في الحاجة التاريخية لتبني القوميين والاسلاميين للمنظومة الليبرالية

بقلم: الطاهر الأسود


نشأة وتفوق الرؤية الليبرالية في الغرب كانت ناتجة عن تحقيق مساواة سياسية – قانونية بين مواطني الدولة-الأمة الناشئة؛ الوضع في العالم العربي يختلف تماما.

اختطفت مجموعة محدودة من الأطراف الهامشية عربيا الشعار الليبرالي وذلك من خلال الاستعانة بهيمنة إعلامية لا تعكس شعبية حقيقية. حيث أصبحت البرامج الحوارية الفضائية، مثلا، تستعمل تسميات تحيل على تباينات غير دقيقة من نوع وضع محاور “ليبرالي” ضد محاور “إسلامي” أو “قومي”، بما يعنيه ذلك من الفصل المطلق بين الرؤيتين الوطنية والليبرالية. وفي الواقع فإن هذه الأطراف “الليبرالية” تتميز بمعاداتها للمصالح الوطنية والقومية العربية أكثر من تميزها بأي مشروع ليبرالي. وبالرغم من كل جهودها للتطوع للمشاركة في بروباغندا الحملة الأمريكية العسكرية فإن أوساطا أمريكية رئيسية في الأوساط الحاكمة وتحديدا داخل مجموعة النيومحافظين قد اقتنعت أن مثل هذه الأطراف هامشية وأن الأطراف الوطنية وخاصة الاسلامية المعتدلة هي الوحيدة التي تملك زمام المبادرة السياسية عربيا وبالتالي التأثير على المجرى الفعلي للأحداث (أنظر سلسلة مقالاتي السابقة حول هذا الموضوع). وبالرغم من تبني بعض الأطراف الوطنية قومية وإسلامية لشعار الاصلاح السياسي والدمقرطة إلا أن الكثير منها لايزال مترددا في التبني الحاسم والواضح للمشروع الليبرالي في كليته. ومن ثمة هي عاجزة سياسيا على التأثير بشكل إيجابي. وهو ما يجعلها تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الدفاع عن نظام عربي رسمي تتدعي التمايز عنه. وعوض تبني المشروع الليبرالي والذي سيوفر لهذه القوى مجالا لتجديد علاقتها بالشارع العربي (الذي فقد ثقته في هذا النظام كما فقد ثقته في شعارات جامدة) فإن غالبيتها لايزال يعتقد أن الدمقرطة العربية تصب في المشروع الأمريكي. وهكذا يقع الخلط بين مواجهة السياسة الأمريكية ومواجهة شعاراتها، حيث يصبح التشكيك في جدوى الديمقراطية وأهميتها محورا لخطاب هذه القوى بذريعة الدفاع عن القضايا الوطنية. كما يقع الخلط بين ما تنويه السياسة الأمريكية وما يمكن أن يحدث فعلا جراء تلك السياسات. فهل الدفاع عن القضايا الوطنية يعني استعداء المنظومة الليبرالية؟ وهل أن السياسة الأمريكية للدفع باتجاه إصلاحات ليبرالية يعني أن الإصلاحات الليبرالية معادية لمصالح الأمة؟

في “لاغربية” المنظومة الليبرالية

أولا نعني بالليبرالية بشكل أساسي تلك المنظومة الفكرية التي صادف أن نشأت وتطورت أساسا في المجال التاريخي والحضاري الغربي والتي تعبر عدى بعض الخصوصيات عن قيم إنسانية شمولية تتجه نحوها حركة التاريخ بالرغم من كل السقطات والتراجعات. وليبرالية العالم الغربي بالشكل الذي نراه اليوم لم تتشكل إلا مع بداية القرن العشرين حيث تم التقدم فعليا/عمليا في إقرار حق الانتخاب بشكل متساوي اجتماعيا واثنيا (منذ الستينات في الولايات المتحدة). كما تم إقرار حقوق اجتماعية أساسية بما في ذلك حق التنظم النقابي والمشاركة النسوية في الحياة السياسية. ومن جهة أخرى تم إقرار حقوق النشر والإعلام بشكل سمح بشكل تدريجي لظهور العمل الصحفي كأداة تعديل سياسي وحتى كـ”سلطة رابعة”. ولم تكن هذه المنجزات الحضارية نتيجة ميكانيكية للهوية “اليهودية-المسيحية” للمجال الغربي بقدر ما كانت في تباين بل وعلى الضد منها في بعض الأحيان. وفي الواقع كان المحتوى الرئيسي للمنظومة الليبرالية التأكيد على المعنى الانساني للشخصية الغربية وليس على خصوصيتها الثقافية الحصرية. ولكن كان هناك جهد كبير لإحداث نوع من التوازن بين الموروث الثقافي الخصوصي للغرب بما في ذلك مكوناته القومية والثقافية المتنوعة والمنظومة الفكرية الجديدة: وفي هذا الاطار يمكن فهم التزاوج المفارق بين المنظومة الليبرالية الفكرية والخطاب والفعل الاستعماريين في القرن التاسع عشر. وهكذا تم مثلا الادماج التدريجي وبأشكال متفاوتة للمؤسسة الدينية في المنظومة السياسية الليبرالية وذلك من خلال تنازلات متبادلة بالأساس وليس من خلال الإخضاع والإلغاء الديني. فلم يكن الإلحاد شرطا حتى في المسار الغربي للتجربة الليبرالية بل كان أحد فروعها، وربما الأقلها تأثيرا.

