د. خالد الطراولي
يتواصل مسلسل التجاذب والتنافر بين أطراف الشأن السياسي من معارضات وسلطات ، بين شعوب وحكام، من أجل غاية نبيلة وشريفة هي العمل من أجل الصالح العام عبر مراكز القرار والقوة في البلاد. ليس عيبا أن يطمح الفرد والمجموعة إلى الحصول على التمكين الأعظم حتى يطرح برنامجه وينزّل رؤيته ويقود البلاد والعباد إلى شاطئ السلامة والرقي!. يبدو الحديث نموذجيا ولعله مثاليا ولعله يطرق أبواب الأحلام والأماني لما نريده لبلداننا، ولكنه الحقيقة والواقع في أرض سليمة واعية وراشدة، وهو من المسلمات والبديهيات التي تعيشها الشعوب التي تنزّل إراداتها ومن الحكام التي تحترمها.
هذا الصراع المدني والسلمي الذي يمثل إحدى خصائص المجتمعات المتحضرة والواعية بدورها الإنساني والحضاري يكاد ينعدم في بلداننا، وهو أحد أهم أسباب تقهقرنا وزيادة تخلفنا، ولن نكرر الحديث في شأنه فقد أصبح علما شائعا داخل بيوت العامة، وحتى في قصور الحكام والقادة. فلا سلطة مدنية بدون صراع سلمي ومدني، ولا مسارا سليما للحكم بدون منهجية للتداول والقبول بالآخر، ولا سلوكا غير منحرف في القيادة والحكم بدون ثقافة وعقلية سليمة لدى العامة والخاصة، تبحر في تاريخهم السوي، وترسي في حاضرهم بكل هدوء ورشد ووعي وسلام.
في هذا الإطار المشوش الذي تعيشه أوطاننا، وفي ظل تجاذب غير سليم وعبر تنافر صاعق وجائر في الغالب من الأمر، حيث يسود الرأي الواحد واللون الواحد والحزب الواحد والطابور الواحد والزعيم الأوحد، يظهر للعيان هشاشة مساراتنا التغييرية والتنموية، وانغلاق الأفاق وانعدام الآمال، وهيمنة العبث وغياب الرؤية الموفقة والفعل الحازم والسديد، وتعيش الشعوب سياسات رد الفعل والتبعية والمماثلة، ويغيب الفعل والمبادرة الصائبة عند الحاكم والمحكوم، وينهزم الاستقراء الصالح والاستشراف العاقل والناجح، وتدخل العقول، قبل السلوك والعواطف والمشاعر، في متاهات العبثية والترهل والحكم غير المسؤول وغير الراشد!
ولقد تتعدد مشاريع التغيير في بلداننا بتعدد مرجعياتها وأيديولوجياتها وأهدافها، ويتواصل الصراع بين سلطات حاكمة رفضت في أغلبها التقاسم والتعدد والتداول، وبين معارضات كُمّم بعضها واستؤصِل بعضها ووُظّف بعضها،. ويمثل المشروع السياسي ذو المرجعية الإسلامية أحد هذه المشاريع المغيبة أو المهمّشة، تحت عصا “القانون” حينا، أو تحت عصا الجلاد حينا آخر! في ظل هذا الإطار غير السليم والعبثي الذي تشهده ديارنا، وهذا الاستفراد والاستخفاف، تطرح أسئلة التغيير ومناهجه وأهدافه وسلامته ونجاعته مجددا ودائما وكأنها توحي بعدم غياب الإرادة، وتمكن العزيمة، وإشراقات الآمال والأماني، وإذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد فإن وراءها جنان خضراء! : هل من صالح المشروع السياسي ذو المرجعية الإسلامية،حسم الصراع الآن؟ هل من صالح البلاد اليوم وفي ظل هذا الشغب العالمي والتطاول والعربدة، وسياسات الخوف والتخويف أن نمر مر الكرام إلى تنزيل وتبني الورقة الإسلامية، تبني مشاعر وعاطفة ورد فعل، دون مراحل وتدرج واستشراف واستقراء وعقل؟
لعل الإجابة حول هذه الأسئلة يبقى نسبيا وغير عام، وإلا سقطنا في التعميم الجارح والمسقط لموضوعية البحث وجديته. فلكل موطن خصوصيته وظروفه، ولكل حركة تغييرية برنامجها ومراحلها، غير أن بعض نقاط اللقاء والوحدة تنبثق من هنا وهناك لتمثل في بعض الثنايا خطابا منسجما يمثل إجابة تقارب الموضوعية لتساؤلاتنا. ولا يمثل النموذج التونسي الذي يعنينا في هذه الورقة إلا حالة معبرة عن هذه المحاولة، نريد من خلالها التعبير جملة على أن الصراع الذي يلف علاقة الأنظمة بالمشروع الإسلامي، ليس صراع لحظة وموقع، ولكنه صراع حضاري سلمي مدني يتطلب الكثير من الهدوء والتواصل والصبر والصمود والبناء، وليست الحركات الإسلامية في عجلة في حسمه بأي ثمن، فالتاريخ والحاضر والمستقبل يعملون في صالحها إذا وعت دورها وتدرجت في أهدافها، وصبرت وصابرت على الاستفزازات، وتجنبت ردّات الأفعال.
