بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم ثابتي

لما كان صرح الاستبداد يتراءى لعين السطحي الساذج شامخا شديد الثبات ومتين الأساس رأيت الذين في قلوبهم زيغ والمؤلفة قلوبهم بفتات العطايا يطلقون عبارات التسليم بالقضاء و القدر و يسارعون الي الانبطاحية و عمالة منقطعة النظير و تملق في منتهى الذل. ألم يعلموا أن تصدع البنيان يتأتي بفعل الزمان و تعاقبه و السنين و طورها اذا كان للانسان أن يصبر حينا من الدهر في انتظار هذه السنة الطبيعية فينهار ما كان بالأمس بعيد المنال. أما إذا كان الإنسان في عجلة و لاغرابة فلا يمكن لمن هم في أذل الأذلين أشباه الأموات أن يفهموا أن عجلة الحياة لا تعجل بعجلة أحد. قلنا لهم أن ضرب المعول أشد وطأة و أحسم في تحويل الصروح إلى أنقاض بما هو هدم لا يراعي استقامة ولا علوا. منطق المخربين و الارهابيين و اعداء الأمة هكذا تتعالى صيحات الفزع من ذلك الطابور الخامس الذي سخر نفسه لخدمة العتاة من الجباريين في زمن تحددت فيه شروط المواطنة في استكانة صم بكم عمي.

لن نتكلم في النخب التي أمتطت قاطرة “الدنيا مع الواقف ” خاصة تلك التي وجدت الظرف مكانا و زمانا لتصفي حسابات مع أعدائها التقليديين حتى لو كان الشيطان حليفها لاننا سلمنا بأن مجتمعنا لا يمكن أن يكون خاليا من بذراتها و غرسها في أي ظرف و لن نتكلم في النخب التي أبدعت لنا ديمقراطية وتشدقت بها و أحاطتنا بحداثة لم نلمح مرورها أو مروننا بها و خرجت علينا بمعجزات إقتصادية و أخرى. سنتكلم على المطالبين بالديمقراطية الحق و هم في أغلبهم أصحاب مزاعم متردية جمع اصحابها بين النقد و الهتاف أو اقتصروا على النقد المتفرج مع سلوك الأشراط و التعفف.

و قد يتصور الناظر المتسرع إلى الوضع السياسي و الحقوقي أن مجال المطالبة بالحرايات و الحقوق و الحديث عن المستقبل الديمقراطي للوطن هو شأن وطني عامة و لمن هو كفئ من أبنائه خاصة. فإذا أرجع البصر تفطن إلى أنهما يقينا حكر على النخب المتكلمة بإسم العقل و الحرية بمقتضى كون تانجب الأخرى قد حسمت الأدوار بأن أخرجت الحرية من حياة أفرادها وصفهم ” أعداء الديمقراطية ” و لم يعد الحوار لفرط تفاهته ينحصر حول قضية ” هل لهم الحق في الحرية ” ” كيف نعطي الحرية لأناس فكرهم إرهابي -تخريبي- شمولي”.

و حتى نفهم هذه الظاهرة لا بد أن نبدأ بالبعد التصوري للفصام الحاصل في ميدان الفكر بين نخبنا التونسية. فإرادة اخراج بعض النخب لغيرها من مجال الحديث حول الحريات و الحقوق و المستقبل السياسي عند المتكلمين بإسم هذه النخب أنه أخرج اصحاب المحاولة منها ولم يخرج الحريات و الحقوق من حياتهم لأنه سوف يكون لهم في نهاية المطاف ما تحصل عليه النخب المتبقية من الحقوق و الحريات، حسب زعمهم. ولسائل أن يسأل : كيف يقصي طرف الآخر عن المعادلة و يعتبره خطرا على البلد الواحد و يحدده سلفا زعما و يعتمد على صورة أكثر تشويها في تصنيفه بدل الإدراك الإنساني و المشترك في كل التيارات من حيث هو الأفق المبين الذي يطل منه على الوضع الحقيقي ايجابا لنخب البلد الواحد المتوافقة بعضها البعض بدل الصراعات والتراشق وتبادل التجريم والتقبيح حتى بين الصفوة منهم.

