لقد عرفنا الحرية بأنها الإرادة الواعية بين نفي واثبات في موجود. وأنها الظاهرة الأساسية في جدل الإنسان، وأنها تقوم على الاختيار ونفي الإكراه ووجود الضدين بشكل متكافئ. وأن أول الحريات الإنسانية حرية العقيدة، كهبة من الله لعباده. وأن ثانيها حرية التعبير عن هذه العقيدة.
كما أن الشورى طريقة ممارسة هذه الحريات من قبل مجموعة من الناس، ضمن مرجعية معينة معرفية وأخلاقية وعرفية وجمالية، تتبع البنى الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، وتقوم على حرية الرأي والرأي الآخر والتعبير عنه ومفهوم الإجماع، بترجيح رأي أغلبية الناس في أمر من الأمور، وهو ما نسميه اليوم بالديموقراطية.
كما أن الشورى (الديموقراطية) تدخل في بنية العقيدة الإسلامية، وضمن الاستجابة لله تعالى كالصلاة والزكاة تماماً. وأن ممارستها تدخل ضمن بنية المجتمع التاريخية، أي ضمن بنية الدولة التي تقوم عليها، كجزء من العقيدة الإسلامية. ورأينا كيف مارس النبي (ص) الشورى ضمن البنية القائمة في حينه، ولم يحدد بنية الدولة، ولا مدة حكم الأمير وصلاحياته وكيفية انتخابه، وكيف أن التنزيل الحكيم ذكر أولي الأمر ولم يحدد من هم، ولا كيف ينتخبون ولا صلاحياتهم، وإنما حدد الأسس الأخلاقية للمجتمع.
فالشورى، بالمفهوم الإسلامي المعاصر، هي الديموقراطية التي تقوم على حرية الرأي والرأي الآخر، وعلى حرية التعبير عن هذا الرأي، مستعملة آخر ما توصل إليه العلم من أدوات نشر المعلومات. والشورى تدخل في بنية الدولة الدستورية لا في اللوائح القانونية. لأن الحرية والديموقراطية، نمط علمي للحياة الإنسانية، وليستا وسيلة أو غاية. وهما بديل الاستقراء العلمي والتجارب المخبرية في منهج العلوم الكونية. فالحرية والعلم توأمان لا ينفصلان، وكلما زاد تعلم الناس ووعيهم، زادت حاجتهم إلى الحرية. وكلما كانوا أحراراً، زاد فرص نمو العلم عندهم. وبما أن للثورة العلمية منعكس هو تقدم التكنولوجيا، من حيث أن التكنولوجيا هي إيديولوجيا العلم، فالعدالة الاجتماعية النسبية وتقدم المعارف، وازدياد رفاهية الإنسان وتحضره هما إيديولوجيا الحرية والديموقراطية، والحرية والديموقراطية هما المنهج العلمي الحضاري في العلاقات الإنسانية. ولتحقيق ذلك، وجب علينا تحديد الشروط البنيوية للدولة التي تمارس فيها الحرية والديموقراطية، وتحديد متى تكون هذه الشروط مقبولة، ومتى تكون غير مقبولة. فلكي تصبح بنية الدولة العربية الإسلامية معاصرة، يجب أن تحتوي على الشروط التي تدخل في بنيتها. فكيف يمكن التعبير عن البنية في الدولة العربية المعاصرة؟
