خواطر متمردة حول مبادرة 18 أكتوبر
الجزء الأول : أيام لها ما بعدها.
بقلم د.خالد الطراولي
ktraouli@yahoo.fr
دخلت تونس منذ أيام في حالة غير عادية من التجاذب السياسي، لم تشهدها منذ أكثر من عقد، كان لهيمنة الصوت الواحد والحزب الواحد وغياب المشهد الديمقراطي السليم وتواصل محنة التشريد والنفي والسجن، وماصطحبها من مسار ممنهج للإقصاء والاستفراد والاستبعاد، و التشبث بمنهجية الاستخفاف والرفض لكل دعوات المصالحة والتجاوز..، كان كل هذا سببا في انغلاق أفق التدافع و توصل الجميع إلى أن الأمل في عودة الوعي للسلطة لم يعد مبررا لمزيد من الانتظار، وأن الأيادي الممدودة من كل حدب وصوب لم تجد الأذن الصاغية، بل قابلها التهميش والاستخفاف، فالسلطة قد وضعت رأسها تحت الرمال أو ألقت به من وراء السحاب فلم تعد ترى غير ما تريد أن تراه، وأن ثقتها المتورّمة في قوة أوراقها وفي إفلاس أوراق الآخرين جعلتها تنسى واقعها وتهوّن من حراكه، ويغيب عنها الاستشراف السليم للمستقبل، وغفلت أن تع أن دفع المنافس إلى الجدار حتى يلامس فقدان الأمل هو الباعث إلى إشعال جذوته من جديد، ونسيت أن تحت الرماد اللهيب، وأن التباطأ في الوقوف لا يعني الموت، وأن الصمت لا يعني الرضا، وأن العصا وإن هيمنت على الفكرة وأخافت أصحابها أياما وليالي فإنها تبقى عصا ولن تطول صولاتها وجولاتها…
تحركت تونس النخبة، تحرك المجتمع المدني واستفتح دورة جديدة من التدافع وتحولا نوعيا في مستوى النضال والمقاومة السلمية، تحركت وجوه مناضلة وأعلنت الوقوف مجددا وملوّحة بأن الخير في تونس لم ينته، وأن جذوة النضال لم تنطفأ، ولم تجد هذه الصفوة أعز عندها وأفضل، من أجسادها وأنفاسها للتعبير عن حبها لتونس والعمل من أجل رفاهها… دخلت المجموعة الطيبة في إضراب جوع متواصل وأعادت الرجاء إلى أجساد مرمية وراء القضبان… وإلى أسر وعوائل ويتامى نسيت الدموع أن تغادر محياهم، وإلى مشردين طُردوا من أوطانهم وغلب الحنين على أيامهم…، أعادت الأمل إلى كثير من أفراد هذا الشعب الطيب الذي ملّ الجور والتعسف والاستخفاف!
هذه التوطئة الطويلة بعض الشيء والتي تسرد واقعا معروفا وغير جديد، إنما أردت من ورائها إظهار عظم المسؤولية الملقاة على أصحاب المبادرة وعلى كل فرد من المعارضة وعلى كل مواطن تونسي، والوقوف على الأهمية الكبيرة والمصيرية لها، ومدى حساسية كل فكرة أو ممارسة تنشد مصاحبتها أو مناصرتها، والإحساس الجماعي بدورها المستقبلي الكبير في تشكيل منعرج هام في المشهد السياسي التونسي.
النوعية التي فاجأت الجميع
فالمبادرة ليست بالهينة وليست بالمعتادة وليست بالعادية ولقد انتظرها الكثير وتمناها الكثير ويعجز عنها الكثير، لذلك فإن لهذه الأيام ما بعدها، ولهذه المبادرة فرادة في زمانها في نوعيتها في تعدد رجالاتها وفي رسالتها… وهي إما أن تؤدي إلى حالة جديدة وواقع مختلف وإلا لا سمح الله فإن نهايتها بدون نجاح تعني أن الاستبداد مازالت أيامه طويلة، وأن نكستها ترمي بالأمل إلى مواطن الإحباط والتخلي والانتظار مجددا. ولعلها توحي للجميع بأنه لا سبيل إلى التغيير وأن الرضا بما كان والتأقلم معه ومساندة الباطل رغم هناته وسلبياته يمثل الأكثر واقعية، وللبيت رب يحميه!!!
إن حمل راية الوقوف والتحدي اليوم تعتبر مسؤولية عظيمة أمام التاريخ وأمام الله وأمام الجماهير،وأن أي خلل في المنهج وأي تردد في التنزيل وأي اختلاف في التنظير وأي نكوص أو تشرذم أو خلاف يمثل خطأ استراتيجيا رهيبا يحمل عاقبته كل بيت تونسي وكل مواطن داخل البلاد أو خارجها.
إن المبادرة تسطر لمستقبل بديل، ولسلوك مدني مغاير، ولوضع سياسي واجتماعي واقتصادي مختلف..، آمال كثيرة معلقة، ورجاء كبير ينتظر، ورقاب عديدة ممدودة إلى السماء تستعجل الغيث، وشعب بأكمله يتأمل ويراقب، حتى إذا رأى الميزان قد استوى وأن أصحاب الحق ظلت قلوبهم مجتمعة ونبضهم لم ينحسر، عجلوا بالمدد، ومن كان الشعب في دفته كان النصر حليفه ولو بعد حين. والمعركة اليوم وبعد اليوم تحددها مراحل ومناهج، افتتحتها هذه النخبة الطيبة في أولها فرفعت شعار لا خوف بعد اليوم وتجرأت على الوقوف علنا أمام الاستبداد ولعلها نجحت وفاجأت بجرأتها وإصرارها وإرادتها الداخل والخارج، ولكن أصعب هذه المراحل وأدقها هو جلب هذه الجماهير المتعطشة إلى الحرية والعدل، إلى صفها وإلى مواطن الفعل السلمي وحمل راية التحدي ومشعل الوقوف والبناء وتقاسم الأدوار.
