“والبقية من السجناء السياسيين مصيرهم في ذمتكم”
بسم الله الرحمان الرحيم
بقلم محمد الفاضل
(.. وَمَنْ قُُُـتِلَ مَظْلُوماً فَـقدْ جَعَلنَا لِوَليّهِ سُلطَاناً فَلاَ يُسْرْف فِي القَتْل إنّهُ كَانَ مَنْصُوراً )
[الإسراء-آية33]
في يوم الأربعاء 2006.03.14 فك أعوان السجن أصفاداً من رٍجْلٍ الهاشمي المكي ، كانت مشدودة إلى سريره في مستشفى عبد الرحمان مامي بريانة، و قيل له يومها : قد مُنحتَ حريتـَك فارجع إلى أهلك… وعند منتصف نهار يوم السبت 2006.07.15 إنفكت روح الهاشمي من جسدها ليقال لها:( يَا أيّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ* إرْجِعِي إٍلى رَبٍكِ رَاضِيةً مَرْضِيَةً) [الفجر – 27 و28]. فالعفوعن الهاشمي وإطلاق سراحه من السجن ،كان يُرَاد أن يُقدَم حينها على أنه تَكرماً ورَحمة ،لكنه لم يَمْنحه في واقع الأمر من الحرية إلا نَكـَدَها ،إذ مضى مُذْ يومها يُصارع بجسده النحيف آلاماً، إنتشر في جنباته الورم الخبيث فأنهكه ، لولا أن أدركه عفو إلهيٌّ ، سيمْنَح روحه من نعيم مطلق الحرية أبدَها ونحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً .
لم يكن للهاشمي المكي [1] المولود في منزل بورقيبة بولاية بنزرت في 1958.12.22 من ذنب، سوى أنه منذ شبابه الأول في أول سبعينات القرن الماضي قد انخرط فيما عُرف وقتها بالجماعة الإسلامية التي كانت تعمل على الدعوة إلى الإلتزام بالإسلام الوسطي وقد عُرف بين أصدقائه وزملائه في الشغل بلطفه وحلمه ودماثة أخلاقه،و تقلد على إمتداد تجربته في العمل السياسي لاحقاً، في مناسبتين، مسؤولية قيادة منطقة بنزرت : سنة 1987(حركة الإتجاه الإسلامي ) وسنة 1991 (حركة النهضة). لكنه سيلجأ إلى الإختفاء حين ستـَشُن أجهزة تلك الحكومة، في أول تسعينات القرن الماضي، حملة إعتقالات في صفوف أبناء الحركة ، قياداتها وقواعدها . تاركاً خلفه ، طوال السنوات الأربعة من الإختفاء، زوجته وأطفاله الثلاثة ، يواجهون صنوفاً من التنكيل والإنتقام . وفي سنة 1995ألقي عليه القبض ليتعرض للتعذيب ، بحرق الأصابع بالنار وكيّ المناطق الحساسة من الجسد ، بأعقاب السجائر و التعليق في “وضع الدجاجة” ثم إغراقه مقيداً، إلى حد الإغماء ، في برميل من الماء الوسخ بقيىء من سَبٍـقَه . ولقد أدى إغراقه في الماء بعد أن قُيدت إلى الخلف يداه ورجلاه ، إلى فقدان ذاكرته بصورة كلية ، فتم إيداعه السجن ، حين فشلت محاولات إسعافه بعد وضعه في غرفة الإنعاش بمستشفى المرسى ، ثم نُقل إلى السجن المدني ببنزرت ومنه لاحقاً إلى السجن المدني بتونس .
ظل الهاشمي المكي فاقداً للذاكرة لمدة سنتين كاملتين، ورغم إلحاح الدفاع( الأستاذ لطفي شقرون) في طلب عرض موكله على الفحص الطبي، ورغم أن الهاشمي وقتها كان يجيب بكلمة واحدة:( لا أعلم…) على كل سؤال يوجّه إليه ، فقد أصرت المحكمة أن لاتُسْعف الهاشمي بالعلاج اللازم وجيىء به ليمثُل أمامها فاقداً لذاكرته بصورةً كلية ، وقضت المحكمة في حقه رغماً عن ذلك بـ37سنة سجن وثلاث أشهر، هي حصيلة أحكام ستة ، لقضايا متكررة.
