بقلم د.خالد الطراولي
ktraouli@yahoo.fr
عندما تنسد الآفاق، عندما يخيّم الليل على الأرجاء، عندما يُعتَقل الفجر ويُغتَصب النهار، عندما تنادي ولا يسمع أحد النداء، عندما يطرق الأمل أبواب الإحباط والانسحاب، عندما يصرخ المكلوم والمظلوم ولا مجيب، عندما تنحبس الدموع وتجف الحناجر، ويستيأس القائم والقاعد والذي على جنب..
في بحر من الظلمات والأمواج العاتية الظالة والمظلة تطل على المرء بين الحين والآخر ومضات تذكّر الناس أن الفجر وإن تأخر، فإن مجيئه حتمي لا مراء فيه، وأن الظلام وإن هنأ عيشه سويعات، فإن النهار له بالمرصاد…
منذ عقد من الزمن كان عالم المعلومة حبيسا على بعض النخب والصفوة، ومن ملك المعلومة ملك الرقاب وملك الآفاق، منذ عقد من الزمن كان الاستبداد يعيش داخل الحفر، في جنح الظلام، كان يعربد ويستأصل ويقصي ويظلم دون حياء ودون رقيب، كانت شعوب بأكملها تعيش وراء أسترة من حديد، فلا أحد يسمع الصراخ إذا سُمح بالصراخ، ولا أحد يرى الدموع إذا سُمح لها بالانسياب، كان الظلام عاما وكانت المصيبة أعم…
ورغم السواد الذي ملأ الديار وغيّب عن الجيران رؤيته، فإن الاستبداد وإن استفرد بالشعوب والأفراد، فإنه لم يكن يعيث فسادا مطلق اليدين ودون مقاومة، ولقد كانت الشعوب أكثر الأطراف تضررا بما طالها من جور وبغي، وكانت المعارضة الحرة على هناتها، تقوم بدور المناهض والمؤطر والدافع، والحاملة لمشعل القيادة والوقوف، في ظل التعتيم والتزوير والدعايات الكاذبة…
في ظل هذا الواقع المظلم دخلت الانترنت وفتحت أبوابا مغلقة، كان فتحا ولا يزال..، ومهما كانت السلبيات المرافقة فإن من أبواب الخير التي فتحها هذا العالم العجيب وما أكثرها، هو انقشاع الحجب عن عوالم مدفونة وشعوب مقهورة، فأصبح الانترنت صوت من لا صوت له، وصورة من غابت صورته أو هُمّشت أو طالها النسيان.
يحمل النموذج التونسي سمات الواقع المنغلق، مبادرات تتلو المبادرات..، مبادرات للمصالحة، للتجاوز، للتغيير، نداءات تتلو النداءات..، تدعو إلى رفع الظلم عن أناس داخل السجون وفي المنافي، أياد ممدودة وأصوات مدوّية ومطالب، معارضة تسعى، بما أتيح لها أو بما سُمح لها، أن تدفع إلى تغيير سلوك ومواقف، وتريد إدخال بعض الأنوار في البيت التونسي الذي انطفأت نواميسه، تريد الكرامة لكل تونسي دون تمييز… هذه المعارضة العينية كانت الوحيدة على الساحة و لعلها مثلت حقبة منتهية!
دخلت على الخط المعارضة الرمزية بما فتحته قنوات الانترنت من مجال للتعبير وإسماع الصوت المخالف، فكانت تونس نيوز وتونيزين وتونس اليوم والزيتونة ونواة والحوار نت، وتشكل خط جديد، سمّاه البعض المعارضة الثالثة أو الجديدة، ودخلت المشهد التونسي من بابه الصغير أولا، ثم تمكنت وأصبح لها شأن وأي شأن…
وفقفتنا في هذا المقال مع مبادرة “يزي فك” فقط على أن نرجئ الحديث عن المشهد الحالي للمعارضة التونسية في كتابات قادمة:
تمثل هذه المبادرة تأكيدا لهذا الجانب من التمكن للمعارضة الرمزية، ودخولها حلبة طرح المبادرات وقيادتها، وتعزيزا لتعدد المعارضة إطارا ومنهجا وشكلا. وتمثل هذه المبادرة كذلك فرادة على مستوى الإنتاج الرمزي للمعارضة ولا شك، وعملا جيدا أعطى نفسا جديدا للمقاومة السلمية، ويجعل من أي تلعثم أو تردد في مساندتها، أو الاختفاء وراء الأكمة لتجنبها، أو الوقوف بحياء إلى جانبها، أو عدم الإصداع بنصرتها، أو النقد الجارح لها وهي لا تزال في المهد… كل هذا يعتبر مجانبا للحقيقة، ولا يقع إلا خارج إطار الأخلاق والموازنة القيمة للأحداث والأفعال!
إن العمل اليوم من أجل تونس يجب أن يتوقف خارج إطار السياسوية والأنانية والحسابات الضيقة والزعامتية المفلسة… كل عمل أيا كان منشأه وإطاره ولفيفه وباعثه، وكان في إطار من السمو الأخلاقي والأمانة الوطنية والمنهجية السلمية، ويُوَجَّهُ لتثبيت حق وتنحية باطل ونصرة مظلوم، لا يجب إلا أن يُساند ويُدفع به إلى الأمام… همنا الوحيد خدمة وطن جريح ومن ورائها وبالنسبة للبعض وأنا منهم إرضاء رب كريم!
