بقلم د.خالد الطراولي
هل مازال للحديث حول المصالحة طعم ومذاق؟ لو طوحت برأسك يمينا، وشمالا، شرقا وغربا، لنالك العجب من كثرة ما كُتب حولها، وعدد الأقلام التي خطتها والأصوات التي أطلقتها، طلبتها الضحية وهي مرمية وراء القضبان أو من وراء البحار، وهمشها أو رفضها وتنكر لها السجان. كتب فيها القاصي والداني، سمعنا المنادين بها من وراء الحدود، ومارسها الشمال والجنوب، آخرها وليس آخرا جيران الأمس والغد، الجزائر تعلن الوئام الوطني وليبيا تبث عبر كلمات أطلقها ابن العقيد عن طي صفحة وفتح أخرى مع الإخوان، ولم تبخل المغرب قبل ذلك عن فتح ملفات التعذيب ولو باحتشام.. وأقسمت المصالحة أن لا ترتاد ديارنا وأن لا تخط طريقا في حياتنا.
لكن المصالحة ليست قضية أذواق وترف فكري، ولكنها مصير أفراد وأسر وجماعات وشعب. وهذا ما يجعل الحديث عنها واجبا مقدسا يتطلب الكثير من الجرأة والشجاعة وسلامة السريرة والمقصد، ويدعو إلى الثبات عليها مبدأ أصيلا، والصبر على الأخ والصديق، والحِلم على الرافض أو المشكك والمستخف.
تونس الخير لن تبنى على الكراهية والبغضاء، تونس الخير لن تر النور وبعض أهلها في الظلام، تونس الخير للجميع أو لن تكون!
خوفي أن يصبح الحديث حول المصالحة رتيبا مملا عاجزا، تشتم منه رائحة الإحباط والأمل المفقود والانسحاب…
خوفي أن تطال أصحاب المصالحة أصابع الاتهام والتخوين، والحكم على السرائر وما تخفي الصدور، وتصبح المصالحة مساومة، يشتم منها رائحة الخيانة والعمالة والتذلل والاستسلام!
خوفي أن تكون المماطلة في حقها سياسة، تطأ المبادئ وتبحر على أمواج من الدموع، و لا يهمها اللون الأحمر الذي يحفها من كل جانب وفي كل حين…
خوفي أن تبنى الطموحات والدرجات والمسؤوليات والمراتب على ظهرها وفي غفلة من أهلها…
خوفي أن تنتفض الضحية وأصحاب الضحية، وينتهي الصبر الطويل والحِلم العجيب، وتظهر ردات الفعل وينفلت الزمام، وتُنسى حروف المصالحة، ويُنسى هل تكتب شمالا أو جنوبا، وتُفتح أبواب جهنم بعد أن كان سياج التعقل والصبر والرشد يحمي السجان والضحية…
خوفي أن يرتج البنيان ويقع المحظور، وتدخل تونس في متاهات يعرف أولها ولا تعرف كوابيسها ولا كهوفها، ولا المصير الذي تلقاه…
السلطة والمسؤولية العظمى
إن مصير تونس اليوم و ولعله مستقبلها ومصير المصالحة أحببنا أم كرهنا، نسينا أو تناسينا، أخطأنا أو أصبنا، مرتبط أساسا بالسلطة التونسية، والحل والعقد بأيديها. المبادرات تعددت من ضفة الضحية وأصحاب الضحية، وانعدمت من الضفة المقابلة، الصدور كلها مفتوحة والأيادي كلها ممدودة والجميع ينتظر…
إن مسؤولية السلطة أمام التاريخ كبيرة، وهي إن أرادت دخوله من الباب الكبير فهذه فرصة لن تعوض. فالأيام دول “وما يدوم حال” كما يقول التونسي الأصيل، فالإخوة الأفاضل الرابضون وراء القضبان من الأستاذ الكريم حمادي الجبالي إلى الأستاذ المناضل محمد عبو سوف يغادرون يوما هذه القبور ولا شك، رغم طول الليل وتعسف السجان، والسلطة قادرة أن تسطر خطوطا جديدة من ذهب، وأن يدخل رئيسها إلى التاريخ من باب صلة التراحم والعفو عند المقدرة وتجاوز الأحقاد!
