في علاقة المَهجر بالأوطان

د. خالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

لما غادر الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) فضاء مكة، كانت نظرات المظلوم والمطرود والمنفي ترمي بأطرافها إلى الخلف وإلى الأمام… إلى مكة الوطن الجريح والبلد المبتلى : ” والله إنك لأعز بلاد الله لديّ، ولولا قومك طردوني ما خرجت”… حب فطري إلى مسقط الرأس إلى مرقد الأجداد، إلى موطن الآباء والأحباب…ذكريات الصبا وطموحات الشباب… كل ذلك كان مكة…

الهجرة وخطوات البناء

كان مطلبه عليه السلام يسيرا “خلوا ما بيني وبين الناس”…كانت دعوته سهلة مستساغة “لا تتخذوا أربابا من دون الله”… وكان الرد فضا غليظا قاسيا، ضرب وحصار، تعذيب وانتقام، قتل للأصحاب وتشريد للأحباب… كان الرد استدراجا للنفس والهوى “لو أردتَ ملكا ملّكناك، لو أردتَ نساء زوجناك، لو كنت مريضا شفيناك..”…

نظرات الرجل الطيب عليه السلام وهي تودع مكة ظلما وعدوانا، وهو الذي بقي فيهم ثلاثة عشر عاما، لم يغتل منهم أحدا ولم يسكب دم أحد..، نظرات إلى الخلف وما أبعد مكة… ونظرات إلى الأمام، نحو الآفاق…نحو المدينة، نحو الغيب..، من وراء الظلام، من وراء كثبان الرمال، من وراء صحراء قاحلة، سيكتب التاريخ بداية ملحمة، بداية عهد لم يستطع هذا التاريخ أن يطوي صفحاته، ولعله لن يطوها! كانت الهجرة لحظة غابت فيها الجغرافيا سوى عن صحراء مظلمة، طوتها أرجل شريفة وصداقة صادقة، وتعلقت الأرض بالسماء “لا تحزن إن الله معنا” ، وحظر فيها التاريخ بكل جنوده وكل أوتاده، وكان بناء إنسان جديد وبناء أمة.

لقد مثلت هذه اللحظات محطة عابرة بين مرحلتين، بين إطارين، بين منهجين، كانت مكة، وكان الظلام وكانت الغشاوة وكان الاختفاء، وصارت المدينة وصار النور والضياء، وانقشعت السحب. كانت الهجرة قطيعة وتواصل، قطيعة مع قلة العدد وسوء المأوى وضعف المدد وضغط الواقع وجور ذوي القربى… وكانت الهجرة تواصلا مع الدعوة والبناء الذي انطلق يتطلع إلى الآفاق ويبني صرح حضارة إنسانية مفتوحة على كل الأمم والديانات، كان تواصلا مع بناء هذا الإنسان الجديد وتشكيل عقلية جديدة جعلت جلف الصحراء وساكن البراري، يسكن المدن ويبني الشواهق!

هاجر الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وبنى عقولا قبل أن يبني الأيادي، وبنى مجتمعا قبل أن يبني دولة، لقد كان الإسلام المدني إسلاما اجتماعيا قبل أن يكون إسلام سلطة، عاشت في أحضانه كل الفرق وكل الديانات، وحماها دستور مدني لم يفرق بين يهودي أو مسلم أو نصراني.. هذه الهجرة الديناميكية التي فرّت السكون والهدنة والانسحاب، ورفضت الركون إلى ملاذ العيش ومغريات الواقع، وحبّذت السعي والتفاعل الرصين والواعي والهادئ مع الواقع الجديد، وزرعت بذور حضارة جديدة “والله يا عمّ، لو جعلوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أموت دونه”. ذلك زمانهم وهذا زماننا، تلك أيامهم وهذه أيامنا، وكم من مُهاجر في زماننتا وهو في مكانه جامد ساكن منسحب عاطل، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق..، وكم من قابع في وطنه من وراء الأسترة والجدران، وهو مُهاجر، يُضرب عن الطعام ويصبر على الآلام، ويعانق الأحلام، ويعيش هموم وطنه وآماله.

الهجرة والتساؤلات المشروعة

تمر علينا هذه اللحظات العابرة كل عام وهي تنادي من جديد، من أعلى صومعتها، وبصوت جهوري، يقض المضاجع ويرمي بالفراش واللحاف، إلى كل مهاجر في وطنه أو خارج الأوطان : ماذا فعلنا في مهاجرنا لإغاثة الملهوف في ديارنا، وجبر خاطر المظلوم، وكف دموع الحيارى والثكالى والمعوزين؟، ماذا قدمنا من أوقاتنا لأوطان عزيزة علينا، غاب عنها غيث السماء وتلبدت تربتها بالأوحال؟..ماذا فعلنا لتركيز فكر المصالحة وثقافة المصالحة بين أبناء الوطن الواحد والتاريخ الواحد؟ ماذا عملنا من دفع ومؤازرة لعجلة االإصلاح والنهوض؟

كم هي الأقلام التي انحبس حبرها وجفت إداوتها، كم هي الأصوات التي صمتت نبراتها، وانغلقت حنجراتها؟ كم هي الطاقات المعطلة والمنسحبة والمهمشة والتي جعلتها الهجرة هباء منثورا؟. كم هم الأفراد الذين كانوا شعلة في أوطانهم، حتى إذا غادروا الديار اضطرارا أو اختيارا، انطفأت الشموع وحل الظلام بالعقول ودخل الجميع في تسابق وركض عجيب على الدنيا وخيراتها، ونسوا الوطن وهمومه؟. كم هم الأفراد الذين صعب عليهم فراق الأهل والأحبة فخيروا ثني الركب، وتقبيل النواصي والتمسح على الأعتاب، والنجاة الفردية، على حساب المجموعة وعلى حساب مبادئ وثوابت، خلناها خطوطا حمراء في الأخلاق والدين والفضائل!

كم من الأفراد الذين عاشوا داخل التاريخ في أوطانهم وقاسوا الأمرين دفاعا عنه، ولما لفظهم هذا الوطن ظلما وعدوانا أصبحوا يعيشون خارج التاريخ، يعيشون على شرعياتهم التاريخية واكتفوا بالقليل الذي يبرئ الذمة ويقلص وخز الضمير وتقريعاته! كم هي الثغور المهجورة في بلاد الهجرة والتي لا يقف عليها فرد ولا مجموعة، وهي تكاد تبكي قلة الزاد والرواد؟. هذه أسئلة التاريخ الذي سيكتب إجابتها الأحفاد وماذا عساهم أن يكتبون؟، فما بالك بسؤال الغيب في يوم يجعل الولدان شيبا، ولا ُيشفع بالجواب إلا لمن أتى الله بقلب سليم!
لن أقف كثيرا عند هذه الأبواب حتى لا يتحول حديثي إلى بكائيات ومرثيات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن ما أردته هو التعبير عن حالة من الانسحاب الجماعي والعقم المرضي والموت البطيء الذي ضرب العديد من الأفراد في بلاد الهجرة، في عقولهم وسلوكياتهم وأضعف المدد، والذي تعود أسبابه أساسا إلى هذا الفراغ النضالي والإحباط وفقدان الأمل، لطول المسافة ووعرة الطريق وطول الرجاء. والذي ساهمت فيه بشكل أو بآخر ثقافات وعقليات ومنهجيات، وساهم فيها الفرد والمجموعة على حد السواء.

نحن والهجرة :أبحثُ عن مهاجر!

لا يمكن لمشروع نضالي وهم تغييري أن ينجحا إذا لم يلتق نضال الداخل مع نضال الخارج، إذا لم يلتق الوطن بكل مواطنيه، وإذا لم تلتفَّ معارضة الداخل مع قرينتها الخارجية في تكامل وانسجام وتقاسم للأدوار. إن التواصل بين الطرفين ركيزة أساسية اليوم في عصر انتشار المعلومة وسهولة التقاطها، لنجاح المسار. لن نكون مثاليين حتى لا نتهم بذلك، فمع تفهمنا للواقع الموضوعي الصعب لبلاد الهجرة، غير أن حالة الحريات النسبية واستقرار الأحوال المعيشية يمثلان دوافع من شأنها تخفيف أزمة الداخل ويلطفان من غلوائها. ولأحزاب المعارضة والجمعيات الوطنية والحقوقية النصيب الأوفر قي الدفع بالتفعيل والتفاعل عبر قنواتهم وبرامجهم وسلوكياتهم.

هذه الهنات التي ضربت العقل النضالي المهجري وقلمت عدده وعدته، وأضعفت مردود الفعل النضالي لا يمكن تجاوزها إلا إذا رعينا حقوق الوطن وواجباتنا نحوه، فليست هجرة الأجساد هي هجرة لهموم الأوطان، وتخلص من أوجاعها، ولكن أن نعيش الوطن ونحن خارجه. وإن الاهتمام بالأوطان الجديدة التي شهدت ميلاد أطفالنا وحمت ظهورنا وأرزاقنا لا ينحسر، والمساهمة في بناءها بحب وحزم وجدّ وتفان واجب ومروءة وأخلاق، وهذا لا يلغي التواصل مع الوطن الأم وحمل همه، والسعي لإنجاح خطاه المتعثرة أو المترددة نحو الإنعتاق والحرية والسؤدد.

لقد هاجر الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وهاجرنا، ولم ينس عليه السلام مرقد الأجداد، ونسينا أو تناسينا..، كانت مكة والحنين إلى تربتها يعيش في مخيلة الأصحاب..، وضمر خيالنا وتلاشت آمالنا..، وجمع عليه السلام معارضة وطنية تجاوزت الحسب والنسب وتجاوزت القريشيين..، وتشتت معارضتنا..، وعاد عليه السلام فاتحا ومسالما ومنتصرا..، ومازال النصر غريبا عنا..!

كانت المدينة موطن الهجرة حيث تشكلت عقلية جديدة جعلت للبيت القديم نصيبا في ذاكرتها، ونصيبا في فعلها، نصيبا في حلمها ونصيبا في واقعها، ولم ينس محمد (صلى الله عليه وسلم) أبدا أنه مكيّ المنشأ، مكيّ الثقافة ومكيّ المصير. وانسلخ البعض منا عن أصله وفصله وترك بيته وعشيرته، ولم يعد يعرف من الأوطان سوى ذكريات صبي ولهان، وعدّ النضال مضيعة للأزمان.

لم تكن الهجرة استبدال بقعة بأخرى، لم تكن الهجرة انتقالا إلى جغرافيا جديدة فقط، ولكن كانت موعدا خالصا مع التاريخ، وعبرة مجددة وحافزة لأمة قد تنالها أيام السؤدد والغرور أو الانحطاط والسقوط، وهي دعوة قائمة آناء الليل وأطراف النهار للبناء والوقوف، وعدم ترك السفينة حتى إن علا الشطط وكثر الغلط، وتعدد الربان، أو كانوا مشتتين في غيبة أو غيبوبة. فالهجرة عقلية قبل أن تكون سلوكا، عقلية فعل وحركة، عقلية تفاعل وحياة!

المصدر: موقع اللقـــاء الإصلاحي الديمقراطي www.liqaa.net