الجزء الثاني

بعض الانعكاسات السلبية للتعددية

سرد محمد عبد القادر ابو فارس بعض الانعكاسات السلبية للتعددية والتحزب في الدولة الاسلامية على النحو التالي(1):

1ـ اهم الانعكاسات السلبية للتعددية السياسية هو ايجاد الفرقة والتنازع واحياء روح التناحر الكامنة في المجتمع، مما يؤدي إلى اضعاف قوى الامة وزعزعة بناء الدولة الاسلامية مقابل الاعداء: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) (الانفال: 46).

ففي ظل التعددية السياسية يسعى كل شخص إلى دعوة الناس إلى الرأي الذي يؤمن به والى الجماعة التي ينتمي اليها، ويكيل الانتقادات لخصومه وما يحملونه من فكر اجتهادي. وفي مثل هذه الظروف التي يكون الهدف الاساسي للفصائل المتنافسة فيها ليس الاستدلال الاجتهادي وانما كسب اكبر ما يمكن من الدعم والتأييد في مقابل التقليل من شأن الخصوم، تتزايد الخصومات والانتهاكات وتتجاوز الحد المشروع وتنتقل من حيز الكلام والصحافة إلى دائرة التناحر الاجتماعي.

2ـ احدى المؤاخذات المهمة الاخرى على التعددية هي انها تحدد الحياة المعقولة للناس ويكثر في ظلها الرد والتدليس وايجاد الشكوك، مما ينجم عنه سلب استقرار المجتمع.

وفقاً لهذا الاستدلال يعجز الشخص الذي تتزعزع اصول معتقداته عن تقديم خدمة صادقة لمجتمعه، بل لا يمكنه التفكير في هويته على نحو صحيح.

فالشاب غير الموقن بالاصول التي تقوم عليها حياته، ولا يعرف معنى وغاية هذه الحياة، تخرج من فمه كلمات وتخطر على باله تخيلات لا يقولها ولا يفكر بها حتى مؤسسو المذاهب العبثية. وهذا الكلام ليس فيه دعوة للرقابة على العلم، وانما هو حرص على حالة الانسانية(2).

3ـ في ظل التعددية السياسية يقع الناشطون السياسيون والشريحة المؤيدة لهم في محرمات وخطورات شرعية كالغيبة والنميمة، والكذب وشهادة الزور، والثناء الزائف على المؤيدين، والنيل من الخصوم، والافتراء، والتجسس الحرام الذي يؤدي إلى اغتيال الشخصية وتشويه سمعة الخصوم. وتنضح من خلال الممارسة الاعلامية صورة زائفة عن الواقع(3).

4ـ يؤدي التعصب الحزبي والانقياد لرأي ومصالح الحزب إلى الاضرار بتعقل وحرية الفكر لدى افراد المجتمع؛ وفي مثل هذا المجتمع ينحى الناشطون السياسيون الذين يتسنمون مناصب الدولة التعقل والتدبير جانباً، ويعملون وفقا لما تقتضيه مصالح حزبهم. والحقيقة هي ان الكثير من القوانين والقواعد والاحكام الشرعية تفسر وفقا لمصالح حزب وجماعة معينة، وفي بعض الظروف يزكي الشخص نفسه وحزبه في مقابل الخصوم؛ وهنا يأتي الخطاب الالهي: (فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى) (النجم، 32).

وعلى العموم فان الانظمة الحزبية في ظل التعددية السياسية تخرج عن مهمتها الاساسية بصفتها اداة للمشاركة في الحياة السياسية، إلى المبالغة في تقديس الحزب(4)، أو لنقل بعبارة أخرى ان الاحزاب والمنظمات تسخر الاشخاص لخدمة مصالحها بدلاً من تسخير نفسها لخدمتهم.

نظرة إلى النتائج الايجابية والسلبية للتعددية

تعتبر التعددية السياسية ـ فضلا عن جوانبها السلبية التي سبقت الاشارة اليها ـ سيفا ذا حدين، وتترك تأثيرات ايجابية وسلبية على نمط الحياة العامة. وبعبارة ادق ان وجود وانعدام التعددية له في كلا الحالتين انعكاسات سلبية، ولكن كيف يمكن ترجيح هذين الخيارين، والتعامل معهما وفقاً لقاعدة دفع الافسد بالفاسد؟ وأليست المشاكل الناجمة عن التعددية اقل خطراً من المشاكل الناجمة عن غيابها؟

الخطوة الاولى التي يمكن اتخاذها على طريق تقييم المسائل المذكورة، هي معرفة الانماط التي يمكن ان تتخذ في الدولة الاسلامية كبدائل عن التعددية؛ وهناك نوعان من البدائل، هما: الحكومة الفردية، حكومة الحزب الواحد.