و هنا نؤكد على الرأي القائل بالعلاقة العضوية بين المنظومة الليبرالية الفكرية ونشأة الرأسمالية كنظام اجتماعي واقتصادي متباين مع المرحلة ما قبل الرأسمالية. حيث أن تصادف ظهور الرأسمالية (و هي ظاهرة تاريخية عفوية بمعنى أنها لم تظهر نتيجة لقرار سياسي أو ثقافي محدد) في المجال الأوروبي الغربي كان شديد الارتباط مع ظهور الظاهرة الفكرية التي تم تعريفها تدريجيا بالليبرالية. وهكذا فتراكم الرأسمال مع بداية القرن الثالث عشر في المدن-الدول في شمال ايطاليا كان الحضن الاقتصادي (الممول والراعي فكريا ونفسيا) لعصر النهضة الانسانوية المبكر الناشئ في نفس المجال الجغراسياسي. وبمعنى اخر كانت أعمال كل من جيوتو وبلوتارك التعبيرات الفكرية والفنية عن الأفق الجديد للتاجر الشمال-إيطالي. وبنفس المعنى فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالمجال العربي منذ بداية القرن الماضي (في إطار الصدمة اللاسياسية التي رافقت الاستعمار المباشر) وخاصة بعد تشكل “الدولة الوطنية” ولو بشكل متفاوت (حيث لا يمكن مقارنة البنى الاقتصادية والاجتماعية لأقطار مثل مصر وتونس بأقطار عربية أخرى لازالت تكتشف مفهوم العمل) . والتاجر والمستثمر ورجل الأعمال العربي هو بالضرورة يهيئ لمنظومة فكرية جديدة من خلال مساهمته (فرديا أو مع الأطر الدولية الرأسمالية المهيمنة) في إدخال وترويج أشكال اقتصادية واجتماعية رأسمالية وفي أحيان كثيرة شديدة الحداثة. وعلى سبيل المثال فإن الاستثمارات الجديدة التي تمس التقنيات العالية تفرض بالضرورة مفاهيم فكرية جديدة: فترويج الكمبيوتر يجلب معه بالضرورة سرعة تداول المعلومة واتساع الانفتاح الثقافي بالرغم من كل الحدود الثقافية التي لازالت ترافق التجديد التكنولوجي. إن التجديد التكنولوجي الأخير والذي ساهم بقوة في تجدد الرأسمالية وتوسيع مجالها (أكثر من أي قرار سياسي أو عسكري) مرتبط بقوة بتجدد المنظومة الفكرية الليبرالية واتساع مجالها الجغراسياسي. إن الوضع الدولي الراهن يشير أكثر من أي وقت اخر الى كونية القيم الليبرالية: عندما تصبح فينيزويلا شافيز حاجزا أمام الضغظ الاستراتيجي الأمريكي من خلال إقرار وتأكيد القيم السياسية الليبرالية فإن ذلك يعني أن الليبرالية لديها قابلية “فينزويلية” بقدر ما لها قابلية “أمريكية”.

عجز وتوتر “الليبراليين” العرب

تمتلك “العلامة المسجلة” لليبرالية عربيا أطراف لا تحظى فعليا بأي تأثير سياسي داخلي إلا إذا توفر ضغط أو تدخل عسكري وسياسي غربي. من جهة ثانية لا يمثل هؤلاء مشروعا ليبراليا قابل للتحقق عربيا والأكثر من ذلك يمثلون مشروعا استبداديا يهدف الى إقصاء الأطراف الوطنية العربية من العمل السياسي مقابل التنازل عن مشروع الدولة الوطنية.

وقد لاحظت الهامشية السياسية لهذه الأطراف كل الدراسات التي حاولت تقييم الوضع العربي السياسي الراهن بشكل موضوعي بما في ذلك الدراسات التي أصدرتها مؤسسات بحثية غربية (أمريكية وأوروبية: أنظر مقالاتي السابقة). ويقابل هذا القصور الواقعي توتر إعلامي وسياسي يجعل من هذه الأطراف في موقع أقل إقناعا. فإعلاميا تتصدر مجموعة محدودة من الأشخاص صحافة (مكتوبة، مرئية، الكترونية…) مسنودة ماليا وسياسيا من قبل أطراف شديدة التناقض. ويمكن أن نسمي هذه الظاهرة الإعلامية بـ”الليبراليين الخليجيين” والذين يرافقهم بضع عشرات من جنسيات عربية أخرى خاصة في المنافي الغربي انضموا بشكل جماعي وتطوعي الى الاعلام العسكراتي الأمريكي من نموذج قناة فوكس.