إن مسؤولية السلطة أمام جماهيرها ليست بالهينة حتى وإن غلب الصمت والانسحاب، ولا يعني دائما صمت الطبيعة وتغريد الطيور تواصلا للربيع، فتحت الرماد الرهيب، والعواصف والزلازل قلّ ما تنذر بالحدوث. هل تظن السلطة أن قضية المساجين والمصالحة الوطنية لا تعني الشعب التونسي، وأنها قضية مفتعلة يرفعها الصائدون في الماء العكر في صالونات الشاي أو على شاشات الانترنت أو على نهر السين أو التاميز؟ تخطئ السلطة إن عاشت على هذه الأوهام، فهذه الجماهير على صمتها في الظاهر تعيش واقع التذمر وتعبر عنه بعالم النكات والاستهزاء وهي تعلم حالة الغبن والجور التي طالت جزءا منها. إن الشعب التونسي الذي عرفته عن قرب مهما قيل عن انسحابه، مهما قيل عن ثقافة الاستهلاك وعقلية “الله ينصر من اصبح” فهو يبقى أبيا وفيا صامدا، تاريخه البعيد مليء بالوقوف والنضال، وأمسه القريب لم يبخل فيه عن مواجهة الاستعمار، وحاضره ولد رجالا عظاما يعيشون المنافي والسجون. إن هذه المسؤولية التي تحملها السلطة تجاه شعبها من التمكين للأمن والاستقرار، تبدو مهزوزة إذا بقي جزء من هذا الشعب يعيش نصف مواطنته أو أقل.
إن مسؤولية السلطة أمام الله عظيمة، والحديث في هذا الباب يتجاوز السياسة والسياسيين ويدخل بنا في مقامات رفيعة، لعل البعض يعتبرها مثالية والبعض الآخر يهز رأسه استخفافا ويعتبرنا نعيش في الأحلام… لكني أجزم أن الحديث إلى القلوب وإن اسودت أطرافها، وتجاوز العقول في بعض الثنايا والمحطات، قد أثبت في الكثير من الأحوال جدواه رغم نسبيته… إني أتوجه إلى هذه القلوب مرة أخرى، والسلطة قيادة وقاعدة تعيش رحمة الأبناء وهم يدخلون عليهم من كل باب، تعيش رحمة الآباء وهم يلاعبون الأحفاد، تعيش رحمة الزوجة والسكينة والعشرة… هذه النعم التي يعيشها البعض قد استحالت على البعض…كم دمعة ذرفت وآهات أطلقت، كم وليد شب دون رؤية أبيه، كم صغيرا عاش يتيما وشب يتيما والأب “حي يرزق” من وراء القضبان… كم شيخا بكى ألما وشكا إلى السماء ظلم العباد… كم عجوزا غادرت هذه الدنيا والحسرة في صدرها، لم تر ولدها ولم يحظر جنازتها…أحزان فوق أحزان، وآلام وفواجع وسواد… ومسؤولية أمام الله!.. يقول بن الخطاب رضي الله عنه : لو عثرت بغلة بالعراق لسألني الله عنها يوم القيامة لما لم تعبّد لها الطريق يا عمر؟؟؟
هذه مسؤولية السلطة وهي كبيرة ولا شك، وهي الماسكة بخيوط التواصل أو العدم، لكن هذا لا يلغي مسؤولية الجميع، لا يلغي السعي والمبادرة والثبات، ولو انعدم التواصل ورفض الطرف المقابل إلى حين، مصافحة الأيدي الممدودة… مسؤولية السلطة على عظمتها لا يسحب المسؤولية عن كل فرد ومجموعة للبحث عن منافذ وأبواب، دون تذلل أو انبطاح أو مساومة للمبادئ، ولكن دون بناء الأسوار العالية ورفع السقوف التعجيزية!
من هذا الباب، باب التواصل والثبات، يدخل “اللقاء الإصلاحي الديمقراطي” على الخط، بعيدا عن ردات الأفعال، عسى أن يساهم في هذا المشوار الحضاري ويدفع إلى تنحية الضباب وتجلية الظلام وملامسة الأنوار…
iThere are no comments
Add yours