وكلا هذين النوعين من انظمة الحكم ـ كما يتضح من خلال استقراء تاريخ تطور النظم السياسية خاصة في الحضارة الاسلامية ـ قد وقع في مستنقع الاستبداد والفساد السياسي والاقتصادي والاداري، وانتهى إلى سحق الحريات العامة. وذلك لان الحكومات والولاة لم يكونوا يشعرون بوجود أي رقيب أو حسيب يحاسبهم على اخطائهم. وهكذا يبدأ الافراد والجماعات بالابتعاد عن مثل هذه الحكومات، ويفضي تراكم السخط والعقد إلى انفجار ثورات دموية تشيع على اثرها الفوضى أو الانقلابات والمؤامرات المتتالية(5). في حين ان المنافسة السياسية، المنبثقة من وجود التعددية الشرعية، توفر اسباب الرقابة والاشراف على عمل الحكومة. وتسهل في الظروف المناسبة انتقال السلطة سلميا ـ وبدون عنف أو اراقة دماء ـ إلى التيار المنافس.

وهكذا يتضح ان التعددية السياسية ليست خياراً، بل هي ـ ونتيجة للاوضاع السلبية الفاسدة التي تتمخض عن وجود الحكومات الفردية وحكومات الحزب الواحد ـ ضرورة. وهذا النوع من التعددية المنبثقة من الشريعة والأُسس الاسلامية يكون مدعاة لترسيخ الوفاق الوطني وازالة الركود السياسي، وتوفير اسباب الاشراف على الحاكم أو الحزب الحاكم أو الفئة الحاكمة، وتوفر اسباب التقارب بين مصلحة النظام ومصلحة الشعب(6).

يتبين لنا مما ذكر أعلاه ان ضرورة التعددية تستلزم بذل الجهود لمعالجة وتقليل الافرازات السلبية الناجمة عن هذه الظاهرة؛ ويتلخص احد اهم تلك الجهود في توسيع المؤسسات والاشراف القانوني على النشاطات الحزبية بحيث يتسنى لها توفير الاجواء السليمة للمنافسة السياسية على اساس الآراء الاجتهادية الفقهية، والاصول الشرعية والقانونية للعمل السياسي، وحفظ حقوق المشاركين فيه(7). ومن جملة ما ينبغي الانتباه اليه في هذا المجال هو ان كل فرد أو حزب أو تنظيم قد يقع في الخطأ عند الاستنباط والاستنتاج، وليس هناك من احد معصوم سوى الائمة عليهم السلام. وعلى هذا الاساس فان أي رأي تبديه فئة ما لها اجران ان اصابت وان اخطأت في الاجتهاد فهي مأجورة أيضاً. وفي كلا الحالتين لا ضرر على الحزب الاسلامي سواء أصاب ام اخطأ(8).

ان الأمر المهم في هذا المجال هو التنافس الافضل: (وجادلهم بالتي هي احسن) (النحل: 125) مع رعاية الحدود الشرعية في المجادلة والمنافسة؛ وذلك لان المسائل السياسية ـ الاجتماعية خاصة تتحمل انواعاً مختلفة من التلقي للاحكام الشرعية؛ فقد تكون للموارد الخاصة ـ كما ذكر بعض الباحثين ـ احكام مختلفة، أو قد تكون للشيء أو المصداق الواحد ـ على حسب الفروض المختلفة ـ احكام متعددة ((ان من الاشياء اشياء مضيقة ليس تجري الا على وجه واحد، ومن الاشياء اشياء موسعة تجري على وجوه كثيرة)) (9). جاء في السرائر عن الامام الصادق عليه السلام انه قال:

((انما علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرعوا)).

وجاء في البصائر عن علي بن ابي حمزة، وابي بصير، عن الصادق عليه السلام انه قال:

((اني لأتكلم الواحدة [وقيل: بالحرف الواحد] لي فيه سبعون وجهاً؛ ان شئت اخذت كذا وان شئت اخذت كذا)) (10).

