماهيرية (جزئيا على الأقل) من برنامجها القائم على القطيعة مع الدولة العبرية، و هو ما سيجعل من التطبيع مسألة بعيدة المنال أو في أقل الأحوال على غير الدرجة التي يأمل في تحقيقها الاسرائيليون. و يأتي هذا المأزق الاسرائيلي في ظل خلل شامل يتعلق برؤيتهم الصلفة لعلاقتهم بالعرب حيث لم يعدوا مستعدين للقيام يأي مقايضات حتى مع “أصدقائهم المعتدلين”. و هكذا فقد سمع في النهاية القادة الاسرائيليون (و لو لأسباب مختلفة) نصيحة ليفي أشكول التي أطلقها قبل 40 سنة: “لا تعلقوا أهمية زائدة على ما يسمى بالقادة العرب المعتدلين”.

Laskier, Michael. Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo. Florida University Press: 2004