لم يكن حال الزوجة ، سواء زمن إختفاء الهاشمي أو زمن سجنه ، بأحسن مما هو عليه ، فقد دَفعت الزوجة السيدة صبيحة الطياشي [2] ، عقاب إختفاء زوجها ، تعذيباً وتنكيلاً، لاتزال إلى اليوم، تعاني مخلفاتها بين آلام في مستوى الأذن وآخرى في مستوى الظهر.ثم نصبوا لها المحكمة لتقضي بسجنها سنتين وخمسة أشهر مع تأجيل التنفيذ بتهمة التمويل والإنتماء ، وأشبعوا والدها الشيخ المسن إهانات حتى وافته المنية حسرة و كمداً لإذلال عائلته ،كما طرحوا والدتها المسنة أرضاً وأشبعواها ركلاً في كل مرة كانت تقف لتمنعهم من إذاية إبنتها . أما الأطفال فقد كان الترويع الذي تعرضوا له خلال المداهمات ، سبباً في أن يصيب بعضهم داء (البوصفير) ويورث في نفوسهم البريئة طعماً مريراً لطفولة ليست تدري أي ذنب إجترحت ليشملها العقاب .
فالصغرى هٍبَة التي لا تتذكر شيئاً عن والدها ، وكان يقال لها دائماً أن والدها مسافرٌ خارج البلاد . سيكون يوماً عصيباً عليها أن تلتقي، لأول مرة في السجن ، أباً لم يستطع التعرف إلى إبنته ، ويعتذر إلى الزوجة لعدم تذكرها .
أما حامد أوسط أبناء الهاشمي فإنه لايذكر أباه أيضا إلا من خلال ما خلفته الذاكرة من أطياف جميلة غير أنها سريعة و خاطفة ، لكنه يذكر جيداً وجوهٌ قبيحة لرجال كانوا يداهمون منزل أبيه في كل آن وحين ، شاهرين في وجهه الأسلحة النارية و كلابهم المسعورة ترافقهم ،يبحثون عن أبيه في كل مكان وفي كل شيء حتى في بعض العلب المنزلية الصغيرة .
لكن ضحى ، كبيرة بنات الهاشمي ، تذكر جيداً ما يتذكره أخويها وزيادة ، لكن أكثر ما تذكره ،أن أباها كان يهوّن عليها غيابه عنهم، حين تزوره في السجن بالقول ، أنه سيكون إلى جانبها عند نجاحها في السنة السادسة إبتدائي، ليحتفل معها بالنجاح ، لكن تمر السنين ، ولا يتمكن الهاشمي من الاحتفال بنجاح إبنته في بيته، ودون أن ييأس من أن يهوّن الأمر مرة أخرى على طفلته ، كان يجدد لها وعده أنه لن يدع الإحتفال بنجاحها في الباكالوريا يفوته ، لكن مرة أخرى و بعد سبعة أعوام، لن يكون بمستطاع الهاشمي أن يفي بوعد قطعه إلى إبنته، إذ لايزال هناك من يُصِرُ على إبقائه وإخوانه في السجن. وسيعتذر إليها ثانية، ولكن ربما سيطمع في مناسبة لاحقة يحتفل فيها الهاشمي مع أفراد عائلته حين تتخرج ضحى من الجامعة، أو هو يحتفل معهم بزفافها… من يدري ؟
لكن الهاشمي مرة أخرى لن يفي بوعده، لا بهذه ولا بتلك، لأنه سيكون عليه أن يغادرنا جميعاً فور سراحه من السجن بأربعة أشهر.
سيُقال لنا عظم الله أجركم و يرزقكم الله وذويه جميل الصبر والسلوان وسنقول: شَكَر الله سعيكم. وسيقال لنا أيضاً: كل نفس ذائقة الموت وسنقول: حسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله على كل حال.