وعلى كل الاحوال يبدو أن التعددية السياسية في الاسلام لا يوجد لها سند نظري أو ان المصادر الدينية تعارضها، بيد ان هذا الكلام لا يعني ان هذا المفهوم فاقد لأي حد من القدر المتيقن في الاسلام، وانما يعني ان الشريعة ـ خاصة في الفقه الشيعي ـ تتقبل مشاركة الشعب في تقرير مصيره مع رعاية الاصول والقيم الدينية.

في ظل الدولة الاسلامية لا توجد اية ضرورة تدعو إلى ان تكون التعددية السياسية الاخرى، مطلقة وخارجة على المبادئ الدينية، بل ان هذا المفهوم، كما هو الحال في المفاهيم السياسية يجب ان يأتي على نحو منسجم مع قيم وبناء المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية.

يبدو في ضوء هذا الافتراض ان التعددية السياسية لا تتعارض مع الاسس الشرعية من جهة، ولها ارجحية على الانماط الاخرى المتعارفة في الادارة السياسية من جهة أخرى، ثم ان الانعكاسات السلبية التي ترافقها قابلة للعلاج. نشير على سبيل المثال إلى ان المحظورات الشرعية كالغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والتجسس الحرام، وسوء الظن، وكشف اسرار الناس، وما شابه ذلك مما يزعزع العلاقات الاجتماعية بين المسلمين، تعد من جملة المظاهر الشائعة بين الناس حتى مع عدم وجود الاحزاب السياسية. والسبيل الوحيد للحيلولة دون استشراء مثل هذه المآثم هو التذكير الدائم بالعقوبات الاخروية، ووضع القوانين الكفيلة بضبط ومعاقبة مرتكبيها. ومثل هذا الهدف يكون واضحاً وسهل المنال خاصة في ظل وجود التعددية السياسية.

من الطبيعي ان الاحزاب السياسية لها مصالحها ومنافسوها وقواها الخاصة في الانتخابات، وقد تبدو في الوهلة الاولى وكأنها تتعارض مع المصالح الوطنية والدينية للمسلمين، الا ان السببين الآتيين يجعلان الاحزاب السياسية تركز مساعيها على تطابق مصالحها الحزبية مع المصالح الدينية والوطنية للأمة، حتى وان كانت تسعى لتكريس المصلحة العامة لمصلحتها الحزبية الخاصة. وينبغي هنا التأكيد ان المصلحة العامة، أو بعبارة أخرى توعية عامة الشعب بالمصلحة العامة، تأتي من خلال هذا التناقض المستمر بين المصالح الحزبية والرأي العام؛ وهذان السببان هما:

1ـ بما ان الاحزاب السياسية الاسلامية تحتاج، اثناء تنافسها وكفاحها، إلى آراء ابناء الشعب، فهي تأخذ بنظر الاعتبار حاجات ومتطلبات ورغبات الرأي العام، وتحاول ان تظهر مواكبتها لآراء الشعب واستجابتها لها في قالب برامجها الانتخابية، مع التعهد علنياً بالتمسك بها.

2ـ بعد الفوز في الانتخابات وتسنم المناصب السياسية، يحاول الحزب الفائز ـ انطلاقاً من مراقبة الاحزاب ووسائل الاعلام المنافسة له ـ ان يواظب على الدوام ويظهر تمسكه ببرامجه المعلنة، لكي يستطيع عن هذا الطريق الحفاظ على مدى تأييد الرأي العام له.

يبدو في ضوء السببين المذكورين ان التعارض بين المصالح الفئوية والمصالح العامة ليس الا وهماً. المهم هو ان المصالح العامة والمصالح الحزبية في المجتمع الذي يعيش التعددية السياسية، ليست ثابتة على الدوام، بل قد تتلاقى حينا وتفترق حيناً آخر؛ وينجم عن هذه العلاقة المتناقضة حصيلتان:

الاولى: حصول توازن تدريجي بين المصالح العامة والمصالح الفئوية.