الاستبداد الفكري والتعصب المذهبي و العداوة يسبب الحسد و ضيق الأفق هي علامات و أمارات لا يختلف فيها أثنان حول ردائة وانحطاط الوضع السياسي و الفكري بين النخب ـ نخبنا. حتى أن آخر المعاقل التي بقيت للعقل ألا وهو الحوار قد تم التفريط فيها للأعداء دون أية مقاومة تذكر و أسلم كل فريق أمره إلى آلة المستبد يتحكم في حياته و مقدراته. لا تفاهم و لا عذر ولا حوار. أنى لنا أن نرفع أي إلتباس أو سوء فهم و حتى الحجر الصغير الذي يتدرج من أعلى يصل إلى السفح إلا و قد قامت خلفه عاصفة وانهيارات.

في وضع كهذا لا يصلح معه إلا أن يسعى كل طرف ترويج لمسلكه عبر إظهار وجهة نظره الصح ونظرته الصواب دون أن يحاول هدم مسالك الآخريين أو الطعن في وجهة نظرهم وابطال حججهم و إلا تحركت الخصومة و العداءات لا محالة. أما في ما يتعلق بالمشترك من العمل و المصير فقل تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم عبر حوار لا تكون فيه العبرة إلا للأفكار و ليس للأشخاص في إيطار روابط وطن واحد و القيم الانسانية الوطنية و في إيطار إرتباط المصير ووحدة المستقبل. فسيطرة بعض النخب دون الباقي على النجومية الفكرية إستئثارا منها بالوسائل الدعائية والاعلامية والقوة المادية لن ينفي أبدا المؤثر الرمزي المستمد من الحضارة العربية الاسلامية و أخرى , سياسة النخب الأخرى في نجومية قادمة لا محالة.

فهم لم يفهموا بعد أن التأثير لا يواصل فعله بمجرد علاقته بالزمان و طوله والحاضر وفعله منحصرا في عملية الاستفراد بالساحة وعدم تمكن الآخر من استعمال رمزه المؤثر. وهذا حاصل النجومية العلمانية و الشيوعية التي روجت لمسالكها دون تغيير بل قصرا و قهرا في تغاض سافر لقدر العقل بما هو التبلد والتمرد….. إذا لم يقابل بالاقناع و التخيير.

ولا أزعم أن هذا العلاج الفكري الفلسفي لما أصاب النخب في هذه المرحلة التاريخية كاف بعد أن عانى الفكر نفسه من مآس الفصام وأمراض أخرى لا يمكن تجاوزها إلا بوقفة تاريخية تؤسس لصفحات ناصعة يكون شعارها لا تزر وازرة وزر أخرى بعيدا عن الخوف والفزع من الآخر والمطالبة بأمن لن تجد له نظيرا إلا الأمن الذي تريده إسرائيل والذي لا يوجد أصلا من حيث هو عدمية للطرف الآخر إطلاقا و تسخير لخدمة شعب الله المختار. و حتى لا تسقط في هذا المأزق وترتد إلى أسفل الأسافلين وتقوم إلينا نخبة الوطن المختارة لا بد من الشروع في العلاج وبصورة سريعة عبر التعامل مع صورتي الماضي والمستقبل المشوهتين (ماض ملطخ بالعداوات والتعصب والخصومات ومستقبل يطغى عليه الوهم بسيطرة إستبداد أقدم وجه وأمسخ صورة) لإتقاء الفتنة الداخلية التي هي استراتجية العدو في إلغاء خطر المتحدين و عبر التعامل مع شرور الأعادي في أضيق الداخلين (النخبة) و في أوسعهما (الوطن)والذي يبقى مرهونا بعلاج خطر الفصام.

نأتى الآن إلى الأساس العملى لوحدة النخب في إيطار رهان والحد يتعالى على الحسابات الضيقة وعلى الرهانين المتنافين بإطلاق (وعندئذ يكون هذا الأساس بداية وغاية في ذاته) أو متنافين بمعنى متصادمين دون نفي للتعدد. وعندئذ يكون هذا الأساس هو شرط الرهان الجماعي من حيث هو بداية نطلب بها الغاية و الهدف الذي حددنا فيما سبق. فالجسم الذي يمكن من الربط بين الرهانين هوالحوار أو أي تصور أوسع لمصالحة فكرية و مبدئية وقيمة لا يمكن من دونه أن تكون الإرهاصات والتصريحات والتجمعات والتحالفات التي تشهدها الساحة التونسية دعوة عامة للحق تتجاوز كل الحدود الاديولوجية والعصبية. فالحوار الواقع في الوجود الفعلي أي على الساحة ليس إلا نسبيا يغلب عليه التكتيك أو التوجه المرحلي بحسب المحاورين أو القائمين عليه دون أن يتعدى إلى ان يكون فعلا ناقلا من البداية الناقصة التي يغلب عليها التناقض و التنافر إلى غاية التامة التي يغلب عليها كذلك بعض الإختلاف لكن مع مصالحة تامة وعهود بينة واستراد للتعايش الوطني الأسلم الذي نجعله للضروف الموضوعية الحالية أعظم طموح يمكن تجاوزه ولا تكون وظيفة هذا الحوار فيه من جنس المفاوضات بين الأعداء ذات الأسلوب المتغطرس الدبلوماسي غايته كما قلنا تكتيكية مرحلية لتواصل خداعي دون البحث عن تفاهم حقيقي ومعادلة ثابتة : إذن هو ضرب من ضروب تأجيل الحرب بسلام الحوار الخداعي إلى حين أن تحين الفرصة للإنقضاض في حرب فعلية استئصالية غادرة.

