بقلم د.خــالد الطراولي
ليس حديثي موجها إلى أحد ولا إلى فصيل حتى لا يفهم ولا يؤول في غير موطنه فنترك الجوهر ونسقط في القشور وحتى لا يقع ما حدث لي بعد إحدى المقالات لما راسلني أحد المعارضين “الكبار” وهو يتذمر من أنه كان المعني في مقالي، والعبرة كانت ولا تزال كما يقول الفقهاء بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب!
هل تساءلتم معي هل عجزت تونس أن تلد لنا زعيما؟ أم أن عهد الزعامات المحلية انتهى في مرحلة الاستقلال الأول التي كانت حبلى بالزعماء؟ كان فرحات حشاد زعيما وكان الهادي شاكر زعيما وكان الثعالبي زعيما وكان صالح بن يوسف زعيما وكان بورقيبة زعيما… ثم اختفى الزعماء!
أصدقكم القول أن الإطار التونسي اليوم لا ينقصه الرجال والقادة ولا حتى “الزعماء” ولكن لكل فرد منهم ينقصه ذلك الجزء المكمل والحاسم في تشكل شخصية الزعيم والتي تجعله زعيما قائدا تحمله الشعوب في قلوبها قبل أن تحمله على أعناقها، وتكون رهن إشارته في الكر والفر.
زعماء ولكن…
فمنهم من تنقصه الشجاعة الكافية لخوض المعركة المدنية والسلمية واكتفى بتلذذ بقايا الفتات على مائدة الكرام حينا واللئام أحيانا أخرى، خائف على نفسه خائف على أهله خائف على مركزه، خوف على خوف. والشعب التونسي قد حسم أمر هذا “الزعيم”، فليس من عادة الشعوب تقبل الجبن في حاضرها، وقد شهد تاريخها رجالا وشهودا وزعماء، ماتوا وهم واقفون، وسطروا الطريق بدمائهم ودموعهم، ونثروا النموذج وهم في قبورهم.
ومنهم من جابه تراث الأجداد، وتعالى عن معتقدات البلاد، واعتبر نفسه الحامل للجديد، وما عداه قديم ورجعي وظلام، وأن ماختزنه هذا الشعب في مذكرته من تاريخ وتقاليد وأعراف، وما يعيشه في حاضره من تشبث بهذه القيم وهذه المسارات، ليس إلا تشبثا بالتخلف والاندحار، وليس إلا دخولا في الأنفاق! وهذا الصنف من الزعماء، على قلته، قد حسم الشعب التونسي دوره، فالشعوب لا تعيش بدون تاريخ، ومن عاش بدون تاريخ عاش بدون مستقبل! وهذا الشعب ليس إسقاطا من السماء، بل هو وليد الأرض التي حملته والينابيع التي روته، وهو تكتل صقلته تجارب الأجداد وأعرافهم وتقاليدهم، ويسعى الأحفاد إلى عدم التصادم مع هذه المذكرة الجمعية، واستيعاب الصالح منها، حتى لا يكون منبتا عن الأرض التي يحلم أن يبني عليها مشروع حياته.
و صنف لا يجيد الوقوف على رجليه، بل يسعى أن يضع ثماره في سلات متعددة، يراهن على الكل، على الشيء ونقيضه، فلا أنت تعرف هل هو مع المواجهة أم مع المصالحة، مع شعبه أم مع نفسه؟ يسعى إلى إرضاء هواه أم يناضل من أجل مصالح الجماهير؟، إن بحثت عنه في صفوف المعارضة ولقاءاتها وتذمراتها وجدته في الصفوف الأولى!، وإن بحثت عنه في منازل القرب والتفهم والتفاهم مع النظام و”قلبان الفيستة” وجدته زاهدا مؤولا للنصوص والأحداث، وساعيا ببراءة الذئب في القطيع إلى خدمة مجتمعه!. وهذا الصنف يعتقد أن ذكاءه لا تفقهه العامة، وأن دهاءه لا يستبين للرعاع، وأن وطنيته لا تشوبها شائبة، فهو مع نفسه ومع الوطن، وحبه للغير لا يعدم حبه لذاته وسعيه إلى إشباع متعها وأمانيها! وهذا الصنف المتذبذب خلط بين السيرك والسياسة وظن أن إبداعه في الألعاب البهلوانية مطية للنجاح في “الألعاب السياسية”. والشعب التونسي وإن كان صامتا تجاهه علنا، فهو لا يرى لهؤلاء موقعا وإن تعالى ضجيجه و كثرت قفزاته، فالثبات على المبادئ ومصداقية القول والفعل والوقوف عند الشدائد، شمات الزعيم الذي يعيش في مخيلة الشعوب، وتعيش الشعوب بهمومها وآمالها في يومه وليله .
وصنف لا تنكر وطنيته ولا حمله لهموم مجتمعه ولكنه لا يفقه أن الزعامة تخطيط واستشراف واستراتيجية، فتراه يعيش اللحظة والحدث أكثر من أن يعيش الظاهرة والحالة، فيقع في المتناقظات رغم أنه لا يريدها فلا يكاد الشعب يفهم إحدى أطروحاته أو بياناته حتى يعقبها ببيان آخر يكاد يلامس النقيض فتعيش الجماهير في حالة عدم الحسم الذي يتحول إلى عدم الفهم ثم يصبح حالة من الاستخفاف وفقدان المصداقية والجماهيرية وينهار كل البناء.