هذا التعبير يأخذ شكله من الدستور، فالدستور هو الإطار الذي يعبر عن بنية الدولة. وبما أن البنى في الدولة تتطور بشكل بطيء، فإن تعديل الدساتير يجري بفترات زمنية متباعدة، أكثر من تعديل القوانين. هنا نضع أيدينا على لب الأزمة في العقل العربي السياسي، وهو غياب الدستور وأهميته في هذا العقل. فالعقل العربي السياسي، عند الكتلة الأساسية من الناس، لا يشعر بأي حرج من استمرارية حكم الحاكم مدى الحياة، بغض النظر جمهورياً كان أم ملكياً، ولا يشعر بسلطة الحاكم التي تكاد تكون مطلقة، ولا يعنى كثيراً بالطريقة التي وصل بها الحاكم إلى الحكم، ولكنه معني أكثر بأمور الحياة اليومية التي يغطيها القانون. فالإنسان العربي يشعر، مثلاًـ عندما تتم مخالفة إشارة المرور ويشعر بإجحاف في قانون الجمارك، ويشعر بتعسف ضريبة الدخل، فيعبر عن سخطه، وهو محق في ذلك، لكنه لا يشعر مطلقاً بمخالفة دستورية حين تقع، هذا إن وجد دستور أصلاً!! لماذا؟؟ لأن القانون هو الذي ينظم حياة الناس اليومية، وهو ما يعادل الفقه الإسلامي الذي نظم الحياة اليومية للناس في عصور التدوين وما تلاها. لهذا، فالعقل القانوني عند العرب، أي العقل الفقهي، لا يعاني من قصور، إنما العقل الدستوري هو الذي يعاني من القصور، والعقل العربي السياسي ما زال يحمل فكرة الإمام العادل أو المستبد العادل على أنها فكرة مقبولة، وهذه الفكرة هي كفكرة الليل المضيء لأن الاستبداد والعدل لا يجتمعان. فمنذ استولى معاوية على الحكم بالقوة، وجعله وراثياً بالقهر، تم تهميش دور المسلمين، حتى يومنا هذا، في الأمور التي تتعلق بالسلطة السياسية.
فالقانون يصدر عن مجلس الشعب أو مجلس الشورى بموجب السلطات الدستورية بتصويت أعضاء المجلس، أما الدستور فيصدر بالبداية التالية (نحن الشعب قررنا ما يلي..).
لما كانت الشورى (الديموقراطية) تدخل في البنية الأساسية للعقيدة الإسلامية، وفي الممارسة البنيوية لهذه الشورى، فإن الشكل الأمثل لها هو التعددية الحزبية، التي تعبر عن الرأي والرأي الآخر بشكل منهجي علمي منظم، وأن حرية الأحزاب السياسية من أساسيات الحياة الإسلامية المعاصرة. أي علينا أن نعي تماماً أن الإسلام فيه يمين وفيه يسار، واليمين فيه أجنحة، وكذلك اليسار، وأن الموقف اليميني اليوم يمكن أن يكون يسارياً غداً، أي علينا أن ندخل في دائرة وعينا السياسي الحقائق التالية كما وردت في التنزيل الحكيم:
أ ـ إن الله سبحانه نفسه قبل المعارضة، ولم ينتقم منها، وأرجأها إلى يوم القيامة. فلماذا لا نقبلها نحن؟
ب ـ إن الإنسان بدأ ممارسة الحرية بالمعصية لا بالطاعة، أي بدأ بممارسة الحرية بطرفها المقابل، ولو أن كل أهل الأرض أطاعوا أوامر الله كلها، لما عرفنا أصلاً أن الإنسان مخيّر وليس مسيراً.
ج ـ إن الوقوع في الخطأ، نتيجة لممارسة الشورى ورأي الأكثرية، لا يعطي المبرر لإلغاء الشورى، وأكبر دليل على ذلك هو النبي (ص) عندما استشار الصحابة في أسرى بدر، وكان رأي الأكثرية عدم قتلهم، ثم جاء الخبر من السماء بخطأ هذا الرأي، ومع ذلك لم يلغ هذا التصحيح من الله آية (وأمرهم شورى بينهم) ولم يلغ آية (وشاورهم في الأمر). وبعد ذلك استشار الناس في غزوة أحد، وأشاروا عليه بالخروج من المدينة والقتال، وأخذ برأيهم، وتمت الهزيمة في أحد، ومع ذلك لم يوجه اللوم لأحد ولم يلم نفسه على هذه الاستشارة، أي أن السنة النبوية تعلمنا (إن الخطأ في الشورى لا يبرر إلغاءها) وهذا يقودنا إلى مفهوم الحزب بالمنظور السياسي.
فالحزب، بالمفهوم المعاصر، تعبير عن وعي جماعي من خلال مؤسسة جماعية منظمة وعلنية لها موقف من قضايا المجتمع المعاصرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولها برنامج عمل لتطوير الدولة والمجتمع وحل القضايا الأساسية التي تفرزها التناقضات اليومية للمجتمع داخلياً، وعلاقات التأثير والتأثر المتبادل مع المجتمعات الأخرى، أي العلاقات الدولية. وهذا التعريف بالحزب له معنى إيجابي وضروري، أي أنه إطار مادي للتعبير عن الأفكار المشتركة لمجموعة من الناس. فإذا أخذنا بهذا المفهوم وطبقناه، نرى أنه قديم، حيث كانت خلافات الرأي قديماً تُحل بالعنف، فالأقوى هو الذي يغلب الأضعف، ولا رأي للناس في ذلك. أي كان هناك أحزاب، ولكن القوي فيها يستبد بالضعيف، ويقضي على معارضته جسدياً، أما الآن، فللحزب مفهوم أوضح، هو التعبير عن رأي مجموعة، والحزب الآخر أداة للتعبير عن مجموعة لها نظرة مغايرة، والناس هم الحكم وليس السلاح.
علينا أن نُدخل ضمن قناعاتنا وجود التعددية الحزبية المتكافئة في تعبيرها عن آرائها، حتى نستطيع إقامة حكم شوري بالمفهوم المعاصر. ولكن كيف يمكن وجود حزب إسلامي، إلى جانب أحزاب غير إسلامية، وكيف يمكن لها أن تتعايش؟ وما هو مفهوم الجزية، كجزء من الممارسة الإسلامية، في إطار موقف الإسلام من الرأي الآخر ضمن الدولة الواحدة، أي في حدود مفهوم الشعب وليس الأمة أو القومية؟.
هنا يجب علينا صياغة مفهوم معاصر لموقف الإسلام من الآخر ورأي الآخر، آخذين بعين الاعتبار سياق الآيات، والتطبيق التاريخي لآية الجزية (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) (سورة التوبة/ 29).
وسورة التوبة سورة محكمة كلها، أي كل آياتها أحكام وتشريعات، ولهذا فهي لا تبدأ بالبسملة، وهي التي أشار إليها تعالى في قوله بسورة محمد (ويقول الذين آمنوا لولا نُزِّلت سورةٌ فإذا أنزلت سورةٌ محكمةٌ وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نظر المغشيِّ عليه من الموت فأولى لهم) (سورة محمد/ 20) أما سورة محمد نفسها ففيها آيات محكمات، وفيها متشابهات أي قرآن، كقوله تعالى (مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه وأنهارٌ من خمرٍ لذةً للشاربين وأنهارٌ من عسلٍ مصفّى، ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرةٌ من ربهم، كمن هو خالدٌ في النار وسقوا ماءً حميماً فقطّع أمعاءهم) (سورة محمد/ 15).
إننا نرى في إشارته تعالى إلى سورة التوبة، بآية من آيات سورة محمد، دلالة على علاقة ما تربط بين السورتين، كما نرى علاقة أخرى تربط بين السورتين وبين الآيتين 8 و9 من سورة الممتحنة، تحكم العقل العربي السياسي والإسلامي خاصة، في تحديد مبدأ العنف، وفي موقفه من الآخر والرأي الآخر. ونرى أن علينا الوقوف طويلاً أمام السورتين وآيتي الممتحنة، لتحديد ما إذا كان هذا المبدأ الذي تقرره مطلقاً يعمل في كل زمان ومكان، أم هو مرحلي ينحصر في إطار مرحلة البعثة النبوية.
