الجــــزء الرابع : الحركة والصحوة، والدعوة والسياسة
الخطوط الحمر والحدود الفاصلة [*]
د. خــالد الطراولي
الصحوة ملك مشاع مع بصمات أهل الخير!
ليست الصحوة ملكا لأحد، لا لحزب ولا لطائفة، لا لفرد ولا لمجموعة، وإنما للكل نصيبه في الدفع بها خارج العدم، فللداخل نصيبه وللخارج نصيبه…،
ساهم فيها من كان خارج الحدود في صبره على المنفى وعذابات الفراق والعزلة، ولم ينس يوما وطنا آل ألا يبيعه، وأن لا يرى غيره له الدهر مالكا، وجاهد وناضل صوتا وقلما، وهو ممسك على دينه وعلى حبه لوطنه كالماسك على الجمر، أمام التداعيات والتحدي والضغوطات ومطالب العيش والرزق، يتلمس إشراقة من وراء الحدود، ويدعو بكل ما أوتي من قوة وجاه إلى عدم ترك غصن الأمل يسقط والرجاء يتهاوى. مات الوالد فلم يقدر على مرافقته إلى مثواه الأخير، وبقيت الأم الحنون ولم يقدر على مساواتها، وظل واقفا في ميدانه، ترنو عينه لحظة إلى الغيب وهي تستشرف تدخله، وإلى الحاضر حينا لتشكو ظلم العباد وبعد البلاد..، و تعرض سماحة القلب وتجاوز التشفي، وتضرب موعدا جديدا مع التاريخ، و تبني الأمل في شروق الشمس من جديد ومن مشرقها.. فكانت إرادته و عزمه عونا ودافعا للخروج، وكان صبره أملا لجيل الداخل، و إصراره تفائلا في صدق المسعى ونجاح المسار.
وكان للداخل نصيبه، ولعله الأكثر مساهمة في بروزها وتواصلها، فمنه انطلق التحدي، وعبر جيله الشبابي تواصل الحمل هادئا رصينا، لم يعرف حزبا و لا طائفة، لم يأنس إلى سياسي أو إلى حركي، كان همه الأول هو إشفاء ظمئه من مطالب الروح التي تهاوت، فكانت العودة إلى رحاب الشعيرة والطقوس، وكان اللقاء ربانيا خالصا، كان اللقاء فطري المنشأ، عبادي المصير!
لقد كانت الحركة الإسلامية الإصلاحية الدافع والحاضن للصحوة الأولى ولا شك، ولكنها غابت اظطرار عن ساحة الفعل في انطلاق الصحوة الثانية، وربّ ضارة نافعة، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن الله قدّر! ولكن لا يعني أن هذا الغياب كان عامّا، فليست البذرة التي تركت آثارها داخل البلاد رغم العواصف والرعود قد غابت كليا. فمن كان في سجنه ساهم ولو من بعيد بصبره ودعائه ورفضه للانحناء للجور والعداء، ولعل دمعات حمراء في ليال سوداء على أحجار صماء، قد ساقت الغيب إلى تلبية النداء… ومن كان خارج السجن، كان ماسكا على دينه في ظرف كان التدين مجلبة للبلاء والمنغصات، فمنع بعضه في ثيابه، والبعض في معاشه، والبعض الآخر في سفره وتنقله، وقاست أسر وأفراد..، ورغم ذلك بقي الدين في صفائه وبقي هذا الفصيل محافظا على شعائره أمينا على عقيدته. فكانت معاناته تذكيرا بعدم موت الفكرة وبصلاح العهد وتواصله، وأملا في إعادة ترتيب البيت على أسس جديدة وبرجال جدد. فكانت علاقة الحركة الإسلامية مع الصحوة الجديدة روحية خالصة، تحمل في طياتها مفارقة القرب والبعد، قريبة في همومها، بعيدة في تأثيرها المباشر، ويكفيها فخرا وزيادة ولعل في ذلك كل الخير للصحوة!
ولقد كان للتكنولوجيا الحديثة أثرا كبيرا في مسار الصحوة وفي انطلاقتها، فكانت الفضائيات والإنترنت عامل بناء وتنشئة لهذا الجيل الذي أغلقت حوله أبواب الأرض، فجاء الفرج من السماء، حتى لُقِّب العائدون إلى رحاب الدين بمسلمي الأطباق، نسبة إلى لاقطي القنوات الأجنبية، ولعله فأل خير أن يكون منشأ اليقظة علميا تكنولوجيا في الحمل والإطار، ولعله يؤثر إيجابا على المحتوى وعلى الخطاب وعلى حامليه! فكانت دروس وخطب كل من عمرو خالد على قناة إقرأ، والشيخ القرضاوي في الجزيرة والمرحوم شحاتة على الفضائية المصرية والدكتور السويدان في قناة دبي وغيرهم، كان لهم التأثير البالغ في نحت سلوك جديد وتكوين عقلية جديدة وفي إرساء الأسس الأولى لهذه العودة.
استقلالية وخطوط حمراء وتفهّم
إن هذه العودة التي شهدتها البلاد منذ أواسط التسعينات، تدعو طرفي المعادلة من صحوة قائمة وحركات بارزة، إلى معرفة أدوار كل طرف، والوعي الكامل بحدود التماس والخطوط الحمراء، التي لا يجب ملامستها فعلا ونظرا، والاحترام الكامل لسنن التدرج والفعل الهادئ والبنّاء.