وصنف وطني صامد صمود الجبال، صابر صبر أيوب، لا تسقطه العواصف ولا المطبات، ولكن شعاره عنز ولو طاروا، لا مراجعة في أعماله ولا محاسبة على مواقفه، فهو الذي لا يقبل حوارا ولا مساومة فكلامه قرآن منزل ومواقفه حقائق مقدسة، يرى في جذب الحبال إلى أقصاها هو خير دليل على تماسكها وصحتها وهو ينسى إمكانية انكسارها لشدة التطرف في سحبها! فالوطنية لديه رفض للحوار وثبات على الرأي الشديد ورفع السقوف حتى أنك لم تعد تراها لشدة ارتفاعها، ويضحى التدافع في الهواء الطلق لا تحدده موازين أو حقائق ملموسة، لا برامج سواء الشعارات البراقة، ولا مشروع سوى كلمات عابرة على أوراق قديمة. ويدفع هذا الصنف أطروحته إلى أقصاها فتصبح الوطنية مرتبطة بذاته أو بأطروحته وما سواه أو سواها يسقط في الخيانة، وتقارب رقبته حبل المصقلة.
وهذا الصنف لن تفقه الجماهير رؤيته، وتعيش معه لقترة قصيرة بعواطفها ومشاعرها، لكن سرعان ما تتبدل المواقف تجاهه بالتوجس والريبة ثم باللامبالاة و والابتعاد. فهي التي تعيش يومها وليلها وتعرف أرضها وتختزن تجارب الأجداد وطموحات الأحفاد، وهي تحبذ دائما الأسلم والأفضل والأيسر في أي تعامل أو منهج يخص تطورها وانتقالها من مرحلة إلى أخرى. وهذا ليس صفة ضعف أو انسحاب أو جبن ولكنها تجارب السنين وإرث التاريخ، فليس كل صمت خيانة وليس كل توقف انسحاب، وليس كل انحناء نذالة وحقارة! فكذلك تنحني الأشجار أمام العواصف الهوجاء حتى لا تنكسر وتفنى، وهو عنوان استماتة على الحياة وابتعاد عن التهور، حتى تمر العاصفة وتعود الأغصان في عليائها والجذور في أعماقها! وكذلك يصمت العاقل، وفي صمته كثير من الكلام، وكذلك تتوقف عقارب الساعة وما توقف الزمن.
هكذا يغيب الزعيم في ديارنا، ولن تصل رسالته، فهو إما في عليائه أو في أحلامه، ولم يتغير الشعب التونسي أبدا ولم يغب وإن كانت تطاله بعض الغفوات في مشواره، وهو دائما الوفاء لمن يأخذ بيده أيام العسر والنجدة ولا نخال هذه الأيام إلا صورة منها. ولقد صدق الكواكبي حين قال : ” فما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس ويدفعون الالتباس ويفكرون بحزم ويعملون بعزم ولا ينفكون حتى ينالوا ما يطلبون”! فهل من مخرج وهل من حل؟
مجلس تسيير جماعي برئاسة دورية
ليست هذه المرة الأولى التي كتبت فيها عن إشكالية فقدان الزعيم في المعارضة التونسية ولقد حبّرت في ذلك وبكل تواضع بعض المقالات منذ سنوات حيث اعتبرتها ولا أزال إحدى مكامن الضعف والهزيمة في معارضتنا… ومن بين ما قترحته لتجاوز هذه الأزمة المستعصية والتي تعبرها على السواء العواطف والطموحات والنرجسية والوطنية كتبت مقالا حول فقدان الزعيم في الإطار التونسي وأحسست بعمق الإشكال وطرحت حلا لتجاوزه، وإني لا زلت أرى اليوم مدى واقعيته وصلوحيته رغم تغير الإطار الحامل له اليوم وفي واقع داخلي وخارجي يكاد لا يتميز عنه كثيرا، ..
فإذا خلت الساحة اليوم من هذا الزعيم الموحد والجامع وعجزنا أو رفضنا إيجاده، فهل لزعماء المعارضة القبول بالتنحي عن الصفوف الأولى والتخلي عن بعض صلاحياتهم والدخول في تحالف وطني، يجتمع على مطالب عامة معروفة ومجمع عليها وترك القيادة في مجلس تسيير جماعي برئاسة دورية. تتغير كل ستة أشهر أو كل سنة.
واللقاء الإصلاحي الديمقراطي من موقع المسؤولية ودفعا لتمكين المعارضة وإنجاح مبادراتها ودعواتها ونداءاتها، يتبنى هذا المقترح ويدعو إلى تفعيله أو إثراءه، ويعتبره حلا جماعيا لا يغضب أحدا، ويسعى إلى عدم بخس حقوق البعض وكبت طموحاتهم المشروعة في الزعامة والقيادة في ظل لقاء سياسي يكسب المصداقية لدى الجماهير ويلتحف الرداء الأخلاقي والوطني من أجل تونس التغيير، تونس المستقبل. وحتى نكون عمليين يمكن أن يكوّن أعضاء هذا المجلس بداية أطراف هيئة 18 أكتوبر وكل رؤساء الأحزاب الذين قبلوا بها أو ساندوها. وأن تكون مطالب الهيئة هي القاسم المشترك والبرنامج العملي والأولي لهذا المجلس وتحت راية زعيمه الأول وزعيم كل المعارضة وكل التونسيين.
المصدر : موقع اللقــاء الإصلاحي الديمقراطي
iThere are no comments
Add yours