بقلم الطاهر العبيدي
*الإهداء إلى زهير اليحياوي (1) إلى ذاك الذي كان قلبه مثقلا بأوجاع الوطن…
*الإهداء إلى العميد الأستاذ محمد شقرون(2) إلى ذاك الذي عاش واقفا دون انحناء ورحل واقفا في زمن السقوط…
يا ذاك الوطن هاأنت تختزن بين ترابك عرق الكادحين، وغضب الفقراء وأزيز الجياع، وأنين البؤساء وصراخ اليتامى، وكل الحالمين المسافرين في عشقك يا ذاك الوطن، يا أيها الوطن العاشق لتواقيت السفر، هاأنك تزرع أشجار التحدّي والرفض في زمن الرداءات وزمن المحن…
معذرة يا وطن السبّار والزعتر والإكليل والزيتون والنخيل والبرتقال، يا وطن السنابل التي تزرع الحياة وتبذر الأمل، معذرة يا وطن الرفض والغضب، إن نحن تألمنا ونتألم لأجل رحيل زهير اليحياوي، حين فارقنا دون وصية ودون أن يكتمل لون القمر، ذاك الذي كان بالأمس يرفع سيف القلم، واليوم رحل عنا ليكون سمادا يروي نبض ذاك الوطن، ونكون نحن لا أقل وفاء من ذاك الذي زرع لغة أخرى، وسكب رذاذ مصطلحات دافئة أحيانا، ومشتعلة أحيانا أخرى، ومنتفضة على كل حروف السكون، وحروف النهي والنفي وحروف الضمّ والفعل المعتل…
معذرة يا ذاك الوطن، إن نحن نعشق البقاء، نعشق الهدوء، نعشق التعبير عبر الحديث الناعم، عبر التحليل المريح، عبر الكتابة المزركشة التي لا تتجاوز المبتدأ والخبر، وننسى أنك وطن تستحقّ منّا أن نكون وقودا وقربانا باهظة الثمن…
معذرة يا ذاك الوطن، يا أيها الذي بين ضلوعك أحرار الوطن، فبالأمس فارقنا ذاك الأسد محمد شقرون، ذاك الذي كان صوته في المحاكم يفوق صوت الرصاص، ومواقفه تشرّف الانتساب إليك يا ذاك الوطن، واليوم نودّع زهير اليحياوي، ذاك الذي كان جيلا آخر، جيل الكمبيوتر، جيل البلاغات الإلكترونية والعرائض الكهربائية التي كانت في أعناق القهر حبلا من مسد..
معذرة يا وطن، إن نحن نسينا أو تناسينا أننا ما خلقنا لنؤدي وضيفة الأنعام، ولا أن نكون ونحيا كما تحيا الأغنام أو كما تعيش البقر، معذرة يا وطن، يا أيها الراحل الغائر في الجسد، القاطن في العيون في الشرايين وفي مفردات الجمل، يا أيها المفتت بين أخاديد الصمت، الشامخ بين ذبذبات القلم، معذرة يا ذاك الوطن إن نحن يذبحنا الحزن ويصفعنا الألم، لأجل زهير اليحياوي ذاك الذي رحل فجأة، دون أن نسمع منه سوى أنين قلب متعب بحمّى الوطن…
معذرة يا ابن بلدي إن كان عمرك جدّ قصير وسفرك طويل، وحلمك من العيار الثقيل، وكنت تشتغل فوق الصمت المستحيل، وفوق براكين العرائض والبلاغات والخبر، ذلك لأن قلبك لم يكن من مادة البلاستيك ولا من حجر…
لقد كنت يا ابن بلدي تقيم معسكرات تدريب بعيدا عن أنظار الحكومة، لتعلم الجيل القادم كيف تكون الثورة بالأظافر، وكيف يكون القصف خلف الحواسيب وعبر الأصابع…
لقد كانت الكتابة عندك يا ابن بلدي عصيان وتمرّد وخروج عن النصوص الخرساء، وانتفاضة على تصلب شرايين قوانين الاستثناء..