الثانية: تصبح المصالح العامة هي ملاك الحكم النهائي في القبول أو عدم القبول، وتصبح بالنتيجة هي المقياس في معرفة مدى صحة وسقم التوجهات المصلحية العامة أو الفئوية. وفي حالة تطابق هاتين المصلحتين؛ أي المصلحة العامة ومصلحة حزب معين أو فئة معينة، يمكن ان يصل الحزب المطلوب إلى سدة الحكم. وفي حالة عدم تطابقهما يبتعد عن الساحة السياسية. والآلية التي تتبنى تنظيم هذه المعادلة في الاخذ والرد بين المصلحة والسلطة هي المنافسة والآراء والانتخابات، والشريعة الاسلامية(11) هي التي ترسم حدودها وضوابطها على النحو التالي:

قواعد التعددية السياسية في الدولة الاسلامية

في ضوء خصائص ومعايير التعددية السياسية في الدولة الاسلامية، حدد بعض الكتاب المعاصرين(12) ضوابط وقواعد معينة للنشاط السياسي الذي يمارسه الناشطون السياسيون في المجتمع الاسلامي على النحو التالي:

1ـ الشرط الاول للنشاط السياسي هو ايمان الناشطين السياسيين والاحزاب والجماعات باصول العقيدة الاسلامية والشريعة المنبثقة منها؛ قال تعالى في كتابه الكريم: (ان الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19)؛ (ومن يبتغِ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) (آل عمران: 85).

2ـ لا يجوز لأي حزب أو فصيل سياسي اسلامي يمارس نشاطاً بين اوساط المجتمع الاسلامي ان يتعاون ويوادد الفئات والجماعات غير المؤمنة بالاسلام؛ فقد قال تعالى في كتابه الكريم: (يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء بعضهم اولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين) (المائدة: 51).

(يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار اولياء واتقوا الله ان كنتم مؤمنين) (المائدة: 57).

وقال أيضاً في موضع آخر:

(يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم واخوانكم اولياء ان استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) (التوبة: 23).

واكدت آيات أخرى كثيرة العلاقات السببية والنسبية التي تكون مدعاة للتغاضي عن المصلحة الدينية وتطبيق احكام الله وسنة الرسول صلى الله عليه وآله.

3ـ محاربة الاحزاب والتيارات التي تسعى إلى اقصاء الاسلام من الساحة السياسية، وحصر احكام الاسلام في نطاق الحياة الفردية(13)، بينما يحمل الكثير من احكام الاسلام طابعاً اجتماعياً وسياسيا: (ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة: 44)، (فأولئك هم الكافرون) (المائدة: 45)، (فأولئك هم الفاسقون) (المائدة: 47).

4ـ المراقبة المستمرة على تطابق الاحكام السياسية والقرارات الحزبية مع مبادئ الشريعة الاسلامية وعدم مخالفتها؛ فالقرآن الكريم يؤنب بشدة كل من يحاول تفسير احكام الاسلام على نحو ينسجم مع مصالحه الخاصة:

(يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم… يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون ان أوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا…) (المائدة: 41).

(أفتطمعون ان يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) (البقرة: 75).

5ـ التمسك بالموازين الشرعية عند حصول اختلاف في وجهات النظر أو في سياق التنافس مع الاحزاب الاخرى، وهذا الأمر يستلزم اتخاذ اساليب مشروعة في الدعاية الحزبية وكسب المؤيدين ووضع البرامج الحزبية بحيث لا يقع اثناء ذلك ظلم وبهتان للاشخاص والاحزاب والجماعات المنافسة؛ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله انه قال:

((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (14).

وهناك خطر آخر كثيراً ما يهدد الاحزاب السياسية وهو انها حينما تتسنم السلطة السياسية قد تقع في منزلق تسخير الاموال والثروات العامة لصالح اغراضها الحزبية أو الاهواء الخاصة للزعماء الحزبيين، بينما تعتبر جميع الاموال والثروات العامة امانة لديها. ومن المعروف ان القاعدة الشرعية توجب المحافظة على الامانة؛ وصيانة الامانة واحدة من المبادئ التي اكدها الباري تعالى بقوله:

(يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وانتم تعلمون) (الانفال: 27).

