الجزءالثاني : “اللقاء” والدور المنشود
د.خالد الطراولي
السلطة والحاجز النفسي
لا يختلف اثنان أن عقدة المصالحة تجد خيوطها مباشرة في قصر قرطاج، وأن رئيس البلاد هو المحدد والحاكم في تغيير بوصلة التعامل مع هذا الملف. ولكم ينال المرء العجب وهو يرى تواصل المأساة وتواصل اللامبالاة ويتساءل لماذا هذا التشدد؟ لماذا هذا الانسحاب؟
لقد كان الصراع بين المشروع الإسلامي والسلطة حريقا هائلا طال النفس والنفيس وكان في ظاهره صراعا سياسيا عنيفا لكنه أخفى صراعات ثلاث نرى أنها حددت مصير العلاقة، ويجب الوقوف عندها بكل صدق ودون لف ودوران.
كان الصراع الأول صراعا بين مشروعين للحكم، وساهم الطرفان في عدم السعي إلى بقائه حضاريا خارج لعبة تكسير العظام. وإذا كان نصيب النظام كبيرا في انطلاقة الصراع وخروجه عن المعقول ودخوله حلبة التلاكم والجراح، فقد ساهمت الحركة الاسلامية في عدم تدرجها في منهجية التمكين وسعت اضطرارا أو اختيارا إلى تواجد قطبية وشبه ندية مع النظام، حتى غلب على المشهد السياسي طرفان يملك أحدهما قوة الدولة والحزب، وظن الآخر أنه يملك قوة الشارع، وغلبت نظرية الاكتساح في وعي الفرد الإسلامي ولو لفترة من الزمن، على القبول بمحطات يمكن أن تطال الأزمنة والأجيال، ووقع المحظور. لم تسمح النوايا الديمقراطية الوليدة، وعلى هناتها، أن تتعدد الرؤى بعجالة وأخفق الإطار وسرعان ما تغير لونه وطعمه ورائحته ووقعت المأساة.
وكان الصراع الثاني أو الوجه الآخر المخفي من الصراع، أنه انطلق كصراع وجود بين الطرفين، وليس صراع حدود ومواقع. كانت لغة الإقصاء تعبر عن هذا الانحراف “معاهم ولاّ معانا” “أحنا ولاّ هوما”. كانت منهجية التغيير القسري للسلطة بابعاد الرئيس السابق، سواء من طرف الحكم الحالي وقد نجح فيها وكانت 7 نوفمبر، أو ما فشلت فيها الحركة حسب بعض الأقوال والكتابات… ولم يكن 8 نوفمبر! كانت هذه المنهجية العنيفة منهجية إقصائية ولم ير التاريخ الحديث حالة تغيير ينطلق من الثكنة على ظهر دبابة ويسلم مفاتيح البلاد إلى غيره ويحي الجماهير ثم يعود بدبابته إلى ثكنته ويغلق بابه! وليست حالة سوار الذهب في السودان إلا حالة “شاذة” تؤكد القاعدة في شمولها.
فكان التغيير العنيف للسلطة في تونس ولو ماشابه من تغليفة طبية وضرورات استعجالية معبرا منذ البداية على منحى اقصائي، فمن تجشم كل هذا العناء وخاطر بنفسه وذويه لا يقبل أن يهدي للآخرين ما تحصل عليه على طبق من فضة ودون مقابل باهض! ولم تعقل الحركة الإسلامية هذه المعادلة وهمشتها ولم تدمجها في كرها وفرها وأرادت الهرولة حيث وجب المشي، وسعت إلى التقدم حيث يلزم التوقف، وفضلت الانفراد حيث كانت أولوية الاستناد ولو على عكاكيز أصلها غير ثابت وفرعها لم يغادر الأرض، فكان الاستفراد وكانت المأساة!