كذلك يمكن ان يصاحب هذا النوع من الحوار المتغطرس (عديم الفائدة) محاولة طرف من النخبة ان يحصر الآخر في ركن أو زاوية الحوار مطالبا إياه (بتأمين المستقبل) و لطمأنة حقوقهم وفزعهم منه طلبا لما سميناه “الأمن الإسرائيلي” و هذا الخطأ الفادح الذي سوف يجعل الحوار في خندق لا سبيل إلى تجاوزه إذا لم يرتفع الحوار إلى الرهان الجماعي المطلوب. فهو تركيع ومحاولة لتحصيل صفقة أو رهان أناني عبر الضغط على الطرف الآخر كي يتنازل أو يعطي تنازلات قد تكون من نوع التكتيكي كذلك و التي لن يفتأ أن يحطمها ويدوسها في لحظة الغلبة في المستقبل.

فوظيفة الحوار لا بد أن تكون منسوبة إلى الغاية داخل فسحة تحد مبدأها بعيدا عن الزيف او الإقتتال تهدف كذلك إلى تحديد شروط و مرجعية تعود إليها الأطراف في حالة الخصومة لأن السلم القائمة من الاوهام (التدافع والتنافس دائما دوام الإختلاف) كما أن الحرب و الخصومة الدائمة كذلك (وإلا لفني الجميع قبل الوصول إلى حاضرنا هذا). فيمكن أن نسمي هذا ميثاق وهم (أو أخلاق التنافس و التدافع) تغلب عليه نزعة وأخلاق الفرسان التي لا يخلو منها بشر أو فكر مع وجود حساب منطقي وعقلي متوازن للربح والخسارة (عند الأقوى والأضعف على السواء) بمنطق المساواة (لا حوار بالخداع دفاعا عن الظلم و الاستئصال لتغليب القيم المادية أو الروحية) بقصد الاتفاق على “مقدار الصدام” الذي يمكن الوصول إليه عند التدافع (لا يمكن أبدا العودة إلى نوع الصدام الاستئصالي الذي مورس في بداية التسعينيات أو السبعينيات).

“كيف يمكن تجاوز العرضي من عوائق الحوار لتحديد الحضاري من العوائق ؟ ” أو هكذا تساءل أحد المفكرين المعاصرين عند محاولته التمييز بين العوائق التي ترجع إلى أدوات الحوار التقنية مثل وسائل التواصل و إلى العوائق التي ترجع إلى طبيعة الانسان نفسه لتحديد تصنيف للعوائق تتحدد على ضوئه الدعوات الخادعة إلى حوار مغشوش كالذي تدعو إليه بعض الشخصيات “الوطنية” مصحوبة بنفاق منقطع النظير في خطابها وكيل بأكثر من ميزان ومحاولات دؤوبة إلى إقتلاع الوجود الإسلامي من كل الواجهات الوطنية أو من جنس الوفاق الوطني المصحوب باستثناء لا يزال في أخذ وعطاء ـ هل نتحالف مع الإسلاميين؟ هل يرضى الغرب على مثل هذه التكتلات؟ هل بقي ما تراهن عليه مع السلطة؟ مازلنا في حربنا الداخلية التي تستنزف كل طاقاتنا وجهودنا بينما عدونا الأكبر ينعم بخلافنا واستبدادنا الداخلي مطمئنا إلى ضيق الفضاء الذي تعيش فيه نخبنا شعارها في ذلك :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.

Thebti@hotmail.com

E. Thebti