فسيفساء الإطار التونسي
يحمل المشروع الإسلامي التونسي ولا شك خصوصيات التاريخ والحاضر الذي يعيشه أو يستقرئه، ولكنه لا يخرج عن بوتقة عدم الاستعجال والتريث اليوم في حسم الصراع المدني، وليترك الزمن للزمن، كما يقول الرئيس الفرنسي الراحل، فأكثر من سبب يمهد ويؤكد على صلابة هذا الموقف وإصابته إذا وثق بنفسه ووعى مكاسبه وفقه معطيات واقعه ومتطلبات المرحلة ومستجداتها:
- الوضع العالمي المتردي، والمتوجس لكل مشروع وطني وخاصة إسلامي، مما يجعل كل محاولة للوصول، تقارب العبث والسباحة ضد التيار، والغفلة عن سنن القوة والضعف والغلبة والهزيمة. وهذا التوجس في الحقيقة ليس مبنيا على عداء مطلق ودائم فهو وليد تراكمات ساهم فيها الآخر بنصيب، وساهمت الحركة الإسلامية بنصيبها الذي كثيرا ما توارى وراء الأكمة وقصور الرمال، وغياب المراجعة والنقد البناء والصريح.
إن الحالة الجديدة التي بدأت تبرز خيوطها باحتشام هذه الأيام من قبول افتراضي من قبل أصحاب البيت الأبيض للإسلام المعتدل داخل المشهد السياسي يمثل منعرجا جديدا وهاما ولا شك، وأثبت إفلاس سياسات اللامبالاة والتهميش والمواجهة والاستئصال، غير أن عديد المناطق الرمادية توجب الكثير من الوضوح في الخطاب، وتدعو للجلوس على أرضية صلبة ومتكافئة تبعد التوجس أو المكر وتبني على صفاء.
وإذا فهم المشروع الإسلامي يوما أن المصلحة والمبادئ يمكن أن يلتقيا تحت خيمة الوطنية والصالح العام والرشد والرشاد، وأن العمل من أجل مصلحة البلاد والعباد لا تلغي المبادئ والثوابت، عندئذ يمكن لهذا المشروع أن يثبت أقدامه ويركز خطواته ولا يتعجل أمره، ويكون في مساره غير المتسرع ولا الكاسح، مصيرا هادئا ونافعا للبلاد والعباد وللإنسانية جمعاء. - إن العودة المباركة التي تشهدها البلاد إلى رحاب الدين والتدين ولو في جانبه الشعائري، تملي الكثير من التريث والهدوء والصبر والمرونة. ولن يضيرنا ما تحدث به بعضهم عن خوفهم من عنصر التواكل والانسحاب والتقوقع على الذات الذي يصطحب هذه الصحوة. ورغم أهمية هذه الأقوال وسياسية أبعادها، فإننا نزعم أن هذه الصحوة تبقى ظاهرة طيبة للبلاد، وأن الحالة الطقوسية التي تعيشها ليست إلا مرحلة طبيعية تعيشها المجتمعات في تطلعها الإيماني نحو الله، فالنقلة الروحية الشعائرية جزء من مسار صاعد نحو الأفضل والأحسن والأجدى، يبتدئ بالذات والنفس ليلامس الاجتماع والاقتصاد والسياسة. ولن يكون المشروع السياسي ذو المرجعية الإسلامية إلا استجابة طبيعية ولقاء حتميا مع الظاهرة، إذا وعى دوره ومنهجية عمله وأطوار فعله، وفهم انفصاله الحيني معها وابتعد عن توظيفها أو استغلالها أو تبنيها، وغلّب الانتظار الواعي والمسؤول، على استفزازات الواقع وإثارات الصديق والمنافس، واستدراجات التمكين والحكم المتسرع قبل نضج الثمرة وسقوطها.