6ـ اهم قواعد التعددية والمنافسة السياسية هي اهتمام الاحزاب والحركات بوحدة الامة الاسلامية والوحدة الوطنية. ومن هنا فان النضال السياسي والمنافسة السياسية يجب ان تكون فاعلة على ان لا تمس بوحدة الامة الاسلامية، وان تحافظ على اصول التنافس القائم على عدم استخدام اسلوب العنف وعدم اثارة الفرقة. وانطلاقا من ضرورة الحفاظ على وحدة الشعب، تتصف التعددية السياسية في الدولة الاسلامية بصفتين مهمتين، هما:

الاولى: الرأفة والرحمة ازاء الاحزاب الاسلامية المنافسة.

الثانية: تعبئة جميع الطاقات ضد الكفار والمهاجمين.

وهاتان الصفتان صرحت بهما الآيات التالية:

(محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح: 29).

(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (المائدة: 54).

(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم اعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً) (آل عمران: 103).

7ـ المرونة وعدم تكفير الاحزاب الاسلامية المنافسة بسبب ما لديها من آراء اجتهادية؛ فظاهرة التزمت والتكفير، فضلا عما يترتب عليها من فرقة وتنازع، تعتبر منافية لفلسفة الاجتهاد وضرورة التفقه في الدين(15). فالافتراض الذي تقوم عليه التعددية في المجتمع الاسلامي هو تأسيس الحركات السياسية على اساس آراء واستنباطات المجتهدين من الادلة التفصيلية، وإذا كانت الحركة مصيبة في اجتهادها في هذا السياق فلها اجر مضاعف، وإذا اخطأت فهي مأجورة أيضاً ومعذورة وشفيعها في ذلك هو حسن النية.

نقل ايوب بن نوح عن صفوان عن موسى بن بكر عن زرارة عن ابي عبيدة ان الامام ابا جعفر، محمد الباقر عليه السلام قال: ((من سمع من رجل امراً لم يُحط به علماً فكذب به، ومن امره للرضاء بنا والتسليم الينا، فان ذلك لا يكفره)) (16).

وكتب الشيخ عبد الله البحراني الاصفهاني مؤلف كتاب ((عوالم العلوم والمعارف والاحوال)) في شرح معنى الرواية اعلاه: ((لعل المراد انه إذا كان تكذيبه للمعنى الذي فهمه وعلم انه مخالف لما علم صدوره عنا ويكون في مقام الرضا والتسليم ويقر بأنه بأي معنى صدر عن المعصوم فهو الحق، فذلك لا يصير سبباً لكفره)) (17).

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله حديث مقارب في مضمونه لمضمون هذا الحديث، قال فيه:

((من ردّ حديثاً بلغه عني فانا مخاصمه يوم القيامة، فاذا بلغكم عني حديث لم تعرفوه فقولوا: الله اعلم)).

ومن الواضح ان فحوى الروايتين المذكورتين والحديث هي بذل الجهد بنية صادقة لفهم سند ومعنى كلام المعصوم عليه السلام على النحو الصحيح(18). وفي حالة الخطأ أو الشك في اصل صدور المعنى إذا كان ذلك يتطابق مع الطرق المتداولة لدى الفقهاء في الاستنباط، فان المعصومين عليهم السلام انفسهم يغضون النظر عن هذا الفهم. عرف كل من الآمدي، ومؤلف الاصول العامة للفقه المقارن ((الاجتهاد بأنه يعني استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الاحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه))(19).

من البديهي ان مثل هذا الاجتهاد في استنباط الاحكام الشرعية، يؤدي إلى ظهور فتاوى مختلفة وتبعاً لها حركات سياسية مختلفة أيضاً، انطلاقا من التباين في الاستعدادات والفهم، وبسبب الوضع الخاص للادلة والمصادر الشرعية. وفي مثل هذه الحالة لا يبقى امام المسلمين الا طريقان:

ـ قبول الآراء والحركات السياسية القائمة على الآراء الاجتهادية.

ـ اغلاق باب الاجتهاد واعاقة علم الفقه عن مواكبة واقع المجتمع. وهذا يعني عملياً عزل الفقه عن تطور الحياة الاجتماعية والسياسية للمسلمين(20). ويبدو ان تأكيد المذهب الشيعي على الاجتهاد وتقليد المجتهد الحي، يعني تأييد الفكر الاجتهادي امام الجمود الذي لا يعكس التغييرات الناجمة عن تأثير عنصر الزمان.

