بقلم عادل لطيفي

“تونس الشهيدة” كتاب كانت نخبة من رواد الحركة الوطنية التونسية، وعلى رأسها عبد العزيز الثعالبي، قد ألفته مع بداية العشرينيات من القرن الماضي للفت نظر الرأي العام الفرنسي خاصة إلى الحال التي آلت إليها أوضاع البلاد بعد أن خيبت السياسة الاستعمارية الفرنسية ما تبقى من آمال في تحسين أوضاع عيش التونسيين وفي احترام كرامتهم.

هذا الكتاب الحدث، بقي لدى الدارسين التونسيين أحد الرموز التي تحيل إلى تلك الحقبة الاستعمارية كما تحيل إلى البدايات الفعلية للحركة الوطنية التونسية المؤطرة.

واستحضار هذا الكتاب يأتي في سياق الاستنفار الرسمي في تونس للاحتفال بخمسينية الاستقلال الذي حصلت عليه البلاد رسميا يوم 20 مارس 1956، هذا الاحتفال الذي لم يشذ عن قاعدة الاحتفالات الرسمية الأخرى، فكان شعاره الأساسي الابتزاز اللامحدود للتاريخ، والمغالطة المفضوحة في تصوير الحاضر.

السلطة بمواجهة ثقل التاريخ وعبء الحاضر

لست أدري إن كان المواطن التونسي العادي متحمسا بنفس القدر الذي استنفرت به مؤسسات الدولة لاستحضار خمسينية استقلال البلاد، ورغم ذلك تجد قلة من التونسيين نفسها مجبرة، على العودة إلى الماضي لمساءلة حاضرها وتقييم ما تحقق خلال خمسين سنة من الاستقلال.

ماذا حقق الاستقلال، ليس مقارنة بوضع الاستعمار الذي أتى منه بل بالنظر إلى إمكانات المجتمع وإلى طموحاته؟ لقد استقلت تونس الهوية السياسية، ولكن هل استقلت المواطَنة التونسية، أي هل تحقق للمواطن التونسي بالمعنى الصارم مفهوم المواطنة؟

على هذا المستوى ليس بإمكاننا سوى القول إن مسيرة الاستقلال، وبالرغم مما تم خلالها من إنجازات، تبقى في النهاية مسيرة من الفرص الضائعة التي حولتها دولة الشخص الواحد، وليس الحزب الواحد، إلى سراب.

فمع اقتراب يوم خمسينية الاستقلال، ازداد تفتق قريحة الإعلاميين التونسيين المرتبطين بالسلطة، طوعا أو كرها، فقطعوا رتابة المشهد الإعلامي من خلال إغراقه بسيل من المقالات التي تجهد نفسها في خلق الحدث في بلد توقف فيه التاريخ عند نهايته المحتومة حين ينعدم الحدث وحين ينتهي الإنسان المفكر.

وبالعودة إلى هذه المادة الإعلامية المهللة المحتفلة يمكننا أن نفهم المنطق الذي تتعامل به السلطة الحالية في تونس مع ماضي البلاد، وهذا يعد في حد ذاته مؤشرا يساعد على تقييم حصيلة نصف قرن من تجربة الاستقلال.

إن المتابع للخطاب المهيمن على الفضاء الإعلامي حول هذه الخمسينية يلاحظ أنه يركز على نقطتين أساسيتين، تتمثل الأولى في خلق موضع للسلطة الحالية، المنبثقة عن تغيير 7 نوفمبر 1987، في سياق الاستمرارية الطبيعية لتاريخ البلاد المعاصر، أما الثانية فمرتبطة بعلاقة هذه السلطة بمعارضيها.

فيما يتعلق بالنقطة الأولى، لا نبالغ إذا قلنا إن أغلب الصحف قد نشرت نفس الافتتاحية يوم عشرين من مارس/آذار 2006، وذلك من حيث المحتوى مع اختلاف بسيط على مستوى الإطار اللغوي المستخدم، بالرغم من المحافظة على بعض المفردات الأساسية مثل التغيير والتقدم والحضارة، وهي ألفاظ مرجع للخطاب المبجل للسلطة.