والمفارقة الأولى هنا هو التعاون القائم بين المذكورين ومثقفين عرب منتمين سابقا لتيارات يسارية متشددة. فـ”الليبراليون” الخليجيون حديثي النشأة وشديدي الالتصاق ببعض مراكز المؤسسات الرسمية المحلية ويتمتعون بمصادر مالية لا تنضب. وهؤلاء متطرفون بشكل مشابه لتطرف قاعديي الجزيرة حيث يسعون للتمايز بشكل استعراضي وبشكل يبعث على الاثارة ولهذا فهم يركزون على الشكل وعلى كيفية إخراج المشهد السياسي. وطبعا لا يتمتع هؤلاء بأي وجود سياسي فعلي في أقطارهم كما أثبتت ذلك الانتخابات البلدية والتشريعية الأخيرة. والمثير هنا أنهم رأس حربة ضد تيارات إصلاحية حقيقية حيث لا يقومون فقط بالتغاضي عن التجاوزات في حقوق المساجين السياسيين الذين واجهوا بجدية وبالفعل مشكل القمع الداخلي وغياب الحريات السياسية بل يعملون على تشويههم ووسمهم بـ”التطرف”. وعموما يقوم هؤلاء “الليبراليون” بالتعبير عن بعض دوائر الحكم لاغير، والذين لا يبدون أي استعداد لإنهاء احتكار الأطراف الحاكمة للحياة السياسية والاقتصادية، وبمعنى اخر فهم تعبير عن موقف استبدادي يفضل الاستعاضة عن التحالف التاريخي مع المؤسسة الدينية التقليدية بوضع جديد مماثل لأوضاع استبدادية عربية أخرى حيث تحيط بجهاز الدولة نخب “حداثية” تبرر الاستبداد السياسي. ومقابل ضعفهم الداخلي يتوفر هؤلاء “الليبراليون” على نزعة موالاة متطرفة للمصالح الأمريكية، حتى أنهم يبدون في أحيان كثيرة “أمريكيين أكثر من الأمريكيين”.

ويلتصق بهذه الظاهرة مجموعة من المثقفين العرب أغلبهم من المنفيين والذين حلت تنظيماتهم اليسارية المتشددة نفسها ويشمل ذلك خاصة مثقفين من العراق وسوريا ومصر والمغرب العربي يتميزون عن نظرائهم بنشاط “ثوري” سابق وبالتالي بخبرة حركية وإطلاع أوسع على المشهد السياسي العربي خاصة في تفاصيله “الثورية” السابقة. وهؤلاء لم يغيروا في الواقع خطابهم الإقصائي حينما كانوا زعماء وأعضاء في تنظيمات تحضر “الثورة العمالية الفلاحية” حيث يمارسون نفس النبرة المتوترة وشديدة اللهجة وخاصة ضد التنظيمات الوطنية والتي يصفونها جملة وتفصيلا بـ”الفاشستية” مقابل التغطية بل والتبرير والإشادة بالممارسات الاسرائيلية والأمريكية الاستعمارية والعدوانية عوضا عما كانوا يقومون به في السابق من الاشادة بالتجربة السوفياتية واستعداء الولايات المتحدة. وطبعا لا تقدم هذه الفئة المتوترة أي تفسير لهذا الانقلاب وتواصل التعامل مع قرائها بنفس التعالي السابق. والليبرالية بالنسبة لهذه الفئة تتمثل تحديدا في الالتجاء لكل السبل بما في ذلك الاستبداد السياسي الداخلي أو قوات الاحتلال وإلغاء الدولة الوطنية من أجل فرض نظام سياسي يقصي أية أطراف تدافع عن الهوية الوطنية وخاصة الأركان القومية العربية والاسلامية لهذه الهوية. وهؤلاء يقبلون بل ويتصدرون التطرف القومي والديني عندما يأتي من أطراف غير عربية (كردية مثلا) أو غير إسلامية (قبطية أو مارونية أو يهودية مثلا) ولهذا فهم ليسوا تحديدا ضد التطرف القومي والديني بل ضد المقاومة القومية والاسلامية في ظرفية العدوان الحالية. وفي هذا الاطار يقومون مثلا بالخلط المتعمد بين حركات ارهابية من نوع القاعديين وحركات وطنية أخرى في الحالة العراقية.