8 ـ الايمان بحاكمية الله والتمسك بطاعة ولي أمر المسلمين وعدم شق عصا الطاعة عليه. ويبدو هذا الرأي عند كثير من الكتاب وكأنه لا يتماشى مع فكرة التعددية؛ بمعنى ان التعددية السياسية في الدولة الاسلامية أو التعددية السياسية تحت اشراف الحاكم الاسلامي تبدو عبارة متناقضة.

لدى المذاهب الشيعية والسنية وبعض فقهاء الخوارج الاباضية آراء متباينة في نسبة ولاية الحاكم والتعددية السياسية؛ فالسنة يستندون في بداية الأمر إلى الآية الشريفة (اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء: 59)، ثم يقدمون شرحاً لأسس انتخاب ولي أمر المسلمين أو الحاكم والخليفة، ويوفقون تبعاً لذلك بين الولاية والتعددية السياسية. كتب ابن الفراء في كتاب الاحكام السلطانية: ((وعلى اهل الاختيار في دار العدل ان يعقدوا الامامة لمن ارتضوه)) (21).

وقال ابو الحسن الاشعري مؤسس المذهب الكلامي للأشاعرة:

((الامامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص واليقين)) (22).

النتيجة

كان الغرض من هذه المقالة تقديم صورة خارجية للتعددية السياسية في الدولة الاسلامية. اشرنا إلى ان هناك اسباباً نظرية وفنية تدعو إلى جعل التعددية السياسية في المجتمع الاسلامي ضرورة لا مفر منها. والتعددية السياسية تعني تشكيل الاحزاب الاسلامية في اوساط المجتمع الاسلامي واضفاء الشرعية عليها.

وتنقسم الاحزاب السياسية من حيث الجانب الجغرافي والعقائدي إلى مجموعتين:

ـ فعلى الصعيد الجغرافي تنقسم الاحزاب السياسية إلى نوعين:

احزاب اقليمية، وأخرى وطنية، ويكون نفوذ الاحزاب والجماعات الاقليمية عند التنافس في الانتخابات المحلية، كانتخابات نواب مجلس الشورى الاسلامي، اكثر تركيزاً وكثافة. اما على صعيد التنافس الوطني كانتخابات رئاسة الجمهورية فكثيراً ما تأتلف أو تتفق الاحزاب الاقليمية مع الاحزاب الوطنية المنسجمة معها في الاتجاه.

ـ اما على الصعيد العقائدي فتنقسم الاحزاب والاجنحة السياسية إلى مجموعتين: اسلامية وغير اسلامية. وتنقسم الاحزاب الاسلامية بدورها إلى نوعين: الاحزاب الدينية الكلامية، والاحزاب الاجتهادية الفقهية.

وقد بذلنا جهدنا في هذه المقالة لإبراز محاسن ومساوئ العمل السياسي للاحزاب الاجتهادية ـ الفقهية، والقواعد الحاكمة على مثل هذا العمل السياسي في ضوء ظروف المجتمع الاسلامي في إيران.

الجزءالأول

…………………………………….

الهوامش

1 ابو فارس، ((التعددية السياسية…)) مصدر سابق، ص 40 ـ 42.

2 محمد تقي جعفري، مصدر سابق، ص 343.

3 ابو فارس، مصدر سابق.

4 L. W. Mibarth. Political Participation, PP. 145- 152

5 ابو فارس، مصدر سابق، ص 43.

6 المصدر نفسه.

7 نفس المصدر ص 57.

8 المصدر نفسه، ص 60.

9 عبد الله البحراني الاصفهاني، عوالم العلوم والمعارف والاحوال، ص 557.

10 المصدر نفسه، ص 510.

11 محمد باقر الحكيم، الحكم الاسلامي بين النظرية والتطبيق، مؤسسة المنار، 1992م، الباب الثاني، الولاية والشورى، ص 113 ـ 163.

12 ابو فارس، مصدر سابق، ص 57.

13 المصدر نفسه، ص 58.

14 المصدر نفسه، ص 59.

15 حسن عباس حسن، الصياغة المنطقية للفكر السياسي الاسلامي، ص 164.

16عبد الله البحراني، عوالم العلوم، مصدر سابق، ص 516.

17 المصدر نفسه.

18 المصدر نفسه، ص 512.

19 محمد تقي الحكيم، الاصول العامة للفقه المقارن، ص 561.

20 المصدر نفسه، ص 599 ـ 601.

21 ابن الفراء، الاحكام السلطانية، ص 23.

22 ابو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 103