د.خــالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

في البداية تكون المراجعة والنقد الذاتي

المناداة بالنقد والمراجعة داخل الحركة الإسلامية ليس جديدا و لا فريدا وقد كتبت فيه بعض الكتب وعديد الأوراق، غير أنه كثيرا ما انحسر داخل بعض الأطر والأفراد ولم ينل نصيبه الأوفى عند القاصي والداني، وغالبا ما استوطن منازل المثقفين وقارب ترف الحديث! غير أن تفجّر عالم المعلومة وتيسير الحصول عليها ودخول الانترنت إلى الغرف والأماكن العامة والخاصة، يسّر الحديث وعظّم شأنه وأعطاه أبعادا ضاغطة على الجميع، من نادى بالمراجعة ومن نودي به عليها، فأصبحت المسؤولية عامة وشديدة وتحت الأضواء الكاشفة!

لن نعيد كلاما ملته الأنفس بعض الشيء وهي محقّة، في أن النقد داخل الحركات الإسلامية كثيرا ما لقي عقبات وجدرانا، وأن الرأي المخالف كثيرا ما وجد راحته خارج أسوار التنظيم، ولا يعجب المرء حين يرى الكمّ الهائل من المفكّرين والمبدعين والعلماء، الذين استطاعوا أن يخطّوا كتابات رائعة ويثروا المكتبة الإسلامية والإنسانية بمؤلفات وتنظيرات صائبة ورائدة، وهم خارج غرفة التنظم، بل أنك تجدهم في حالة موت وانسحاب، حتى إذا رموا بغشاوة التنظيم جانبا ورأوا أنوار الحرية والاستقلالية خارجه تفتقت مواهبهم وخرجت للسطح عبقريات وظهر رواد ومدارس. مشكلة التنظيم وحبس حرية الرأي والفعل داخله، تبدو في بعض الثنايا منتهية عند البعض ومازالت سارية المفعول عند البعض الآخر.

وإذا كان الحديث عن النقد والمراجعة ليس جديدا في أروقة الحركة الإسلامية وبين الكتاب كما قلنا سالفا، إلا أن تكراره أو مواصلته أو بروزه بين الحين والآخر تعبير عن ثلاثة أحوال :

الإيجابي هو أن هذه المعاودة أو الاستمرار هو دليل معافاة حتى وإن اقتصر على القليل، فالجسم الحيّ هو الجسم الذي يتحرك ولو كان تحركه انتفاضا في بعض الوقت أو تمردا أو أصابع اتهام.

السلبي هو أن استمرار المناداة دليل أيضا على أن الجسم لم يسمع النداء أو أنه لم يعطه حقه كاملا! فتهميش هذه الصيحات المتتالية تعبير عن مرض ملازم يمكن أن يأتي على الأخضر واليابس فيحبط أفرادا ويفقد آمالا ويعثّر المشروع، فليس من المقبول عقلا ونقلا أن ينحبس مدرار المراجعة داخلا ويرمى به في وجوه الخارج كمطالب ونقائص!

وبين هذا وذاك فإذا كانت مرحلة النقد البنّاء محطة منهجية صائبة في التجاوز، إلا أنها تبقى محطة في مسار، ولن يجدي النقد إذا لم يكن يحمل منهجية البناء، ولن يولد النقد بناء ثابتا إذا لم يحمل مضامين قيمية وأخلاقية تحصّن إطاره وتشكل عناوين المسار والهدف، ولن يجدي النقد إذا لم يفرزه إطار سليم وفضاء حر، فالإبداع حالة لا تستطيع التماسك والثبات خارج إطار من الحرية وتعدد الآراء.