كانت الكتابة عندك زجاجا مهشّما وجملا اعتراضيه وفعل استشهاد، ومن أجل هذا كله، ومن أجل عدم الفرق بين جغرافية الوطن، وجغرافية الأرض وجغرافية الجسد، ومن أجل أن تبلل الأرض بأمطار الحرية، ومن أجل التمرد على ثقافة القطيع وانصياع القطيع، ومن أجل أن لا تكون فتات ورق ونواصي أقلام، اخترت أن تكون تصادميا، اخترت أن تكون مشاغبا، اخترت أن تكون مسافرا في الهواء الطلق لتكون عنوان الجمهور، وتكون لون كتابتك بلون تعب الرصيف، بلون سمرة وجوه الكادحين، بلون أحلام الفقراء والمحتاجين، بطعم مرارة القهر وعطش السنين،
لقد كنت يا ابن بلدي من المسافرين في التعب وتعب الكتابة، لتقيم خياما لذاك الجيل الآتي من مواقع الرّفض، والآتي من حدود الشمس، لينتفض على ريش الظلام، وواقع الخراب، وزمن السراب وتجمّد صناديق الانتخاب…
لقد عشت يا ابن وطني انقلابيا ككل الانقلابين ضد تعليب الإنسان، ضد تزوير الأوطان، ضد الرسوب في نفس المكان…
لقد عشت مشاغبا، كما كل المشاغبين ضد سلخ جلد المواطن العربي وضد استعمال جلده في صناعة الأحذية المهرولة، لمعانقة السفاحين بالأحضان…
للمرة الأولى يا ابن وطني تتسابق مع كل الثائرين ضد تبييض دم الأبرياء، للمرة الأولى تصل منفردا إلى حدود التماس، لتدخل الزمن “الانترنيتي” العربي، وتؤسس جغرافية الرفض بالأزرار، وتسافر سباحة دون جواز عبور، ودونما وثائق ولا تراخيص مرور، لتنحت زاوية وطن مهربا بين ثنايا المواقع، مموّها تحت اسم مستعار، مستيقظا خلف رسوم كهربائية وجمل مغناطيسية، ومفردات من رصاص….
لقد كانت يا ابن بلدي مخالب الصمت حادّة وطويلة، وكانت الكتابة عندك وعند كل الشرفاء في ذاك الوطن لها أظافر، تتصدّى لكل أولئك الجلادين كي يكفون عن أكل اللحم الحرام، كي يكفون عن التمضمض بدم الفكر، والاغتسال بعرق الفلاحين وتعب المزارعين ، وكل الذين يشقون كثيرا من أجل فتات رغيف ، وتكون كغيرك من المهربين الصاحين الذين لا يغلبهم النعاس، وتكون المادة المهربة لديك ولديهم وعند كل الأوفياء، قطعة وطن، وصراخ جياع، وأحلام سمراء، وأنين موقوفين، ورطوبة معتقلات، وأوجاع مساجين وعيون أطفال ينتظرون عودة الآباء….وتكون الكتابة عندك وعند كل المؤمنين بنحت العقل والتغيير، تحوّل من حالات الرماد إلى حالات النار، والحروف استفزاز للمقاهي المتثائبة في وضح النهار، والتعابير رصد لحالات الضياع وغليان الرصيف وثورة طوابير الجياع…
قد يكون يا ابن بلدي الحديث عنك وإليك وإلى العميد محمد شقرون، والى الأستاذ محمد عبو، وإلى شباب جرجيس وإلى الطلبة والأساتذة الذين تظاهروا في الشوارع وأعلنوا الرفض والعصيان من أجل أن لا تلوث تراب الوطن أحذية شارون زعيم القصف والتدمير والنهب والخراب، وكل الذين كانت أقلامهم وأصواتهم وأجسادهم جسرا للعبور، وجدارا عازلا ضد هبوب رياح السموم، ضد زيارة سفّاح صبرا وشاتيلا… قد يكون الكلام عن كل هذه المشاهد حديث مبتور، كما الكتابة أكثر وجعا عن أولئك المنفيين المطاردين داخل أوطانهم، كما التعابير مالحة والحروف معطوبة عن أحوال السجون والمسجونين، كما الألفاظ عطشى، والسطور كالحة حين نسجّل ما تعانية جريدة الموقف (4) من محاصرة وغبن وتجويع وحرمان، وكل أسبوع تولد فوق كوم من زجاج، بين فواصل التحقيق والاستجواب، لتكون الولادة خنجرا في جسد صحافة الأخشاب، وتعويذة لطرد جرائد الشعوذة والأشباح، وعنوانا يخترق صحافة البطون، وتكون الكتابة والعناوين والتحاليل والأخبار، تحوّل من حالات التجمّد والصقيع، إلى حالات التدفئ والفعل وصناعة الوعي بين أكفان الصمت وجدران السكون، على عكس أولئك الذين يدبّون على الأرض و!
