الجــــزء الثالث : التعددية داخل المشروع الإسلامي التونسي،
ممر نجاة أم تكبيل وعرقلة؟
د. خــالد الطراولي
التعددية الإسلامية داخل الإطار التونسي
هذه التعددية التي طالت الزمان والمكان، تاريخا وجغرافيا عند غيرنا، وجنبت المشروع الإسلامي أحادية الطرح والفكرة والبناء، غابت بعض الشيء، أو هُمِّشت في الإطار التونسي. فكانت محاولات اليسار الإسلامي وغيرها، تجارب معدودة وضيقة، مجهضة أو متعثرة، حاولت تبين طريقها خارج التنظيم الأم، وسعت إلى التعويل على ذاتها، سواء في بناء تنظيم وفكر موازي ومشروع فكري، أو البقاء في معقلها ونتيجة ظروف خاصة، محاولة توليد خطاب جديد وتصور آخر للعلاقة بين السياسي والديني، ولكن لم يكتب لها الدوام أو التواصل، وتهمش مردود البعض، وتفرق البعض الآخر وترك آخرون الشأن السياسي عموما.
لقد تميز المشروع السياسي التونسي ذو المرجعية الإسلامية ولا يزال، بهيمنة فصيل واحد، استطاع أيام النعمة وفي أيام المحنة أن يبقى موحدا رغم بعض الاختلافات التي لم تستطع أن تطأ برأسها خارج الجدران، وأن يجمع تحت أجنحته كل التوجهات الإسلامية وعمل على اندماجها داخل بنيانه. ولعل أسبابا عديدة تميّز بها النموذج التونسي قد ساهمت ولا شك في هذا التفرد، نذكر منها أساسا:
الانطلاقة الدعوية للجماعة الإسلامية في بداية مشوارها وابتعادها عن البعد السياسي،حيث غلبت على الساحة التونسية مقولات اليسار ومصطلحلتهم ونقدهم لسياسات البلاد، وبقي الإسلاميون في بداية تكونهم بعيدين عن هذا المنحى السياسي قولا وفعلا، مما جعل الحركة تستطيع أن تؤو كل أطراف الظاهرة الإسلامية التي بدأت تتململ في بداية السبعينات، من تبليغ وصوفية وزياتنة وطلبة جامعيين وتلاميذ ثانوي وحفظة قرآن ومعلمي الكتاتيب.
الخلفية العقائدية الواحدة المبنية على تصورات أهل السنة والجماعة، والتدين الواحد المرتكز على المذهب المالكي. وقد ساهم هذا البعد ولا يزال في رص الصفوف وتجنب الخلافات العقائدية أو الطائفية أو المذهبية، وهي ميزة يتمتع بها المجتمع التونسي وحالت دون تفرقه وتشرذمه.
المرجعية الفكرية الواحدة المبنية أساسا على الثقافة الإصلاحية المشرقية قديما وحديثا من اعتبار مبدئي لرواد النهضة ومشاريعهم التغييرية، وتأثر كبير بفكر مالك بن نبي الحضاري وبالفكر السياسي والاجتماعي للحركة الإسلامية السودانية وخاصة مسألة المرأة ومشاركتها المجتمعاتية.
الخلط الذي وقع بين الإسلام كدين وعقيدة وبين الحركة الإسلامية كطرف سياسي له اجتهاداته وتأويلاته التي تنزع عنه كل عصمة وقدسية، حيث كان الانتماء الحركي يخيل عند بعض الأفراد تطابقا للانتماء العقائدي، فينجر عن الانسحاب من الأولى زعزعة واهتزاز للثانية، يقارب بين حالتي الإيمان والكفر. وقد ساهمت عديد الأطراف في بروز هذه الحالة وطغيانها ، فالسلطة سعت من وراء هذا الخلط إلى ضرب عصفورين بحجر واحد، باجتثاث الإسلام السياسي وإعدامه من الخارطة السياسية والاجتماعية، وبمواجهة التدين في البلاد عبر سياسة تجفيف المنابع. كما دفعت أطراف عديدة من المجتمع المدني إلى هذا الخلط حتى تسوي حسابات قديمة مع الظاهرة الإسلامية وتستجيب في الآن نفسه إلى مطالب أيديولوجية وعقدية تحملها. كما لا يجب تنحية المسؤولية عن الحركة الإسلامية نفسها، التي سعت بوعي أو بغير وعي إلى أن تكون الممثل الشرعي والوحيد للإسلام في البلاد.