فلا تزال ظاهرة التدين الاجتماعي تنحت مسارها وتسطر طريقها في مناخ صعب وإطار هش ومهتز على أكثر من باب، مما جعلها تتميز في بعض محاورها وتجعل من إمكانية التجاوز والنجاح خليطا فريدا من عوامل الداخل و الخارج. إن فهم هذه الخصوصيات مطية لفهم القطيعة المرحلية الضرورية مع الإسلام الحركي وما تلزمه به من خطاب وممارسات حتى يحدث اللقاء المحتوم على أحسن حال.
فهي صحوة غاب فيها علماء الداخل خوفا أو انسحابا أو اضطرارا في ترشيد ها والإجابة على تساؤلاتها وتبديد حيرتها.
و هي صحوة رغم شبابيتها، غير أنها عمت كل الأجيال ولم تنحصر في جيل دون جيل، ولم تقف عند حدود طبقة دون أخرى، فتجاوزت عوامل الجنس والجهة، والدرجة الإجتماعية والوظيفية، والمستويات العلمية.
وهي صحوة نسائية حيث كانت المرأة رمزا للإسلام عبر حجابها الذي أعلى شأنها وشأنه، وهي حقيقة جديدة ومكسبا لم تحلم به الصحوة نفسها، فحقوق المرأة ودورها الإجتماعي كان الثلمة التي يجب رتقها، وحلقة الضعف الرئيسية في الخطاب الإسلامي وممارساته.. إن ارتباط الصحوة الجديدة بالمرأة في مجال الظاهر لا يجب أن يبقى حبيس قطعة قماش، مهما علا شأنها، ولكن أن يدخل العقول والمنهجيات، ويعطي لهذه الإضافة الجديدة والحاسمة الدور المستقبلي المستقل والفاعل والعادل للمرأة داخل المشروع الإسلامي عموما ظاهرة وحركة. وهي صحوة قد عبرت منذ انطلاقتها على نهجها المدني والمسالم في التواجد والتوسع، لم تسع إلى مواجهة أو رد فعل رغم تعدد الاستفزازات والإثارات وتراكم السحب والمغالطات وقتامة الوضع و خيرت المصالحة مع واقعها ومع أطرافه، وظلت ترسم طريقها بهدوء رغم توالي الهضاب والمنعرجات والتضاريس المعادية.
إن هذه الخصوصيات الخمس تدفع الإسلام الحركي إلى تفهم الصحوة دون الاقتراب منها وتوجيه خطابه وممارسته وآلية عمله الداخلي والخارجي و تهيئة إطاره وعقليته وسلوكه بعيدا عنها.
لقد قاست ظواهر التدين مما لحق الإسلام الحركي في نزاله السياسي مع السلطة القائمة، ولقد نالت سياسة تجفيف المنابع من مواطن التدين في بعض البلاد، وفتكت بأوصاله وألحقت به أوجاعا وضربات كادت تؤدي بحياته، وفي ظل ظلمات بعضها فوق بعض، وفي سواد بحر لجي، وفي إطار من الموت الجماعي…سجون ومنافي، جيل يكاد يختفي، وجيل آخر يطرق الأبواب، تهل الصحوة الثانية تحمل بياضا وعذرية وفطرية واستوطنت بكل هدوء البلاد…
إن مشوار الصحوة مازال في بداياته وأن نقلات منهجية وتعاملية تنتظره بعد اجتيازه لمرحلة التدين الشعائري، ولا سبيل إلى نجاح مسارها إلا بعلاقة حذرة ومتميزة ومستقلة عن الإسلام الحركي استقلالا تاما لا لبس فيه، دون تسرع أو اعتداء، فللصحوة رجالها وعلمائها وأبنائها، وللحركة قادتها وخطابها وأصحابها.
وإذا كان الإسلام الحركي قد حضن الصحوة الأولى وأطّرها ووظّفها في بعض البلاد، اضطرارا أواختيارا، ونتج عنه أن عمّ البلاء كل المنازل ولم تنج الصحوة لا من السندان ولا من المطرقة، فإن فرادة مستقبلية بدأت تفرض نفسها.. وهو أن تحضن الصحوة الإسلام الحركي احتضانا غير مباشر، بما تعنيه من توجيه رؤاه وتصوراته وآلياته وتحالفاته ومواقفه، دون أن يلامس أي طرف تلابيب الآخر، فلكل مراحله ، ولكل طرف استقلاليته . حتى لا يقع المحظور ثانية، وتضرب الصحوة من جديد، وينهار البيت على أهله دون فرز أو استثناء. والصحوة بعد ذلك جماهير وإطار ومطالب، تطرحها على الأطر السياسية والحزبية وتدعو للاستجابة لها.
من هذا المنطلق سعى “اللقاء الإصلاحي الديمقراطي” في بيانه التأسيسي إلى التأكيد على مدنيته واعتباره حركة لا دعوية ولا دينية ولكن حركة مدنية ذات مرجعية إسلامية وديمقراطية، تحمل برنامجا مدنيا ينبثق من اجتهاد وتصور مدني، وتسعى للالتصاق بهموم شعبها ومطالبه وتطلعاته.
ملاحظة : لمراسلة “”اللقــاء الإصلاحي الديمقراطي” في انتظار إنشاء الموقع الخاص للحركة الذي لن يتأخر ظهوره بإذن الله، يستطيع الإخوة والأخوات استعمال البريد الكتروني التالي :
[*] للتوسع في موضوع العلاقة بين الإسلام الحركي والصحوة الرجاء العودة إلى مقالاتنا “حذار على الصحوة : إشارات على طريق البناء في العلاقة بين الإسلام الحركي والصحوة ” سلسلة المقالات، جريدة “التجديد” المغربية أعداد 903/905/907 بتاريخ 08/أفريل ـ 12/أفريل ـ 14/ أفريل 2004.
iThere are no comments
Add yours