لكن صراعا ثالثا ظل مخفيا ونراه محددا فيما بعد ولا يزال… وهو ما تجليه قراءتنا المتواضعة للواقع، بما تحمله هذه القراءة من خطأ وصواب، هو صراع بين الأهرام، بين رؤوس المشروعين وقممه، مما ولد حاجزا نفسيا يصعب تجاوزه إلا بسقوط أحد الأطراف، أو بدخول طرف ثالث في اللعبة ينتمي إلى مشروع مستقل، ويعيش استقلاليته كاملة منطلقا وأفرادا، حاضرا ومستقبلا، لا يحمل إرث التاريخ المعقد، والمليء أطرافه بالسواد وسوء الفهم ، ويحمل مصداقية الفعل والنظر، حتى ينال ثقة الجميع ويكسر هذا الحاجز النفسي، دون أن تتكسر العظام أو يتواصل مسلسل التهشيم.
إن “اللقاء الإصلاحي الديمقراطي” يسعى لأن يكون هذه الأداة الحضارية، التي تريد إسقاط هذا الحاجز النفسي، ويجعل من نفسه إطارا صالحا للتجاوز والبناء، وهو يمد يده دون تذلل إلى هرم السلطة، داعيا إلى الحوار البناء والصادق من جديد، بعيدا عن خلفية المؤامرة أو القطبية أو الأحكام المسبقة أو الاستعلاء.
“اللقـاء” والوعاء السياسي
قيل أن قضية المساجين ليست حكرا على أحد فهي قضية وطنية بالأساس وهذا ما نادينا به دائما، وسوف لن ننسى القليل القليل ممن ذكرها في أيام المحن وسنين الجمر حيث كان أصحاب المشروع الإسلامي يعيشون لوحدهم الظلمات والمعازل والدموع والدماء! ونحمد الله أنها أصبحت اليوم قضية عامة يتبناها الصغير والكبير من أقصى اليمين وأقصى اليسار…
قيل أن ازدواجية الخطاب وعدم وضوح الرؤى والمواقف لبعض أصحاب المشروع ساهم في سحب الثقة و نزع الطمأنينة وهيمنة التوجس والريبة لدى السلطة، ولعل في هذا بعض الصحة في الأيام الخوالي، لكن البعض من الشخصيات والكثير من الأصوات المطلوقة أو المكممة ومن الحبر المسكوب ظلت ثابتة على خط المصالحة دون زعزعة أو تلون أو مكر أو دهاء وما المبادرة التي طرحها صاحب هذا المقال إلا جزء من الزخم الذي نشأ صغيرا ثم كبر، حتى أصبح في الأيام الأخيرة منهجية عامة وخطا ثابتا لدى الجميع نتمنى أن لا يطاله مجددا الانحراف.
لعل المصالحة ينقصها الوعاء السياسي الجاد والمرتب والواضح منهجا وأفرادا ومصداقية لدى كل الأطراف، ورغم أن المصالحة الوطنية الشاملة كما رأينا أصبحت هما مشتركا للجميع ولا ينقصها مصداقية طرف أو جديته غير أننا نقول للسلطة التونسية من منطلق مبدئي ودون سياسوية و لا طمعا في مركز ومكانة ولا نريد عليها أجرا ولا شكورا، أن اللقاء الإصلاحي الديمقراطي يمكن أن يمثل هذا الوعاء السياسي للمصالحة، ويدعوها بكل صدق وأمانة إلى الدخول في هذا الحوار مع قيادته على صفحة بيضاء، وحول محطات متدرجة ولكنها جدية وثابتة، منها الاستعجالي الذي لا ينتظر ومنها الذي نسمح تدرجه حتى نعطي للبلاد فرصة للتراحم والعفو والعمل الجماعي مجددا من أجل خير تونس وكل التونسيين مهما اختلفت مشاربهم ومواقعهم وأفكارهم.
ملاحظة : لمراسلة “”اللقــاء الإصلاحي الديمقراطي” في انتظار إنشاء الموقع الخاص للحركة الذي لن يتأخر ظهوره، يستطيع الإخوة والأخوات استعمال البريد الكتروني التالي :
Liqa2005@yahoo.fr
iThere are no comments
Add yours