البناء والغيبة الكبرى

لَكَم ذكرتُ دائما وأعيده اليوم في إطار عام، دون خوف أو مواربة أن المشروع الإسلامي التونسي ينقصه الكثير من العمل الجاد والبنّاء والمتواصل… كان الجانب الحقوقي ولا يزال غالبا مهيمنا وكان إفراغ السجون همّا دائما، تفسره ولا شك معاناة وآلام وضحايا، ولكن لا تبرر ضمور جوانب المراجعة والبناء… ففرغت العقول قبل أن تفرغ السجون. ارتهن العلمي والمعرفي بالسياسي وخاصة الحقوقي، ففشلنا في الاثنين… كم سؤالا في البناء أودّ طرحه ويودّ الكثير الاستفسار حوله، وينشدون جوابا فلا يجدونه عندنا… كتاباتنا حدثية في أغلبها، صحفية في إنشائها، يقاس بعضها بالأمتار…

نعم ساهم البعد الأمني وغلظة العصا في إمساك الحبر عن السيلان حتى توارت عقولنا حبرا جامدا، فتجمدت معه إرادتنا وقلّ فعلنا وتفاعلنا… بالغنا في الشعارات والخطاب السطحي والفضفاض المنمّق بعبارات الإنشاء والخطابة، ولم لا في إطار من الآيات والأحاديث، حتى لا يظهر ضعف المنهج وسطحية المعالجة، وحتى لا يتعرّى الخطاب فنتعرّى معه!

عقدان من الزمن الكامل يقاربان على الانتهاء وأقلامنا محبوسة عن البناء، وعقولنا مجمدة وكأنها توقفت عن الحياة… لن نبرر هذا بقلة الزاد وصلف العيش وضيق ما باليد وعدم التفرغ، فكل شيء نسبي في الحياة والإرادة تنسف الجبال والمشروع أكبر من أن توقفه لحظات عابرة على صعوبتها، ولكل مرحلة فقهها وتخطيطها، وفقه مرحلة الابتلاء يختلف عن فقه مرحلة النعمة ولكنه كله فقه بناء!

ماذا قدمنا في المسألة الاقتصادية، ماهي أجوبتنا حول العولمة الزاحفة، ماهي بدائلنا حول الشراكة الأوروبية أو الأمريكية؟ ماهي مقاربتنا للتنمية في ظل نماذج مطروحة وواقع اقتصادي واجتماعي يتوغل في مناطق الخطر؟ ماذا أنتجنا في الأدب والثقافة ونحن نريد تغيير العقول مع ملئ البطون؟..، لماذا لم نر القصة والسيناريو، خاصة وأن المادة فاضت من حولنا…زنزانات ورحلات تشريد وحياة أسر وعوائل تقارب الأساطير.. لا تذكّروني ببعض الكتابات المرمية من هنا وهناك، فهي قليلة وشاذة… وقلتها دليل على عمق أزمتنا… لن نبني العقول ونحن عقولنا فارغة أو مجمدة، لن يفهم الآخر حديثنا إذا كانت إجاباتنا مراوغات وتهرب عن الإجابة! ولن أكون مشطا في حكمي إذا صرحت أننا لا زلنا لم نبدأ البناء وأن مرحلة التعميم التي تبدو قاصرة عند الآخرين لم نطأها بعد كلية، وأن مناطق عدة من الإشكاليات والتساؤلات لازالت منحبسة في إطار العدم واللاوعي.

أجوبة معلقة وخطيرة!

لا زال البعض منا يمنّي نفسه بأن المشروع الإسلامي حتى وإن تهافت رجاله وخفت مشروعه فهو محميّ من السماء، وكأنه يحمل نصا مقدّسا ورسالة تتجاوز حدود المعقول، فسقط هذا البعض من حيث لا يدري في عصمة فكر وقدسية خطاب، والأمر لا يخرج عن كونه اجتهاد إنساني لمجتمع بشري يحمل الشر والخير في داخله، ومن قِبل رجال يحملون تجربة الخطأ والصواب بين أيديهم كغيرهم من أصحاب الرؤى والأحلام! فلا عصمة لفكر ولا قدسية لشخص ولكنها تنظير وممارسة بشر.

لا زال البعض يمنّي نفسه بأن المشروع الإسلامي لو تُرِك لأبسط الناس وإلى نكرات لا يعرفهم الناس، فإنه في إطار تعددي سليم سوف ينال الأغلبية ويصل إلى حكم الناس ولا يحتاج إلى شدة عناء.