لم تتطرق هذه الافتتاحيات إلى لحظة الاستقلال في حد ذاتها إلا كمدخل للحديث عن الحاضر، أي حاضر السلطة، حاضر الحزب وحاضر الشخص الذي يختزلهما.

الهدف واضح، إنه يتعلق بإنشاء شرعية السلطة المنبثقة عن تغيير السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، وذلك في مواجهة الثقل الرمزي والتاريخي للرئيس السابق الحبيب بورقيبة من ناحية، ومجتمع تراجع حماسه المساند من ناحية ثانية، تحت وطأة تراجع المقدرة الشرائية وانتشار البطالة.

الاحتفال بخمسينية الاستقلال كان مناسبة كذلك لاستحضار صراع السلطة مع خصومها، وبالتوازي مع التوجه لاحتواء التاريخ وتطويعه، لم تغفل المادة الإعلامية عن توجيه سهامها للمعارضين، ذلك النشاز الذي لا نكاد نجد له موقعا في خريطة الولاء الوطني.

لقد عبرت جريدة الحرية، الناطقة باسم الحزب الحاكم، بكل وفاء عن هذه الصورة المخونة للمعارضة في افتتاحيتها يوم 20 مارس/آذار 2006 من خلال القول إن مكانة تونس في المحافل الدولية “كافية لدحض المزاعم وكل محاولات التشكيك والتضليل التي تروجها بعض العناصر ممن عميت أبصارهم وباعوا ضمائرهم للغير وغابت عنهم روح الوطنية”.

أي مناسبة أنجع من ذكرى الاستقلال لتخوين جزء حيوي من المجتمع؟ إن أصحاب هذه الأقلام يعلمون أنهم يخونون جمعيات وأحزابا معترفا بها، فليطالبوا صراحة بمحاكمتهم بالخيانة العظمى كي يكونوا منسجمين مع خطابهم.

أليس التخوين على هذه الشاكلة مرادفا سياسيا لسلاح التكفير لدى المتطرفين الإسلاميين؟ نعم، إن كان التكفير مؤسسا لكليانية (زبونية) ثيوقراطية، فالتخوين لا يمكن أن يؤدي إلا إلى كليانية مدنية.

ماذا تحقق من مطالب الاستقلال؟

كي نذهب بعيدا في فهم المعاني التاريخية للاستقلال، لا بد من الخروج من قوقعة الوطنية المؤسسة للذات السياسية بمعناها الأدنى، أي مجرد إنسان يحمل جنسية دولة ما، والتعامل مع مفاهيم الاستقلال والحرية والكرامة خارج الاحتكار السلطوي الذي ينفي استمرارها كمطالب.

وهذا يعني التعامل مع هذه المفاهيم من خلال عمقها الفلسفي والثقافي العام بالنسبة للواقع الراهن من غير إخراجها عن سياقها التاريخي الأصلي.

كيف ذلك؟ ورد في برنامج الحزب الحر الدستوري التونسي في مؤتمر نهج الجبل يوم 12 مايو/أيار 1933 العمل على إنشاء برلمان تونسي تكون الحكومة مسؤولة أمامه، والفصل بين السلطات ثم إقرار الحريات العمومية وإجبارية التعليم.

ويوم 2 أغسطس/آب 1942، رفع المنصف باي، الذي كان قد اعتلى لتوه العرش التونسي، مذكرة إلى الحكومة الفرنسية تضمنت ست عشرة نقطة من بينها الإفراج عن المساجين السياسيين.

بعد عقود من هذه التواريخ، وفي نفس البلد، تونس، ما زلنا نسمع صدى لجانب كبير من نفس هذه المطالب، إذ ها هي الأحزاب والحركات التي التفت حول مبادرة الثامن عشر من أكتوبر/تشرين الأول (إضراب جوع بعض رموز المعارضة) ومعها العديد من الجمعيات المستقلة، تعيد رفع مطلب إطلاق سراح المساجين السياسيين كحال المنصف باي سابقا.