نحو ميثاق شرف للتعدد
إن الاختلاف رحمة وضرورة حياتية، إذا روعي أدبه وأخلاقه وأهدافه السامية، وهو مجلبة للنجاح إذا وقع احترام دعائمه الفكرية والأخلاقية. فزيادة على ترك التجهيل والتكفير ومحاكم التفتيش ودخول مناطق الضمائر والمشاعر والنوايا، المحظورة شرعا وذوقا. فقد حصر الدكتور القرضاوي بعضا من هذه الأسس والدعائم، نذكرها لأهميتها في هذا الباب دون التوسع فيها :
الاخلاص لله والتجرد من الأهواء،
التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف،
إحسان الظن بالآخرين،
ترك الطعن والتجريح،
ترك المراء واللدد في الخصومة،
الحوار بالتي هي أحسن،
الاختلاف في الفروع ضرورة،
اتباع المنهج الوسط وترك الغلو،
التركيز على المحكمات وتجنب القطع والإنكار في الاجتهادات، والعلم بالمختلَف،
التعاون في المتفق عليه والتسامح في المختلف فيه.
إن ضرورة إيجاد ميثاق تعامل بين هذا التنوع المثري للحياة الإصلاحية يبدو مهما وكفيلا لعدم تجاوز الاختلاف إلى منازل الخلاف والتوجس والعداء، وحصره في إنعاش الاجتهاد وتعدد الرؤى والتصورات والأطروحات داخل المرجعية الإسلامية نفسها، ويوسع من إمكانيات نجاحها في التعبير الأمثل عن مطالب شعوبها ومتطلبات واقعها. ويمكن بناء خطوط عريضة لهذا الميثاق تحترمه كل الفرق والتوجهات داخل هذا التنوع الإسلامي الجامع :
1.
اعتبار التعدد اختلافا سياسيا ينبع من تنوع الأفكار والرؤى والحلول ولا يتجاوز المناطق المحظورة من تكفير وتجهيل ومحاكم تفتيش.
2.
لا عصمة لفكر ولا قدسية لفرد ولا فرقة ناجية من بين الفرق.
3.
لا يلغ التنوع التعاون بين الاتجاهات وإيجاد قطب جامع وتحالف بينها في لحظات تاريخية معينة.
إن هذا الميثاق ليس حكرا على الاختلاف السياسي فقط، حتى يربط الفرق السياسية فحسب ويحملها مسؤولية التفاعل النزيه والتفعيل الخصب، ولكنه يتجاوز الظاهرة السياسية ويتنزل في كل ما تحويه الظاهرة الإنسانية من تعدد وتميز.
لقد مر على الحركة الإسلامية التونسية حين من الدهر اجتمع لها فيه خمس خصوصيات : وحدة الفكر والعقيدة – محيط اجتماعي وسياسي، إن لم يكن مساند فهو مجامل – شبابية الظاهرة وفرادتها وتميزها – حالة عالمية عامة، غير مستقرة، نظرا لتواصل الحرب الباردة ومستنقع أفغانستان الضاغط – هزائم العرب وانكسار شوكة المد العروبي. ولم تستطع الحركة الإسلامية أن تكون في الموعد، اختيارا في بعضها وسوء تدبير، واضطرارا في البعض الآخر ومكر وعداء.
إن الحالة العامة الجديدة التي يصطبغ بها الشأن التونسي في العقد الأخير، من سنين الجمر والإقصاء والاستئصال والمواجهة، وفي ظل واقع عالمي جديد ومرتبك، ينظر إلى الظاهرة الإسلامية بكثير من التوجس والخوف والريبة، وجب البحث عن الممرات والمنافذ السلمية لتجاوز المضيق داخلا وخارجا. والتنوع والتعدد داخل المشروع السياسي يمثل إجابة حضارية وسبيلا مدنيا للتجاوز. كما يمثل نوعا من تجديد الخطاب، الذي يربأ عن القطبية التي مزقت أوصاله لما وقع الاستفراد به على حين غرة، وعن الأحادية التي ضببت العلاقة بين المشروع السياسي وحالة التدين الاجتماعي، و عن العقلية الفردية التي كثيرا ما تركت بصماتها غير الصائبة على مشروعه وقراراته. هذا الإطار الجديد والمتجدد الذي سوف يعطي للمشروع كثيرا من المصداقية، و من الانسجام بين مطالبه للتحرر والحرية والديمقراطية والتعددية السياسية، وبين واقعه الداخلي الذي بقي في الكثير من مشواره مهادنا للرأي الواحد والتصور الواحد والتنظيم الواحد.
ملاحظة : لمراسلة “”اللقــاء الإصلاحي الديمقراطي” في انتظار إنشاء الموقع الخاص للحركة الذي لن يتأخر ظهوره بإذن الله، يستطيع الإخوة والأخوات استعمال البريد الكتروني التالي :
iThere are no comments
Add yours