إن وضع المعارضة لا تحسد عليه، فرغم غياب المشروع الإسلامي عن التداول والتواجد، والرمي بأهله في غيابات السجون والمنافي، ودخول البلاد في بحر لجي من الظلمات تواصل أكثر من عقد من الزمن طال الأفراد والأهل والعشيرة، وضُرب الإسلام في شعائره وسلوكياته قبل اقتصاده واجتماعه وسياسته، رغم كل هذا التجفيف والاستئصال لكل ما يمس عن قرب أو بعد للدين والتدين، لم تستطع المعارضة بكل أصنافها، من كانت داخل الإطار وشكلت عنصر ديكور باهت، أو من عملت جاهدة داخله، أو من استبعدت مكرهة عن التواجد القانوني، أن تعوض الغائب، وتكمل الناقص، وتشكل قطبا جماهيريا فاعلا وفعّالا.
لقد صبغت القطبية بين المشروع السياسي ذو المرجعية الإسلامية والسلطة القائمة، البلاد التونسية لفترة طويلة ولا شك، وهمّشت ما سواها، وظلت هذه الحالة منبع نقد وتوجس وخوف، وظل صراع الأقطاب مخفيا في البداية، ثم ضُرب القطب الإسلامي وخرج من الإطار، وخلا المناخ للسلطة والمعارضة بكل أصنافها، حتى أن أصحاب المشروع الإسلامي أصبحوا ينادون ويدافعون عن أصناف من المعارضة، والدفع ببعض رموزها إلى الصدارة، حتى تكسب المصداقية المرجوة و الجماهيرية المطلوبة. ورغم كل هذا العنت، ورغم خلو الساحة، وحتى نكون صادقين، فالسلطة سعت بكل ما أوتيت من قوة، إلى إبعاد كل من ينغص أو يشكل تهديدا ولو صوريا عليها، بالرغم من هذا الفراغ النسبي، فإن المعارضة غير الإسلامية أخفقت في لمّ شملها، وكثر دعاتها ورموزها، وقلّ تابعوها، وعجزت أن تشكل حلفا ومحورا ذا مصداقية سياسية وتغييرية، وبرنامجا موحدا للحكم، ومشروعا متكاملا للإنقاذ.
والمشروع الإسلامي في ظل هذا العجز للمعارضة ليس من مصلحته و لا من مصلحة البلاد التسرع والعودة إلى القطبية القديمة التي جعلت السلطات القائمة تستفرد به وتطرحه أرضا مغشيا عليه، أمام عيون شامتة أو عاجزة أو باكية، وقلّ المدد وجدب الفعل إلا اللمم! ليس من المصلحة مواجهة السلطة ولا القفز على المعارضة وتجاوزها، ولكن أيضا ليس من المصلحة اليوم الاتباع الأعمى لمنهجيات المعارضة وصولاتها وجولاتها، إن صعدت سلما صعدناه وإن دخلت جحرا دخلناه، ولكن إن رأينا حسنا قلنا حسنا واتبعناه وشجعناه، وإن تراء لنا خطأ، اجتهدنا وقلنا خطأ واستبعدناه، فللمشروع الإسلامي مبادؤه ومصالحه التي يمكن أن يلتقي فيها مع الآخر أو يفترق، ولكل محطة ومرحلة اجتهاداتها ورؤاها وفقهها، وهذا من سنن التجاذب السياسي وتنافسه السليم ولا ضير.
إن هذه الأرض تحمل تاريخا ودينا وتراثا وهوية، والمشروع الإسلامي لم يتصادم معها بل كانت تمثل مورده ومرجعيته، وهو سبب جماهيريته ومصداقية فعله. والشعب التونسي مهما قيل من هنا وهناك عن استسلامه وانسحابه وعدم تحمل مسؤوليته، يبقى رغم العواصف التي تريد اقتلاع جذوره، أو الاستدراجات التي تسعى إلى استغفاله، يبقى وفيا لهويته، وفيا لتراثه، وفيا لوطنه، وفيا لدينه، وفيا لكل ما يلامس دين الأجداد ومشروع الأحفاد، ولو بكثير من الحياء أو عدم العلم في بعض الأحيان، وكثير من الخوف والتوجس في الأحيان الأخرى. وإنا نرى أن المشروع الإسلامي قد وقف حيث يجب الوقوف، واستسقى حيث وُجد السقاء، وليس عليه إلا العمل الرصين والهادئ والسلمي و النفس الطويل، ولن يضيره وعورة الطريق ولا طول السفر ولا غياب الرفقة الطيبة، ولا قيصرية الولادة، فليس همه التدشين ولكن البناء والتعمير، فالأرض أرضه، والأهل أهله، والمستقبل لن يكون إلا لأهل الديار.
ملاحظة : هذا فصل من كتاب “إشراقات تونسية : الديمقراطية ورحلة الشتاء والصيف” د.خالد الطراولي” يمكن حجز نسخة من الكتاب بالعودة إلى موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي www.liqaa.net أو بمراسلة البريد الالكتروني مباشرة على العنوان التالي : liqa2005@yahoo.fr
iThere are no comments
Add yours