نفس هذه القوى تنادي اليوم بحق التونسيين في انتخاب برلمان حر وبالفصل بين السلطات وبإقرار الحريات العامة. فهل توقف التاريخ أم ترانا أمام نموذج مجسد لمقولة “التاريخ يعيد نفسه”؟

قبل كل شيء لابد من التعامل مع هذه المعطيات التي تعود إلى الفترة الاستعمارية في سياقها التاريخي، وذلك بالقول إن هذه المطالب لا تتنزل ضمن قراءة فلسفية عميقة تؤسس لبديل مجتمعي جديد بقدر ما كانت وسيلة لمحاربة الآخر المستعمر وإسقاط شرعية هيمنته على البلاد.

أي أن مطالب الحرية والمواطنة كانت وسيلة للتعبير عن وجود الأنا الوطني في مواجهة الآخر المستعمر، ورغم ذلك لا يمكننا أن ننكر تواصل نفس هذه المطالب ولكن في سياق جديد، هو سياق معركة المواطنة واستقلالية الفرد عن كليانية السلطة المنبثقة عن الاستقلال التي ترى أن الحرية والعدالة تحققت مع تحقيق الاستقلال، فهي بالتالي ملفات مغلقة.

قد تكون لهذه المقابلة بين الجذور الأولى للعمل الوطني زمن الاستعمار والمطالب الحالية للمعارضة أبعاد رمزية، لكن ذلك لا يلغي تواصلها الفعلي في سياق حضاري أشمل من المنظور الوطني الضيق، أي مشروع بناء مواطنة حقيقية تجسدها تمثيلية فعلية وتسيير مؤسساتي حديث بالإضافة إلى فتح هامش الحريات أمام المجتمع للتعبير عن ذاته.

إن مشكل دولة الاستقلال -وهذا ينطبق على العديد من دول العالم الثالث- يتمثل في كونها منبثقة عن دورها التمثيلي لهوية المجتمع السياسية، وهو دور تحول إلى نفي لهذا المجتمع بتحول التمثيل الوطني إلى نظام أبوي يعتمد على المراقبة وعلى العقاب وفيه تفكر الدولة بدلا عن المواطن.

أي أننا انتقلنا من نفي المجتمع على أساس الهوية الوطنية، زمن الاستعمار، إلى ذوبانه في ظل دولة الأب القائد بعد لاستقلال.

خمسينية الفرص الضائعة

مقارنة مع العديد من الدول العربية التي انبثقت عن الاستقلال، تبقى تونس بلدا متميزا من حيث الحصيلة العامة للتجربة الاستقلالية، إذ يجب الإقرار بأنه تحققت خطوات هامة على الصعيد الاجتماعي والمؤسساتي وحتى الاقتصادي قد لا نجد لها مثيلا في بلدان أخرى.

لكن المشكل يتمثل في قواعد هذا التقييم في حد ذاته، إذ ما هي المقاييس التي يمكن اعتمادها لتقييم هذه التجربة؟ هل إن الإنجازات المادية كفيلة وحدها بتكوين حكم موضوعي عن دولة الاستقلال؟

أعتقد أن المقياس الأساسي يجب أن يكون حاجيات المجتمع ذاتها بالمقارنة مع طموحاته، وبالمقارنة كذلك مع ضرورات الانخراط في الفضاء العالمي.

في هذا السياق أقول إن ما تحقق من إيجابيات في دولة الاستقلال التي تحاول السلطة اليوم أن توظفه لإقناع المجتمع بأن ما تحقق هو أقصى ما يمكن الوصول إليه، هي على العكس من ذلك مؤشرات لمسيرة متواصلة من الفرص التي أضاعتها البلاد بسبب نظام الشخص الواحد.

فبالرغم مما تم إنجازه في مجال إعادة هيكلة البنية الديموغرافية للمجتمع عن طريق سياسة التنظيم العائلي، حيث تعد تونس من بين الدول القلائل في العالم الثالث التي تمكنت من الضغط على نسب الولادات، فإن الدولة لم تتمكن من الاستفادة من ضعف النمو السكاني مع ما يصاحبه من تراجع في الضغط على المصاريف العمومية وكذلك من قلة الضغط على سوق الشغل.