“الليبرالية” اللبنانية

في المقابل يتميز “الليبراليون” اللبنانيون بعراقة تاريخية عربيا وبوجود سياسي فعلي وقعت ترجمته أخيرا في الأحداث اللاحقة لمقتل رفيق الحريري. غير أن الوضع اللبناني كثير التعقيد ويحتاج تركيزا خاصا. فالحركة الليبرالية اللبنانية لازالت في مرحلة الفرز وإعادة التشكل حيث أثبت حزب الله من جهة أنه قاعدة أساسية في أي تطور ليبرالي في لبنان كما أن عددا من المطالبين بانسحاب سوري فوري (خاصة وليد جنبلاط وأهم الأطراف السنية) يتباينون مع بقية الأطراف التي تسعى الى اقتناء الطرد البريدي الأمريكي بكامله أي “ديمقراطية” تعادي السوريين وتتحالف في المقابل استراتيجيا مع اسرائيل. وتمثل الأطراف اللبنانية في الأساس نفوذا طائفيا أكثر منه سياسيا حيث لا يزال ثقل الحرب الأهلية وذكراها مؤثرا على طبيعة التحالفات السياسية وبرامجها. وهكذا فبالرغم من الالتحام الحاصل حول هدف المطالبة بانسحاب سوري فإن ذلك لا يعني أن هذه القوى السياسية نفسها هي التي ستكون القوة الرافعة للمشروع الليبرالي اللبناني، في ظل عدم حسم مسألة “الاستقلال الوطني اللبناني” خاصة وأن الكثيرين من المعارضة لا يرون تحققه في إطار انسحاب سوري فحسب بل يقرنونه بموقف حازم تجاه الاعتداءات الاسرائيلية ولهذا لا يوجد إجماع للمعارضة حول سلاح حزب الله بقدر ما يوجد إجماع حول سلاح سوريا. وعموما فإن المسألة الوطنية محدد أساسي سيحسم طبيعة ومكونات الجبهة الليبرالية اللبنانية اجلا أم عاجلا. وهذه القاعدة ليست خاصة بالوضع اللبناني بل تشمل الوضع العربي. ولهذا فالسبب الرئيسي لرخاوة وضعف “الليبراليين” العرب أو أولائك العرب الذين يقدمون أنفسهم أساسا كـ”ليبراليين” هو تخليهم عن أجندة وطنية بل العمل على نقض أي مصلحة وطنية في تجاهل كامل لحيوية المسائل الوطنية في الظرفية العربية.

حيوية المسألة الوطنية في المنظومة الليبرالية عموما

تم تقديم الرؤية الليبرالية عربيا، للأسف، كرؤية بالضرورة معادية للمصالح الوطنية العليا ومفهوم الأمن القومي العربي. ويرجع ذلك بالأساس لتبنيها خاصة في الصخب السائد حاليا (كما يجسده بامتياز “الليبراليون العرب الجدد”) من قبل الأطراف الذين أشرنا إليهم أعلاه: إما أطراف مرتبطة بمصالح أطراف خارجية تقدم مفهوم الأمن القومي العربي أو حتى مفهوم المصلحة الوطنية كمفاهيم متخلفة عن الواقع الراهن و”غير عقلانية”، وإما أطراف هي أيضا مرتبطة أيضا بمصالح نفس الأطراف الخارجية ولكن تستعمل قاموسا يساريا يرجع لمرحلة الصراع البدائي بين القوى اليسارية والقومية العربية حيث يقع تقديم المفاهيم أعلاها كمفاهيم “شوفينية” و”فاشستية”.

وطبعا هذه المواقف لا تعبر عن موقف سياسي غير وطني فحسب بل والأهم من ذلك لا تعبر عن برنامج ليبرالي عقلاني وواقعي أي تحديدا عن برنامج ليبرالي قابل للتحقيق عربيا. ولكن قبل أي شيئ لا تعبر عن “تقليد لنموذج غربي جاهز” كما يعمد الى القول البعض من منتقدي “الليبراليين العرب”. فنشأة وتفوق الرؤية الليبرالية في المجال الغربي كانت ناتجة بالأساس وقبل كل شيئ عن تحقيق مساواة سياسية/قانونية بين مواطني الدولة-الأمة الناشئة: وهكذا حتى في أكثر الأمثلة الأوتوقراطية مثل حالة الاستبداد الملكي الفرنسي فإن التوحيد الفعلي للمجال الجغراسياسي كان غير ممكن في ظل التميز القانوني الأرستقراطي السابق للثورة. كما كان التأسيس للجمهورية في المثال الفرنسي أو البروسي-الألماني أو الأمريكي مرتبطا بتصاعد قوي لمفهوم “المصلحة الوطنية” و”الأمن القومي”. كما أن توحيد السوق القومي في جل هذه الأمثلة كان المطلب الرئيسي من وراء الشعار الليبرالي الاكثر شهرة “دعه يعمل دعه يمر”. وهكذا كانت أسس الإقتصاديات الليبرالية الغربية مستحيلة من دون تلك الخطوة الوطنية/القومية بالأساس.

وهكذا فالنموذج الغربي للتجربة الليبرالية بالذات يشير الى محورية المسألة الوطنية والقومية في المشروع الليبرالي. طبعا لا يوجد مسار واحد ولا نقوم هنا بالدفاع عن تاريخ تطوري مستقيم إذ سنستطدم بالضرورة مع القوى الغربية التي تحولت قوميتها الى شوفينية من خلال اتساعها لتنتهك مجالات لازالت في طور الدفاع عن حقها في السباق. حيث أن “الأمن القومي العربي” يكمن جزئيا في الحد من تغول “الأمن القومي” الأمريكي، كما أن “دعه يعمل دعه يمر” في المعنى الغربي راهنا لا تتفق بالتدقيق مع المقصود العربي من هذا المعنى. وهكذا هل يمكن لليبرالية العربية أن تنجح في حالة غياب الدولة التي تمثل السكان المحلليين؟ هل استعادة مشروع الدولة المحلية الشكلية التي تخضع مباشرة الى دكتاتورية عسكرية خارجية هو الإطار المناسب للتخلص من دكتاتورية محلية؟ وهل يمكن تصور ليبرالية اقتصادية عربيا بدون عناصر اقتصادية محلية ليبرالية قوية أي بورجوازية ليبرالية حقيقية؟ وحتى في ظل حتمية التشارك الاستثماري مع الأقطاب الليبرالية الدولية هل من الممكن أن تنجح هذه الليبرالية (أي لا ترتد اجتماعيا وسياسيا مثلما حصل في السابق) إذا ما وقع تجاهل الموقع الرئيسي للشريك المحلي؟ إن الدولة الوطنية هي شرط رئيسي لتحقيق الليبرالية السياسية والنخب الليبرالية الاقتصادية المحلية شرط محوري لتدعيم إقتصاد السوق عربيا. وهكذا فإن الليبرالية يمكن ويجب أن تكون وطنية عربيا، ولا يمنعها عن ذلك لاوطنية من يعتقد نفسه “ليبراليا”.