من هذا الباب فإن مساندتي لهذه البادرة لا تشوبها شائبة إذا بقيت على خطها ولم تطرأ عليها الشوائب، غير أن هذه المساندة تعني أيضا النقد البناء والهادف والذي نرى من ورائه دعم لها وللساهرين عليها، ولذلك فليسمح لي الإخوة الأفاضل أن أبدي بعض الأفكار، على بساطتها، لعلها تكون مسند خير لهم ولكل التونسيين…
- إن التركيز على اسم معين وربطه بالعنوان يحجّم نوعا ما من أهمية المبادرة، ويقلّص من هدفها، فكأن نهاية فرد تعني نهاية مأساة، وكأن مفتاح الحل والربط يملكه فرد واحد، على أهميته، والمشهد التونسي بالأمس واليوم أكثر تعقيدا ويحوم حول مراكز نفوذ وتكتلات وقوى، ويمثله نظام… خطأنا الكبير الذي ارتكبناه في يوم ما، أننا ربطنا ولعلنا مازلنا نربط الاستبداد بفرد وشخصية نظن أنه بنهايته ينقشع الظلام… فجعلنا من بورقيبة الكابوس والوحش الذي يجب إسقاطه، والذي بنهايته تتغير الأرض غير الأرض ويحف بتونس السلام… وانتهى الشخص وذهب إلى جوار ربه وهو أعلم بحاله ويكفينا حال الأحياء، وبقي الظلام ولعله ازداد وولدت لنا عقلية بورقيبة ونسق (système)بورقيبة، بورقيبة صغار آخرون، وفاق التلميذ الأستاذ، وازدادت المحنة ولم تنته، حتى رأينا من التونسيين اليوم، من يترحم على أيام بورقيبة.
لعل الرمز هو الذي سعت المبادرة إلى إبرازه، خاصة وأن تونس اليوم يمثلها ولا شك “العهد الجديد”الذي بناه فرد، ولكنه يتمثل اليوم في نظام متماسك حسب ظاهره ويتشكل في ثقافة وعقلية وسلوك، وقضيتنا تبقى بالأساس مع هذه العقلية التي ولّدت هذا الزيغ، وقضيتنا تبقى مع نسق كامل ألقى بأطرافه على كل خلية أو ذرة من المجتمع.
إن نهاية فرد لا تعني نهاية نظام، وإن ارتجت بعض الشيء جوانبه وسعى غالبا إلى ترقيع وتلفيق، ولذلك فإن أيّ تشخيص (ربطها بشخص) للمقاومة السلمية والمعارضة يعتبر مراهنة مغلوطة على ما بعد “التغيير”، وكذلك مساندة غير مباشرة لتواصل الظلام وبأيد مغايرة، وأظن أن هذا التشخيص للمعارضة أصبح منهجية غالبة في المشهد السياسي التونسي والمشهد السياسي العربي، و لا أظن أن الحاكم العربي إجمالا ليس سعيدا بها ولا تخدم مصالحه حيا أو ميتا.
- لعلي أكون مخطأ أن أقول للإخوة الأفاضل أن تحديد الإطار الذي يعملون فيه وآلياته يجب أن يكون واضحا تبنيه منهجية واضحة بما تحمله من محطات ورؤى، وهدف ورجال، حتى لا يُضرَبون من هذا الباب، والبعض كما رأيت في بعض المداخلات يقتنص لهم وهو لهم بالمرصاد، فالوضوح الوضوح في كل محطة وآن، وعدم التسرع في حرق المراحل، فإن أكثر ما أفشل المبادرات والأعمال عدم الانضباط بأجندة عملية تستشرف المستقبل بأعين واقعية وممنهجة. ولا عيب أن يطرح برنامج كامل وتفصيلي للمبادرة منذ أيامها الأولى.
- إن الديناميكية التي أحدثتها المبادرة جميلة وهامة، وفرادتها ساعدتها على ذلك ولاشك، وهذه المحطة الأولى في الإعلان قد نجحت نسبيا، غير أن الأبواب مازالت مفتوحة على الشيء ونقيضه، تستطيع المبادرة أن تتواصل بنجاح، كما أنها يمكن أن تخبو وينتهي حالها، فالأمر موكول إلى أصحابها في طرح التواصل والبقاء دون روتين أو تقاعس، وليس هذا سهلا بل يتطلب كثيرا من الوعي بالواقع التونسي وما هو مستعد لقبوله ومسايرته وتحمله أو رفضه وتجاوزه.
- إن استقلالية المبادرة عن أي تيار سياسي يخدم المبادرة ويخدم المعارضة ويخدم مشروع التغيير. والمبادرة ليست تيارا سياسيا ولا يجب أن يكون، فلكل دوره ولكل رجاله وآليته غير أني أرى بتواضع أنها لا يجب أن تبقى منفردة في حملها، بل عليها أن تكون القاطرة والدافعة لأطر أخرى في الدفاع والوقوف، ولا يجب التهيّب من طرح تقاسم للأدوار بينها وبين المعارضة.
- هذه النقطة الأخيرة والتي تلامس في الحقيقة موطن المشاعر والعواطف، ويلف أطرافها البعد الأخلاقي ولعله الطهوري وقد ترددت في إدراجها ولكني حسمتها… خوفي عليكم أيها الإخوة الكرام من الاختلاف والتفرقة، وإذ لامست فيكم حب المبادرة والعمل غير إني أدعوكم بكل تواضع أن تضعوا القضية التونسية أولا وأخيرا، وأن لا تسقطوا في المراتب والمراكز، من هو الأول ومن الأخير، من يقود ومن يقاد، اجعلوها صافية حتى يملأ الإطار الصفاء، والله حليف الشريكين ما لم يخونا (الحديث)، إن مصداقية المبادرة من مصداقية أصحابها، والمصداقية مسار مشوبة أطرافه بالأشواك، وقد يحصل عليها المرء في بداية العمل، ولكن إذا انفرط عقدها أثناء الطريق فإنه يصعب إيجادها من جديد، والشعوب لا تنسى وذاكرتها الجمعية لا تنحسر!
iThere are no comments
Add yours