وإذا كان الطرف المقابل يكفيه حيادية هذه الجماهير وبقائها على الربوة لأن موازين القوة المادية لصالحه اليوم، وإن كانت بعض الأوراق قد تغيرت عناوينها، فإن الحياد وبقاء الجماهير في البيوت، وخارج الإطار، هو مقتل المبادرة! وكسب الرأي العام المحلي هو المحدد في تواصلها وفي نجاحها. فالمستقبل للجميع، وتونس للجميع، يحمل همها أبنائها، ويسعى إلى ترتيب بيتها فلذات أكبادها، ويبني صرح حاضرها ومستقبلها أياد اليوم وأحفاد الغد، وهذا هو التحدي الكبير الذي تحمله المبادرة. فإن نجحت في الاستقطاب ومهدت أسبابه الذاتية والموضوعية، فازت وولجت بثقة ميدان التغيير والبناء، وإن فشلت لا قدر الله، فإن أياما أكثر سوادا وأشد ابتلاء تنتظر الجميع على الأبواب، ولكن دون يأس ولا خنوع، فللباطل وإن انتصر جولة، وللحق جولات، والشعوب إذا صمدت يوما وبرزت إرادتها علنا فلن يقف أمامها أحد والأيام دول…
إن الوضع الحالي الذي تعيشه البلاد من انغلاق وتمزق وغلاء يمثل أرضية مناسبة ولا شك لإيصال الصوت الجريء والكلمة الصادقة والفعل السلمي الشجاع والممارسة الوطنية الراقية إلى الجميع : من معارضة خامدة أو مساندة أو يائسة أو مهمشة أو مضروب على أيديها لكي تعلم أن واجبها في التفاعل والتفعيل من أجل تونس التعدد وتونس الحرية واجب مقدس لا رجعة فيه… ومن سلطة حاكمة لا يجب أن تهون مما يقع ولا أن تغفل عن عواقبه على الأمن والاستقرار… ومن جماهير يكفيها انتظارا وترقبا وعدم المساهمة في حمل الهم الوطني… وتونس للجميع شعار يُحمل أيام السؤدد والنعم، فيتنعم فيها الجميع، و يُحمل أيام المحن والرماد ولا يتخلف عن ركبه بنت أو ولد.
ما العمل ؟
لا شك أن المتتبع للمشهد العام في تونس هذه الأيام يلاحظ هذه الحركية التي طالت أطراف المجتمع المدني والتي مثل إضراب الإخوة الأفاضل ذروتها الحينية. فبعد مرور قرابة العقدين من صمت البعض واحتشام البعض وتوجس البعض وخوف البعض وحسابات البعض، وعفا الله عما سلف، وبعد مرور سنوات من شجاعة البعض وجرأة البعض ووقوف البعض وصراخ البعض، وجاز الله الجميع، وبعد أيام طوال من سجن البعض ونفي البعض وعذابات البعض وموت البعض… تحرك المجتمع المدني وعبر في صيحة فزع عالية ومدوية أن أيام الصوت الخافت والصوت المرتجف قد ولت وانتهت وأن خيوطا جديدة بدأت تنسج أطرافها بلون جديد وعقلية جديدة من أجل مشهد سياسي مختلف وحالة تونسية مغايرة.
إن هذه الصورة الجديدة للمشهد السياسي التونسي التي تسعى إلى إثباتها هذه البادرة تتطلب جهدا ووعيا وصبرا وثباتا وتآزرا وعملا جماعيا ممنهجا ومتخلقا، ولعل أسئلة كثيرة مازالت تُطرح ونقاط استفهام عديدة تُنشر… ما العمل؟ ما المطلوب؟ ما المستعجل؟ ما هي الصورة التي يجب أن تصل؟ ما هي المنهجية التي يجب أن تطبق؟ ماهي سقوف المبادرة وما هي حدودها؟ ما هو المشروع الذي يجب أن يطرح وينشر؟ لقد رفعت المبادرة تحديا كبيرا وطرحت مطالب ودغدغت آمالا وأنبتت أحلاما، فكيف التواصل والنجاح حتى لا تكون مبادرة تلتحق بسلسلة غير قليلة من المبادرات الواهية رغم فرادتها ونجاحاتها الأولية؟
وسعيا منا إلى المساهمة ولو من بعيد و بكثير من التواضع في تيسير المسار وتوضيح المصير حتى تصل المبادرة إلى مرساها سالمة، تمثل الأسطر اللاحقة اجتهادا بسيطا في هذا الباب، يغيب فيه معطى الحضور والمشاركة والمعاينة، ولكن يغمره الهمّ الوطني وحب تونس وأهلها الطيبين، عسى أن نكون حجرات بناء وترميم، ولا معاول كسر وتهديم، في نشأة هذا الصرح العظيم.
iThere are no comments
Add yours