فالصورة على أرض الواقع مغايرة لذلك تماما، حيث البطالة في ازدياد مطرد وخاصة لدى حاملي الشهادات الجامعية، مع عجز مستمر في ميزانية الدولة تحاول السلطة الحالية تجاوزه عن طريق موجة خصخصة لم تشهد البلاد مثلها.

لم تتمكن دولة الاستقلال كذلك من الاستفادة من التقاليد الثقافية التي تبلورت قبل الاستعمار وتواصلت دون انقطاع خلاله، فقد أدت السياسة الثقافية الهجينة التي ترسخت، خاصة منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي إلى بلورة ساحة ثقافية لا علاقة لها بعمق الثقافة التونسية التي كانت تنخرط بالفعل في سياق رؤية النخبة لمشروع مجتمعي قائم على الثقافة العقلانية المنفتحة، ربما عُدَّ الطاهر الحداد، المنادي بتحرر المرأة، من بين أبرز رموزه.

أما اليوم فإن رموز التواصل الحقيقي لهذه الثقافة النوعية محاصرون من طرف السلطة التي أغرقت سوق المعرفة والذوق بنماذج ثقافية هابطة ودون أية شخصية، مما دفع بالعديد من الشباب إلى العودة إلى المنظومة الدينية، محاولة منهم لإضفاء معنى على وجودهم وفهم واقعهم في ظل استبدال ثقافة العقل بثقافة الاستهلاك والابتذال.

ألخص فأقول إن هذه السلطة حرمت البلاد من تطوير ثقافتها العقلانية وحرمت العاصمة تونس من أن تكون ملاذا للثقافة العربية العقلانية ومركزا للإبداع، لقد أدت على العكس من ذلك إلى تهيئة الأرضية لنسخ جديدة من التطرف الإسلامي.

حصار الثقافة المبدعة في تونس ليس إلا وجها من وجوه المراقبة الصارمة التي تفرضها الدولة على المجتمع ككل، وهذا ما يفسر جمود المشهد الإعلامي الحالي ورتابته، ويعطي شرعية لاستمرار مطلب الحريات العامة منذ 1933 إلى سنة 2006 متجاوزا بذلك خصوصية السياقات التاريخ.

غياب الحريات العامة أضاع على تونس، البلد المهيأ اجتماعيا وثقافيا، فرصة أن تكون تجربة رائدة في مجال الديمقراطية والتداول على السلطة.

وللأسف فإن دولة الشخص الواحد الأوحد جعلت النخب التونسية تنظر بإعجاب إلى تجارب متميزة في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وفي باقي رقاع العالم، في إشارة إلى يأسها من إمكانية تحريك الوضع السياسي الداخلي نحو الديمقراطية الحقيقة.

إن القيمة المطلقة لمفاهيم مثل الحرية والكرامة الوطنية والاستقلال، غير مرتبطة بالسياق الاستعماري، ذلك أن هذا الظرف يقزم محتواها الفلسفي العميق ويحصرها في قضية الهوية الوطنية ومواجهتها مع الاستعمار.

في هذا الإطار يمكننا بالفعل القول إلى حد ما إن الاستقلال حقق أهدافه أو بعضا منها.

أما إذا ذهبنا إلى فضاء أوسع من فضاء الوطنية، ونزلنا قراءتنا في سياق البحث عن مجتمع بديل وعن إنسان جديد يرقى إلى متطلبات الحاضر فلا يسعنا إلا القول إن استمرار نفس المطالب السياسية منذ الفترة الاستعمارية إلى اليوم يطرح على السلطة الحالية في تونس وكذلك في البلدان العربية الأخرى، أسئلة مشروعة حول الجدوى من الاحتفال بالاستقلال في ظل مواجهة مطلب كرامة الإنسان بكرامة أوطان كانت شهيدة الأمس فأضحت سجينة اليوم.

المصدر : الجزيرة