لكن حين نطلب تعليل مصابنا في الهاشمي المكي الذي لم يتم بعد السنة 48من عمره ، سيقال لنا أن الأمر كان قدراً مقدوراً وأن مرد الأمر كله إلى الله ، كما لو أن التونسيون يحتاجون أن تذكّرهم السدنة بأوليات عقيدتهم. لكنهم سيتخلون عن أوليات عقائدهم تلك حين يتعلق الأمر بالحديث عن معدلات الحياة في تونس فتلك مكاسب التنمية عندهم ولن يتورعوا أن ينسبوا إلى أنفسهم فعل الموت والحياة ، وسيقولون بكل زهو أن إرتفاع معدلات الحياة في تونس يعود إلى العناية الصحية الفائقة والرشيدة التي توليها حكومتنا الطيبة إلى مواطنيها وهم يردون الأمر كله إليهم دون غيرهم. وإذا كانت رعاية الحكومة ، صحة مواطنيها قد بلغ حد تغيير أقدار مواطنيها والترفيع في معدلات أعمارهم ليبلغ 76سنة ، فقد كان يجدر بعنايتها هذه، منذ وقت أن تتفضل أيضاً بتحسين معدلات الحياة في السجون التونسية التي لم يعد يتعدى معدل الحياة فيها 45سنة( معدل تقديري).فإن كانت الحكومة تدري أن الظروف السجنية في تونس مدمِرة لحياة السجناء فتلك مصيبة ،وإن كانت لاتدري فالمصيبة أعظم . ولا يليق بعاقل أن يزعم أن الحكومة التي لاتخفى عليها خافية في أرض الواقع ولا في سماء الإتصالات أو المساحات الإفتراضية ،أن يكون قد غاب عنها ما لم يغب عن تقارير الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين ،من أن مايزيد عن الأربعين من السجناء السياسيين قضوا إما في السجون أو خارجه بعد سراحهم نتيجة الإهمال الصحي .
سيقال أيضاً أن لكل أجل كتاب، وسنقول أن عالم الشهادة، عالم محكوم بمنطق الأسباب والمسببات، وما أصاب الهاشمي كان قد تقاطرت و تراكمت به الأسباب. لتُنشِأ فعلاً مادياً للقتل مع سابقية الإصرار والترصد . قد يكون فعلاً للقتل مركب، يختفي خلفه أيضاً فاعل مركب ، يعي ما يفعل حين يفتت فعله و يعدد الفواعل ويُنوعها إلى : مداهمات وإعتداءات وإنتهاكات وأحكام شبيهة بما صدر عن محاكم التفتيش وأنشطة لاإنسانية في أقبية مُظلِمة وأنظمة سِجنية خلف القضبان ،تفنى فيها أعمار أقوام دخلوها في عنفوان الشباب وأول الكهولة . فحين يُفتِتُ الفاعلُ المركبُ فِعلَه و هُويتَه ، فإنه يطمس بذلك الأسباب والمسببات، ويرحّل منطق الأشياء من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ،وسيواجهك القائمون على الأمر بعد ذلك بقدرية رعناء ربما كفروك بموجبها لو إدعيت في يوم أن هناك غير الله فاعل أنهى حياة الرجل .
لم يغادر الهاشمي قبل أن يسجّل وصيته مذكراً أن من بين من قضى من إخوانه في السجون كان : سحنون الجوهري ومبروك الزرن وحبيب الردادي وعز الدين بن عايشة ولخظر السديري ولطفي العيدودي ومبروك الرياحي وعبد المجيد بن طاهر…..والقائمة تطول
كما أن الهاشمي لم يغادر أيضاً قبل أن يُسدِي إلى الخيرين من الشكر ماهم حقيقون به ، وقبل أن يناشد مكونات المجتمع المدني في تونس جميعها للإسراع قبل فوات الأوان،إلى إنقاذ إخوان له، تركهم وراءه، لا تزال تَفـتِـك الأمراض الخبيثة منهم باللحم والعظم، فذكر دون حصر بعضهم : حمادي عبد الملك وطارق الحجام وبن عيسى العامري ومنذر البجاوي وفتحي الورغي وفتحي العيساوي …. ولابد أنه قد غفل عن ذكر الباقين…
لقد أفن الهاشمي، شهوره الأربعة التي قضاها بيننا يبلّغ إلينا رسالة مفادها: أنه سيكون في ذمة الله قريباً، و لكنه، في حرقة سيدع “البقية من السجناء السياسيين مصيرهم في ذمتكم”
المصدر: عن جريدة ( الموقف) / الجمعة 25 جمادى الثاني 1427- 21جويلية 2006 / العدد 369
[1] جميع الوقائع والمعطيات التي أوردناها في هذا المقال إستفدناها من شهادات إستمعنا إليها من الأخ الهاشمي المكي ومن زوجته وأبنائه إثر خروجه من السجن .
[2] السيدة صبيحة الطياشي زوجة الهاشمي المكي هي شقيقة السيدة مبروكة الطياشي زوجة السجين السياسي إبراهيم الدريدي الذي لايزال يقضي حكماً بـ52سنة سجن. وقد أصابها أيضاً من العقاب ما أصاب شقيقتها .
iThere are no comments
Add yours