في معنى الوطنية وعلاقتها بالقومية والاسلام

عربيا، ليس كل من هو وطني يتبنى ضرورة وبشكل واضح الطرح القومي والاسلامي. نعرف نحن المغاربة هذه الظاهرة ربما أكثر من اخواننا المشارقة لأن حركاتنا الوطنية لم تتجه اتجاها قوميا أو إسلاميا معلنا حيث كان ذلك جزءا طبيعيا لم يقم رواد الحركات الوطنية بأدلجته. غير أننا نعلم من الطرح ولكن أيضا من التجربة أن معظم الاسلاميين والقوميين هم وطنيون بالضرورة. وطبعا توجد حالات مناقضة لذلك مثل جزء من الحالة الاسلامية الشيعية في العراق الان والتي التحمت عضويا بمشروع إلغاء الدولة الوطنية العراقية وقدمت خدماتها ولاتزال لمشروع الاحتلال العسكري. ولكن حتى هذه المجموعات تستفيد من خطاب وطني قوي داخل المشهد الاسلامي الشيعي في العراق والذي يرى في الانتخابات الأخيرة مثلا مدخلا للاستقلال الوطني.

ولازالت مسألة طبيعة المصلحة الوطنية/القطرية وعلاقتها بالمصلحة القومية مسألة إشكالية لم يقع الحسم فيها. كما يشكك البعض (من القوميين خاصة) في العلاقة بين ما هو وطني وما هو قطري حيث تقع المماهاة غير الضرورية (تاريخيا وواقعيا) بين من هو وطني ومن هو قومي. ومن إشكالات التجربة القومية هو اعتبار المصلحة الوطنية/القطرية مناقضة للمصلحة القومية قبل الوصول الى السلطة مقابل اعتبارها مماهية للمصلحة القومية حين الوصول الى السلطة في قطر محدد. ويوجد إشكال مماثل في علاقة بتجربة الحركات الاسلامية، ولكن تتميز الأخيرة عن الأولى بواقعية أكبر في علاقة بمنزلة المصلحة القطرية/الوطنية وهو من العوامل المفسرة لشعبيتها نسبيا مقارنة بالطرف القومي.

و لكن عدى هذه التعقيدات الثانوية فإن الأطراف الإسلامية والقومية هي الرافعة الشعبية في الوضع العربي الراهن للمواقف الوطنية، وهو ما يفسر عموما شعبيتها مقارنة ببقية الأطراف السياسية العربية. وهذه الشعبية هي التي تجعل من الحركية السياسية عربيا بما في ذلك تحقيق مطلب صعب مثل الاصلاح السياسي غير ممكن داخليا من دون مشاركة الأطراف القومية والاسلامية.

لحظة تاريخية مناسبة للتوازن

كنا قد أشرنا في سلسلة من المقالات السابقة الى أن هناك قسما رئيسيا ضمن النخبة الحاكمة الأمريكية بدأ يؤمن بجدية في أن هناك مصلحة أمريكية حقيقية في إصلاح سياسي ولو جزئي عربيا يتضمن أساسا إدماج الأطراف الوطنية الأساسية وخاصة الأطراف الاسلامية في الحياة السياسية العربية والقبول بحقها في الوصول الى السلطة عبر العملية الديمقراطية. وكنا وضحنا أن هذه الرؤيةالأمريكية (و التي تمثل أهم تيار داخل النيومحافظين) تأتي ليس في إطار محبة فجئية للأطراف الاسلامية أو غيرها بل في إطار وعي بالأهمية المتزايدة لأطراف إسلامية شديدة الراديكالية برهنت على قدر الضررالذييمكن أن تلحقه الولايات المتحدة في الداخل الأمريكي. ووفقا لرؤية سابقة خلال الحرب الباردة برهنت على أهمية الاستفادة من جهود أطراف اشتراكية غير راديكالية في الحد من زحف الأطراف الاشتراكية الراديكالية (الشيوعية) فإن هذه النخبة الأمريكية أصبحت ترى في الأطراف الاسلامية غير المتشددة الحاجز الوحيد الناجع أمام القاعديين حتى ولو كانت هذه الأطراف الأسلامية تتمسك بمواقف وطنية أساسية تجعلها على تباين مع الكثير من السياسات الأمريكية. وبعكس المثل العربي القائل “يستجير من الرمضاء بالنار” فإن الطرف الأمريكي يتبع أساسا سياسة ذات روح ذرائعية (يشوبها خطاب ايديولوجي غير مسبوق) تتبنى أسلوب “الاستجارة من النار بالرمضاء”.

إن تعقد الظاهرة السياسة هي القاعدة وليست الاستثناء. حيث لا تحكم الأوضاع السياسية القاعدة الميكانيكية “إما أبيض أو أسود”. وهكذا يجب على الكثير من المحللين والسياسيين العرب التخلي عن تعليقهم المستغرب عن النوايا الأمريكية في علاقة بالاصلاح السياسي والذي لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن للولايات المتحدة أن تقبل بوصول أطراف وطنية عربية الى السلطة السياسية. حيث أن الأمريكيين في موقف صعب ولا يوجد مثال واحد يدل على أن سياساتهم تلقى الترحيب، ولهذا فقط يلجؤون للعب بالنار، أي المراهنة على الدمقرطة العربية. وهذه لحظة تاريخية تجعل من الأنظمة العربية في أصعب أوضاعها حيث لم يعد بإمكانها الاستفادة من التغطية السياسية والاقتصادية السابقة من الطرف الأمريكي. وحتى المحاولات المستمرة لشراء الصمت الأمريكي في قضايا الاصلاح السياسي من خلال التطبيع والتقرب من الطرف الاسرائيلي أو تبني المشروع الأمريكي في العراق لن تعود ممكنة. حيث لا تملك خيارات كثيرة ولا تستطيع استبدال أوراق لعب بأخرى حيث يملك الطرف الأمريكي كل أوراقها. والطرف الأمريكي على وعي كامل بالأهمية الشعبية للأطراف الوطنية وهو يستهدف بالذات إشراكها في السلطة، كما وضحنا بسبب العداء غير المسبوق للمصالح الأمريكية في منطقة يراها الأمريكيون على رأس المناطق الاستراتيجية في العالم. وهكذا فمن الواضح أن هناك تراجعا أمريكيا على أساس الضغط القائم وفي هذا الاطار يأتي دعم الولايات المتحدة للاصلاح السياسي.

إن أي خطوة في اتجاه دمقرطة حقيقية هي بالضرورة في مصلحة القوى الوطنية العربية لأنها ستسمح لها بترجمة نفوذها الشعبي على مستوى سياسي مؤثر. وهذا لن يتم من خلال اشتراط أمريكي بالتخلي عن الدفاع عن مكونات الهوية وتحديدا العروبة والاسلام، حيث يعرف الأمريكيون أن هذه المطالب لن تلقى أي أثر في ظل هامشية حلفائها المباشرين وتحديدا “الليبراليين” العرب. وهذا لا يعني أن الأمريكيين سيمتنعون عن الضغط. ولكن الضغط مختلف عن الاستهداف والاستئصال. وفي كلمة هذه فرصة تاريخية لإحداث توازن في علاقة بحلفاء الولايات المتحدة من الأنظمة الاستبدادية والذين هيمنوا لفترة طويلة على الساحة الرسمية العربية من دون الحاجة الى دفع أي ثمن وطني حيث سيُرغم الأمريكيون على القبول بالأطراف الوطنية المعتدلة أي التي لا تدعو الى “جهاد عالمي” ولكنها تدعم على كل حال قوى التحرر الوطني في فلسطين والعراق.

نماذج تصدر القوى الوطنية لمسار الدمقرطة الفعلية

من النماذج الأخيرة على تصدر القوى والمواقف الوطنية لتحركات تمثل في ذاتها مناسبات للعمل من أجل تكريس الحقوق السياسية الأساسية وترسيخ ثقافة تعددية حقيقية هي التحركات العربية لمقاومة التطبيع. وهكذا مثلا فإن حركة “كفاية” المصرية التي تتصدر التحركات المعارضة لإعادة ترشيح الرئيس المصري ترفع كشعار أساسي في تحركاتها “كفاية تطبيع” ومن المعروف أنها إطار لعدد من القوى السياسية اليسارية ولكنها أيضا تحتوي على تيار قومي قوي وهو ما يفسر نواياها لدعم ترشيح المناضل القومي حمدين صباحي في الانتخابات الرئاسية القادمة. كما أن الساحة المصرية أصبحت تجمع شعارات أساسية وطنية مثل مقاومة التطبيع أو دعم المقاومة في العراق وفلسطين مع التحركات المناهضة لتواصل حالة الطوارئ والانغلاق السياسي بما في ذلك تحركات القوميين والاسلاميين بكافة أطرهم.