هم أموات إنهم، ميتوا الإرادة والإحساس، متغيبون عن الفعل والإنجاز، مستقيلون عن التاريخ ودون اهتمام، هؤلاء هم الميتون عراة ودونما كفن،.الذين عاشوا ويعيشون بلا آثار ولا سجلات، ليس لهم من همّ سوى ملأ الجيوب والبطون، واختزال الوعي وتدمير العقول، متناثرون كما ذباب النفايات، متساقطون مكتنسون كما تكتنس أوراق الشجر، يشمئزّ منهم التاريخ، تشمئزّ منهم الأرض والعرض والتراب والنبات، كما تشمئزّ منهم قوافي أحمد شوقي حين قال:
سقط الحمار من السفينة في الدجى
فبكى لفقده الرفاق وترحّــــــــموا
وفي الصبيحة أتت به موجة
قالت خذوه فإنه لا يهضــــــــــــم
وفي المقابل هناك من يكتبون التاريخ بأقلام من فولاذ، ليضلون صداعا مزمنا في رؤوس كل المتمضمضين بأحلام الجماهير…
عفوا مرة أخرى زهير اليحياوي، عفوا يا ابن وطني إن تاهت بي المفردات واعتصرتني الكلمات، واجتاحتني بعض حالات هذيان في الرعب والحرية، وتلكأ قلمي في واقع الرماد العربي، وتعثرت حروفي في واقع القحط العربي والزمن الهزائمي، فرغم كل حالات العجز الجنائزي وحالات الرماد الضبابي، لا زال في سماء وطني بريق من الأمل، الذي قد يبشّر بمواسم الخصب وليالي الحصاد، فدعني أنقل لك بعض الومضات التي تزرع الأمل وتنتصر على روائح النفايات، ودعني أبدأ بالقول لأقول لذاك الأسد العميد محمد شقرون، ذاك الذي عاش متمرّدا على زمن السبات والسكون، وثائرا على قطّاع الطرق المغيرين على الرأي الحر وحرية التعبير، وإقطاعيي الكلمة الواعية ونصوص التغيير، ومؤمّمي الفكر السياسي، أنك يا سيدي زرعت بذور الكبرياء، وأسّست مدرسة للرأي الحر، ترفض التطبيع والانحناء، لينبلج من رحم القهر والأحزان، جيلا من محامي الكرامة والضمير، الذين تخندقوا ضد زيارة مدمّر غزة ويافا وحيفا وجنين… وكل تلك المدن الفلسطينية التي يلوكها الخراب وتمضغها الجراح، وأضحوا عنوان الرفض وصوت الجمهور، وصار لذاك الوطن جدارا عازلا ضد تسرّب النفايات، ضدّ استنساخ الهوان!
، ضد طأطأة العيون وابتلاع اللسان…
لعلك يا أستاذ شقرون كنت وأنت في تلك السنين العجاف، سنين المحاكم العسكرية، والقوانين الاستثنائية، والإعتقالات الجماعية، والتهم المجانية، وتضخّم الحالة الأمنية، تدرك أن سقي العنب والكروم يحتاج إلى سنين وأعوام، وأن الانفصال عن الدفاع عن حرية الرأي وحرية الكلمة، تماما كما الانفصال عن جاذبية الأرض وجاذبية التاريخ وجاذبية العرض، وأن عشق الوطن لا يمكن إلا أن يظل سعالا مزمنا في الأجساد والضمير، وأن الأرض تدور ومن سره زمن ساءته عصور، وأن تحرير العقل، وتحرير الوعي، وتحرير الرأي، وتحرير الفكر، وتحرير الحرف، يتطلب أعواما وسنين وشهور، وأن الإيمان بدولة الإنسان، تستوجب التضحية وتحمل المشقة، وكل أصناف التعب والأرق وأوجاع الضمير،
لقد كنت أستاذ شقرون من جيل الآباء الذين اشتغلوا كثيرا في صمت ودون أضواء، واخترقوا لهيب السعير، ورغم الحصار رغم غياب وسائل الإعلام، وقبل أن تنتشر لغة الكمبيوتر، والمواقع الكهربائية والحروف الضوئية، التي تتجاوز الحواجز الأمنية، وتخترق دوريات الجمارق الحدودية، وفرق التفتيش عن الكلمة المهرّبة لتستقر في الذاكرة الإعلامية ، ومع ذلك فقد استطعت أن تنتصر على نسيج الظلام، وتجسّد رباط الرفض والتواصل والبقاء، وكنت