ـ (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (سورة الممتحنة/ 8).
ـ (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (سورة الممتحنة/ 9).
المدينة المنورة كانت مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية في شبه جزيرة العرب. فيها المواقف السياسية العلنية، وفيها الحرب الأهلية، والحروب الخارجية، وتم تغطية كل ذلك في سورتي محمد والتوبة. فإذا أخذنا الممتحنة، نجد فيهما بيان من نقاتل، ومن لا نقاتل، بغض النظر عن كونه من أهل الكتاب أم من غيرهم. وبما أن باب البر والقسط مفتوح إلى يوم القيامة، ومقبول بمختلف أنواعه المادية والمعنوية، فالله سبحانه لم يحدد شروط وظروف البر والقسط التي يجب توفرها حتى يكون مقبولاً، لكنه حدد مبررات وشروط القتال التي يجب توفرها حتى يكون مشروعاً. أي أنه سبحانه حدد لنا في السورتين شروط وظروف تنفيذ الآية 9 من سورة الممتحنة، في قتال من قاتلَنا في الدين، وأخرجنا من ديارنا، وظاهر على إخراجنا. ومن هنا نرى أن محتوى سورتي محمد والتوبة، فيما يخص منهما موضوعنا هذا، ليست مطلقة، بل تحددها وتقيدها الآية 9 من سورة الممتحنة. ونرى دراستها على هذا الأساس، كيلا نقع في وهم التناقض بين السورتين والآية، أي كيف نأخذ الجزية من الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا على إخراجنا، عن يدٍ وهم صاغرون؟ وأين البر والقسط في ذلك؟ يقول الله في سورة التوبة (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب..) فكيف، إذا لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ولم يظاهروا على إخراجنا؟.
فالقتال مبرر في حالتين:
ـ القمع الداخلي (أي قمع حرية الاختيار العقائدي).
ـ العدوان الخارجي.
وعند الانتصار على القمع الداخلي، تؤخذ الجزية من الذين أوتوا الكتاب عن يد وهم صاغرون، إذ كانوا طرفاً في هذا القمع، أو ظاهروا عليه. وهذا يعني أن أي دستور للدولة العربية الإسلامية يجب أن يحتوي، حسب الإسلام، على جملة بنود ومفاهيم:
1- صيانة حرية تشكيل الأحزاب السياسية في الدولة، ولا لزوم لموافقة أي سلطة لتشكيل حزب سياسي، وإذا كان للسلطة اعتراض، فلتلجأ هي إلى القضاء.
2- صيانة حرية التعبير عن الرأي، في الاجتماعات والتظاهرات السلمية، والندوات، والصحافة والتلفزيون، وجميع الوسائل التي توصلت إليها تكنولوجيا المعلوماتية.
3- العبادات بجميع أنواعها لا تدخل البتة ضمن برامج الأحزاب السياسية، فالعبادات ليست موقفاً اقتصادياً أو سياسياً، ولا علاقة لها بتناقضات المجتمع اليومية، أو بعلاقاته بغيره من المجتمعات.
4- تكفل الدولة للناس حرية ممارسة العبادات، في الحد الأدنى منها. فتخفض مثلاً ساعات العمل للصائم في رمضان، لكنها لا تخفضها للصائم خارج شهر رمضان.
5- بما أن الدولة تمثل الشعب، والشعب يمكن أن يضم في داخله أمماً أو قوميات، فكل المواطنين في الدولة أفراد بالتساوي لهذا الشعب، بغض النظر عن الأمة أو القومية التي ينتمون إليها.
6- يحق لكل القوميات الصغيرة تنمية ثقافتها، ونشر لغتها وآدابها بكل حرية.
7- الأداة العسكرية تتبع الإرادة السياسية وتخضع لها تماماً.
……………………………
المصدر : الدولة والمجتمع
iThere are no comments
Add yours