من جهة أخرى فإن نموذج حزب الله اللبناني مثال اخر فرض نفسه شعبيا في محور الاصلاح اللبناني حتى من خلال تأكيده على التحالف مع سوريا حيث أن رصيد الحزب في المقاومة الوطنية وكخط دفاع رئيسي ضد أي تطبيع مع الاسرائيليين يكسبه شعبية تجعله رقما أساسيا في المعادلة السياسية الداخلية في اتجاه ترسيخ ثقافة حوار تعددي حيث لم يهاجم الحزب التظاهرات الأخرى بل قام بمواجهتها من خلال التظاهر الموازي. وتبرز حركة حماس الفلسطينية نموذجا اخر على التطورات التي يمكن أن تمر بها حركة وطنية في علاقة بتبني مفاهيم ليبرالية حيث ستشارك الحركة في الانتخابات التشريعية القادمة كما شاركت في الانتخابات البلدية في غزة ويأتي ذلك في إطار استراتيجيا تبني على أساس المصالح الوطنية الفلسطينية والتي لا تتناقض مع الاطار القومي والاسلامي للقضية الفلسطينية والذي يتكرس هنا من خلال التأسيس لنظام ديمقراطي فلسطيني يسمح بتعدد الأصوات الوطنية الفلسطينية. ومن هنا كان قرار الحركة في تبني موقف التهدئة في علاقة بتثبيت الإجماع الفلسطيني في المرحلة الراهنة. ومن الملاحظ أن الموقف الأمريكي من الحركة لم يكن في اتجاه واحد كما يعتقد البعض، حيث كان هناك دائما مجال للحوار وتبادل الاراء سواء حينما كان موسى أبو مرزوق زعيما للحركة من الولايات المتحدة أو حتى حينما وقع نفيه حيث بقيت للحركة مؤسسات عديدة خاصة مالية وذلك بعلم السلطات الأمريكية وهي المؤسسات التي تعرضت للمصادرة بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) وهو ما يشكل خلفية رفض الحركات الاسلامية الفلسطينية للتنظيمات القاعدية وأساليبها. وفي المقابل يعرف الامريكيون بما في ذلك أقطاب النيومحافظين الاختلاف البديهي بين التنظيمات القاعدية وتنظيمات المقاومة الاسلامية الفلسطينية وهم يتصرفون على ذلك الأساس، وهي النقطة التي أكد عليها تشارلز كراوثمر في مقاله بالناشيونال انترست في العدد الأخير حينما أكد على أن التنظيمات الاسلامية الفلسطينية ليست عدوة استراتيجية للولايات المتحدة. وفي هذا الاطار يأتي التشجيع الأمريكي للنظام المصري لتنظيم حوار وطني فلسطيني كما تأتي في هذا الاطار أيضا الحوار بين أطراف أمريكية وقيادات من حزب الله وحماس أخيرا (22 اذار/مارس 2005) في بيروت (أنظر موقع الجزيرة نت) لـ”مناقشة موقف الحركات الاسلامية من قضايا المنطقة”. وفي الواقع من المنطقي أن تلتقط حركات المقاومة الوطنية والتي تتميز بالتصاقها المباشرو الساخن بالعمل السياسي أن تلتقط التغيرات في المنطقة وأن تكون سباقة في تبني خطاب وأساليب جديدة.

الاستعداد لتحمل مسؤولية الحكم

لكن بالرغم من هذه النماذج والتي تشكل مقدمات، علينا أن نأمل، لتبني كامل وصريح للمنظومة الليبرالية من قبل القوى الوطنية قومية كانت أم إسلامية، فإن هناك مؤشرات قليلة عن استعداد هذه القوى على تحمل مسؤولية الحكم. وعموما لا يزال هناك غموض حول برامجها الاقتصادية والاجتماعية، حيث لا يمكن القيام بالحكم فقط على قاعدة المواقف الوطنية (توحيد الأمة، تحرير الأرض، مقاومة التطبيع…) ولا حتى على قاعدة الدمقرطة وحدها بل تحتاج مسؤولية الحكم رؤى واضحة في خصوص التعامل مع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي الواقع كان للقوى القومية والاسلامية برامج تتشابه في علاقة بقضايا التنمية وعموما (مع فوارق طفيفة) فقد تبنت القوى القومية (الأمثلة الناصرية والبعثية) والاسلامية (المثال السوداني حتى أواسط التسعينات بتأثر مباشر من التجربة الإيرانية) برامج متأثرة الى حد كبير بالتجربة الاشتراكية التي تعتمد على التأميم وهيمنة قطاع الدولة والقطاع الاجتماعي في التسيير الاقتصادي. ومن الواضح الان أن هذه الفلسفة الاقتصادية قد أثبتت محدوديتها على مدى التجارب التي حصلت طوال القرن العشرين. وفي المقابل فقد صمدت الفلسفة الليبرالية الاقتصادية أمام مشاريع استبدالها حيث نجحت في البقاء من خلال قدرتها وقدرة أسسها الواقعية على التأقلم مع المتغيرات والتعديل الذاتي بل وإستعادة مجالها الجغراسياسي وتوسيعه. والان لم يعد من الممكن من وجهة النظر الموضوعية الدفاع عن وجهة النظر القائلة باستبدال جذري للنظام الاقتصادي الليبرالي كما دافعت عن ذلك التجربة الشيوعية والتي قامت على ضفافها تجارب التنمية التي قادتها القوى الوطنية العربية. وهنا من الضروري توضيح نقطة رئيسية: إن المدرسة الليبرالية الاقتصادية تحتوي العديد من التيارات والتيار النيوليبرالي الراهن لا يعبر وحده عن مختلف التيارات الليبرالية. ولهذا من غير الممكن إختزال الليبرالية الاقتصادية في النموذج النيوليبرالي واستتباعاته المضرة خاصة على مستوى الدول النامية بما في ذلك الأقطار العربية. وهنا من الضروري التذكير أن المدرسة الكينيزية والتي تتميز بحساسيتها تجاه المسألة الاجتماعية ورفضها للفوضى الكلية للانتاج، وكذلك بوصفها المسؤولة عن الرفاهية التي اجتاحت الغرب اثر الحرب العالمية الثانية هي في الأساس تيار تعديلي ليبرالي. حيث كانت إصلاحا ذاتيا للنظام الليبرالي في مواجهة الأزمات الخانقة التي توجت سنة 1929 بالأزمة المالية الدولية. وهي بالتالي نموذج يستحق الاهتمام والدراسة بالنسبة للقوى الوطنية العربية. وعموما يجب الإقرار بوضوح بأهمية النموذج الليبرالي كأفق للتنمية الاقتصادية وهذا لا يعني استنساخ أي نموذج معين ولكنه يعني التزاما فلسفيا ينسجم مع ضرورات الواقع ودروس التجارب الاقتصادية الدولية بما في ذلك التجارب العربية. ويمكن التذكير في هذا الاطار أن كل دول العالم (بما في ذلك الصين وكوبا وحتي العراق قبل الاحتلال) تسعى للالتحاق بمؤسسات الاقتصاد الدولي بصفته الليبرالية، وهو مؤشر واضح على استحالة إيجاد أي طرق أخرى بديلة جذريا عن النموذج الليبرالي.

من جهة أخرى وفي إطار نفس الرؤية الليبرالية يمكن التأكيد على الجهود التي تقوم بها يعض الأوساط الرسمية العربية بدفع من قطاع هام من رجال الأعمال العرب للتركيز على تكثيف التبادل التجاري العربي وتأسيس أسواق حرة عربية حتى من أطر إقليمية. وعلى سبيل المثال فإن على جميع القوى في المغرب العربي الدفع بكل قوة تجاه تكوين سوق مغاربية، وهذا ليس مشروعا خياليا حيث يشترط عنصرين يمكنهما التوفر في الظروف الدولية الراهنة: أولا، أنظمة تتميز بحد أدنى من الديمقراطية وهو ما يوفر مجالا لترجمة إرادة شعبية قوية على المستوى المغاربي لتوحيد السوق والشفافية اللازمة لمثل هذا المشروع الاقتصادي الهام. ثانيا، الاستعداد بل التشجيع الدولي وخاصة من قبل القوى الأكثر تصنيعا (بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين) للتعامل مع سوق مغاربية واسعة ومن المعروف أن هذه القوى وواجهاتها (مثل صندوق النقد الدولي) تدفع باتجاه تطور مماثل. وطبعا نجاح مثل هذه الخطوة سيدعم استقلالية القرار (مثلما حال دولة مثل الهند الان) والدفع باتجاه توسيعها في المجال العربي (نحو مصر مثلا). وعموما فإن مثل هذه السوق الحرة والموحدة تمثل رهانا ضروريا لإنقاذ المنطقة من تحديات التجارة الدولية.

إن هناك حاجة تاريخية من قبل القوى الوطنية العربية وخاصة منها القوى القومية والاسلامية لحسم أمرها بشكل واضح (فكريا وعمليا) في علاقة بالمنظومة الفكرية الليبرالية وهو ما لا يعني تجاهل الخصوصيات العربية. ولكن هذه الخصوصيات لا يجب أن تكون ذريعة للتغطية على تجارب دكتاتورية سابقة ومواصلة تجاهل سلبية الاقصاء السياسي وتهميش حريات التعبير والتنظم. ومن جهة أولى على القوى “الليبرالية” المعزولة أن تفهم أن المشروع الليبرالي غير ممكن عربيا من دون مشاركة الأطراف الوطنية ومن خلال الدعوة والمشاركة في نسف الدولة الوطنية. كما أن على الأطراف الوطنية أن تفهم أن تحقيق الحقوق الوطنية والأهداف القومية غير ممكن في حالة الإقصاء وفرض نماذج محددة بالقوة على الشارع العربي، حيث يطلب المواطنون العرب خطابا أكثر احتراما لعقولهم.

ولايعوز القوى الوطنية العربية الوثائق والبيانات للقيام بذلك. إن وثيقة البيان الأخير للمؤتمر القومي العربي المنعقد في الجزائر (مثله مثل الكثير من البيانات السابقة له) يمكن أن يكون وثيقة مبدئية (على الأقل في علاقة بالليبرالية السياسية) تكون قاعدة لتحولات ميدانية، بما يعنيه ذلك من تغييرات في الخطاب والممارسة والمهام اليومية وليس مجرد إعلان سنوي. فالمشكل الرئيسي بالنسبة لبعض القوى هو في البرامج العملية وعمق تعلقها وتشبعها فعليا بالرؤية الليبرالية التي تعلن، ولو حتى ضمنيا، التمسك بها.

الطاهر الأسود

باحث تونسي يقيم في أمريكا الشمالية

ميدل ايست اونلاين