حلقة الوصل بين جيلك والمتخرّجين من مدرسة الكرامة ومواقع العقل المستنير، وجيل زهير اليحياوي الذين يرفعون الأقلام والأصوات ويفتحون نوافذ الحوار، ويقيمون المنتديات لأجل التحصّن ضد الزكام السياسي، والتلقيح ضدّ الهتاف والانحناء، وتكون أنت ومثلك زهير اليحياوي، ومثلكم من الوطنيين الأحرار من الزارعين لأشجار الحرية، التي قد تحمي الأرض والنبات من الانجراف السياسي والتشقّق والتخريب، ليستظل تحت سمائها كل المتعبين المثقلين بهموم الحرية وهواجس التغيير، واللاجئون على أبواب الوطن، والمنفيون داخل وخارج الوطن، والمتسولون في ديارهم دونما وطن، كي لا يواصلون عزف المواويل الأليمة، ولا يرسمون لك السنفونيات الحزينة، كما مثل هذه المقاطع المعبّرة عن شدة التفجّع في ترجمة ملوحة أمانينا:
يا ساقي الحزن في وطني
دعني وجرحي فقد خابت أمانينا
كم من زمان كئيب الوجه فرّقنا
واليوم عدنا وعاد نفس الجرح يدمينا
يا سامر الليل تمهّل ولا تتعجّل
ففي وطني نهر من الحزن يجري في مآقينا
لا الخطب تنفعنا ولا البيان يسعفنا ولا الكلام يجدينا
يا سامر الليل لا تسأل عن أمانينــــــــا
ففي وطني معتقلات وسجون ومئات المساجين
وما عادت الخطب ولا الوعود تداوينا
* هذا المقال مهدى إلى الزميل الصحفي زهير اليحياوي بمناسبة الأربعينية
(1) زهير اليحياوي: هو مؤسس موقع منتدى TUNeZINE (www.tunezine.com) في جويلية 2001 وكان يمضي باسم مستعار ” التونسي
سجن في 4 جوان 2002 من أجل هذا الموقع السياسي الحقوقي، أطلق سراحه في 18 نوفمبر2003، نتيجة تحرّك إعلامي وحقوقي كبير،
توفي رحمه الله بتونس وهو في سن السابعة والثلاثين، على إثر سكتة قلبية صبيحة يوم الأحد 13 مارس 2005 شارك قبل موته في مؤتمر القمة العالمية للمعلوماتية، الذي أقيم بجنيف،وممّا ذكره هناك على سبيل المزاح النقدي، وقد أسرّ بهذا لأحد الأصدقاء الصحفيين الذي ذكر لي ما رواه زهير اليحياوي أنه قال: أتدري يا صاحبي، كم أشتهي الدخول إلى أحد السجون السويسرية، لأني سمعت أنهم في هذه السجون يخيّرون النزلاء ، إن كانوا يحبّذون الخضار أو اللحم أو السمك، وأضاف مازحا دلني على طريقة أدخل بها إلى السجن السويسري، لأتمتع بميزة حرية الاختيار..
(2) محمد شقرون/ محامي وأستاذ جامعي عميد المحامين سابقا، أحد وزراء حكومة الاستقلال الأولى مستقيل، من أهم رجالات القانون وأبرز الوطنيين المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات العامة، شخصية وطنية مستقلة، تحظى باحترام وتقدير كل الأطياف السياسية والعائلات الفكرية، وهو الرئيس الشرفي للمجلس الوطني للحريات بتونس، والرئيس الشرفي للجمعية الدولية للمساجين السياسيين، والرئيس الشرفي لمركز استقلال القضاء، والرئيس الشرفي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية…
توفي رحمه الله في 11 جويلة 2004 وهو يبلغ من العمر 86 سنة.
(4) الموقف / جريدة أسبوعية تصدر داخل تونس، تتسم بالجرأة السياسية، مفتوحة لمختلف الشرائح السياسية والفكرية والثقافية للتعبير عن بعض رؤاها، تتجاوز عقد المساحة الحزبية، محرومة من الدعم والإشهار، وكثيرا ما تتعرض للمساءلة الأمنية والمراقبة…
المصدر جريدة الموقف التونسية العدد 311 بتاريخ 6 ماي 2005
iThere are no comments
Add yours