لا يزال البعض منا يدّعي أننا لسنا في حاجة الآن إلى بناء تفصيلي أو متقدم للمشروع، ولسنا مطالبين بذلك، فلندعها حتى تقع، ولكل حال مقال، وأيام التمكين مازالت بعيدة، فلماذا التورّط إن كان ممكنا تجنّبه!

لقد جمعني في إحدى اللقاءات الأسرية هنا في المهجر نقاش مع إحدى بنات الصحوة تقوم بتحضير رسالة دكتوراه خارج الوطن، وفي أثناء تجاذب الحديث سألتها عن رأيها في البعد السياسي للإسلام وعن تمثيليته السياسية في تونس… ولم أتعجب من جوابها… كانت أحلامنا وقراءتنا المغشوشة في واد وكانت الصحوة وآمالها في واد… كانت واقعيتنا المزيفة في واد وكانت الصحوة وواقعها وأهدافها وماهيتها في واد… كان التنظير المعدوم في باب وكانت الممارسة في باب… لا تذكر الفتاة الكثير من تاريخ المشروع الإسلامي التونسي ولا تعرف من رجاله سوى فردا واحدا، وهي تجهل تاريخه ومواجهاته ومحنه وأيام السواد من مشواره، ولا تعرف أسوده الرابضة وراء القضبان أو المرميّين من وراء الحدود!

بل إن الأمرّ في حديثها والذي يجب أن يهتز له وجداننا، ويخلط كل أوراقنا و ويغيّر أحكامنا المسبقة والبسيطة… هو ما أبدته هذه الفتاة الفاضلة من تخوف من هذا “الإسلام السياسي” لأن التجربة الجزائرية لم تتركها في راحتها وهي تشعر بالقلق من إمكانية حدوثها في تونس!

هذه الإجابة المرّة عند البعض، والمفزعة عند البعض الآخر والمربكة عند آخرين، تجعل المشهد السياسي التونسي يختلف في أذهاننا عما نريد إيهام به أنفسنا وهي حقيقة لا يجب إنكارها أو تجاوزها، فهي ظاهرة مستفحلة بين أبناء وبنات الصحوة… جيل بأكمله تعرف على دينه عبر الفضائيات و ملأ تعطشه الإيماني من الأطباق، وانحسرت علاقته بالإسلام في بعده الشعائري، وهي محطة هامة ولا شك في بناء ذاته كما قلت في مقالات سابقة حيث يمثل هذا البعد الطقوسي بداية مسار نحو الانعتاق الكلي من نظر وسلوك وممارسة بائدة، إلى تبني أكبر لأطروحات سياسية واقتصادية تمثل بالنسبة إليه ممارسات وواقع لا ينفصم مع ذاته ومع تطلعاته، وهي محطات قادمة ولا شك إذا اصطحبها من الجهة المقابلة دون توظيف أو استغلال أو تواكل، بناء وبرامج وإجابات ممنهجة وواضحة.

حتى لا يطالنا الجمود والتواكل والإحباط، والواقع يتحرك وغيرنا يبني

إن الحالة التي عليها اليوم المشروع الإسلامي التونسي مهما كانت يافطة حامليه، مستقلين أو منتظمين، تبدو غير مرضية وتستدعي نقلة نوعية في الاحساس بعظم المسؤولية وضرورة النقد الذاتي والمراجعة وبداية التركيز على عملية البناء. سوف لن نبخس الناس أشيائهم ولن نقول أن عملية النقد والمراجعة مفقودة لدى أدبيات الحركة الإسلامية التونسية ولكننا نستطيع أن نزعم أنها بقيت محدودة وغلب عليها البعد الذرائعي من محن ومواجهات وعدم إبراز المساهمة الفعلية في الخطأ والصواب، أو البعد الظرفي حيث تطرح بعض المراجعات في إطار مؤتمر خاص أو عام تنتهي بانتهائه، مما جعل أي محاولة للنقد والمراجعة لا تتحول إلى تيار عام ومنهج للمعالجة وخطاب وممارسة، وهو أحد الأسباب المهيمنة لعدم المرور إلى عملية البناء.

المصدر:
موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي