د.خــالد الطــراولي
ktraouli@yahoo.fr
يروي ابن الأثير في تاريخه والبخاري في التاريخ الكبير وابن عساكر وغيرهم أن خالد بن عبد الله القسري أمير العراق خطب الناس يوم عيد الإضحى بواسط، فقال : ايها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منا ومنكم فاني مضح بالجعد بن درهم . ثم نزل من منبره وأخذ سيفه ونحر به ضحيته الذي كان مشدودا إلى المنبر كالشاة. وبقي الجسد يقطر دما مقطوعا على مرمى ومسمع من المصلين الذين لم يحركوا ساكنا سواء مغادرة المسجد لنحر أضاحيهم!!!
كان الجعد بن درهم عالما يرى بعضهم أنه كان زنديقا زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، ويرى البعض الآخر وخاصة من المعاصرين أن الحادثة تدخل في إطار تصفية حساب سياسي بين الدولة الأموية ومعارضيها. ومهما كانت المستندات والتبريرات فإن ما بقي من الحادثة وما تناقلته أخبار التاريخ من بشاعة الموقف هو هذا التشفي والقسوة والاعتداء الصارخ على المقدسات دون اعتبار لها ولا لحامليها!
كان اليوم يوم عيد الإضحى يوم تكريم الإنسان وفدائه من النحر بكبش، كان الإطار المكاني مسجد وخطبة وتقرب وابتهال، كان السياق فرحة وسرور فاليوم عيد، كانت حرمة المكان والزمان ترمي بأطرافها على الجميع ولم يخيل لمن دخل المسجد للصلاة حينذاك أو لقارئ التاريخ فيما بعد أن يفاجئه الخطيب وهو ينهي خطبته “الإنسانية” بموقف بشع لا يضاهيه إلا مواقف الوحوش وهي تسعى للفتك بضحاياها دون اعتبار إلإ لكسر جوعتها
ويعيد التاريخ نفسه تحت جنح الظلام
تمر ألأيام والسنون والقرون، ولا ينسى وحش الأمس أن يسري بأحفاده تحت جنح الظلام وتطل علينا صور بشعة يلفها إطار من الحقد والتشفي والاستفزاز الصارخ… لن أعيد الصورة فقد حبر العديد حولها الكثير ولعل التاريخ لن ينساها… رجل يتقدم إلى حبل المشنقة ويتم اعدامه في إطار من الصياح والصراخ… كان اليوم يوم عيد، الكل كانوا فرحين إلا المتدلي من حبل المشنقة….
الزوايا كثيرة لقراءة ما حدث، غير أن الزاوية الصلبة والمنغصة والتي يبدو أنها الغالبة والتي لن يستطيع احد غلقها، هي زاوية الفضاعة والتنكيل والتشفي الطائفي يوم العيد….
نعم كان صدام ديكتاتورا دمويا ولم يفلت من دمويته حتى أقرب الناس إليه كصهريه الإثنين..،
نعم نال صدام من شعبه على اختلاف طوائفهم، أرهب الشيعة وقتل العديد من أبنائهم وعلمائهم، وقتل الآلاف من شعبه الكردي في أعنف وأغرب مذبحة بالغاز شهدها شعب من قبل حاكمه…
نعم يستحق صدام محاكمة عادلة في ظروف طبيعية تكشف عن كل المجازر التي اقترفها في حق شعبه… ولكن هل كان يستحق أن يقع إعدامه في هذا الإطار الزماني والمكاني المشبوه والمستفز والمنغص؟؟؟
لقد كانت الحادثة رسالة بعثها أصحابها وحملها سعاة مشبوهون.. أن الأضحية هذا العام كانت إنسانا وقع التقرب به ابتغاء رضوان السماوات والأرض..، نعم وصلت الرسالة وأخطأت العنوان ولن تزيد النار إلا وقودا وما حولها هشيما وغبارا.
هل فكر شيعة العراق، رغم تعرضهم لأصناف العذاب أن الصورة التي بعثوها قد تنسي الناس كل ما تعرضوا له من بشاعة وجور، وأن ظالم الأمس ومستبد الماضي أضحى في أعين الناس ضحية اليوم ومظلوم الساعة، وأنه أصبح ينظر إليه بعين الرحمة والشفقة ولعله الإعجاب والتباهي؟
هل فكر شيعة العراق أن الصورة التي تبقى حول عراق صدام أصبحت مشوشة، فمع الأهوال والفضائع التي ارتكبها، تصطحبها لاحقا صورة رجل شجاع وإطار منهزم وطائفي..، لقد غابت العراق أمام المشنقة ورأينا العراق يموت بدون مشنقة..
هل فكر شيعة العراق لحظة أنهم فقدوا الكثير من السند عند الطوائف الأخرى وخاصة السنة وهم يعكرون عليهم عيدهم؟..، ما دخلت بيتا هذا العام وما زرت أسرة إلا ووجدت القرف والاشمئزاز يعلو الوجوه، وبوادر كراهية عاصفة تسقط ما بناه شيعة لبنان في الصائفة الفارطة من مقاومة وصمود. حتى أن البعض لم يعد يستسيغ ما حصل سايقا ويتساءل عن صحته ويشكك في العديد من المواقف والصور، وهو الذي كان يحلم بالوحدة وقوة الجماعة ونهاية الخلاف.
لقد خلفت مقاومة الصائفة الماضية انبهارا واحتراما وتقديرا من قبل الطائفة السنية ومساندة منها لحزب الله ولأتباعه، حتى أن البعض بدأ يتحدث عن مدّ شيعي وتوغل للتشيع داخل عديد الأوطان منها مصر وسوريا، حيث ارتبط الفكر الشيعي عند البعض بفكر المقاومة والصمود والوحدة ورفض الطائفية مما جعل الكثير ينظر إليه بكثير من الود والحب وحتى التشيع…وولد عند البعض ساسة وفقهاء وعامة بعض التخوفات والحيطة.
إن ما يحدث في العراق من عصابات الموت والقتل والتهجير والتشريد التي تقوم بها جماعات شيعية (مع وجود عصابات سنية متطرفة كذلك) زاد الطين بلة بعد إعدام صدام بهذه الصورة البشعة وفي هذا اليوم المقدس، وكرّس صورة التشفي والعصبية والكراهية والحقد الأعمى وعدم الاعتبار لممقدسات الآخرين، ولا حتى مقدساتهم أنفسهم، ولا نخال الشيعة إلا قد خسروا من حيث ظنوا أنهم انتصروا، فقد عمقوا الخلاف وشيدوا للطائفية والكراهية سياجا من حديد وبناء صلبا من نحاس، وانهزموا إعلاميا فقد هزمتهم الصورة وأصبحوا عنوان السطوة والفضاعة، وأصبح المستبد عادلا وشجاعا وهي الصورة التي لن تمحى بسهولة من صفحات التاريخ.
كثيرة هي زوايا الحدث، وكثيرة هي التعاليق حول ما وقع، ولكن التاريخ كثيرا ما يعيد نفسه بوضوح، ولا معتبر ولا قارئ له عن روية ورشد… ذهب جعد بن جهم في مذبحة بشعة يوم عيد المسلمين وتحت أنظارهم وبجانب منبرهم ومحرابهم، واختلف المكان والزمان والضحية والأسباب، لكن الصورة البدائية التي كانت مباشرة تراها بعض الأعين وتنتهي بجانب المسجد أو بأطراف الحي الملاصق له، قد أصبحت اليوم مركبة يراها مئات الملايين، وتنتشر انتشار النار في الهشيم يقتطفها الواعي وغير الواعي والذي به مرض وهنا مكمن المصائب والعلل.
لقد ذكر لنا التاريخ أن نهاية الجعد بن درهم لم تنته تحت المنبر وهو يتخبط في دمائه، ولكنها تواصلت لتلمس منفذها الأول والمباشر قبل غيره من الأطراف فتروي الأحداث أن خالد القسري قد قُتل بعد قتله للجعد بوقت قصير؛ في خلافات مع السلطة الأموية وذلك على يد الخليفة الأموي الوليد بن يزيد؛ الذي نكل به وحبسه وصادر أمواله وعذبه ثم دفعه إلى واليه على العراق ليزيده تنكيلا فقتله تحت التعذيب في نفس المدينة التي قتل فيها الجعد بن درهم ويقال أنه قتله بشيء وضعه على وجهه وقيل وضع على رجليه الأعواد وقام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه... وتلك الأيام ندولها بين الناس…
لن أختم حديثي إلا بكلمات أمل وتفاءل رغم العواصف وشدة الظلمة حيث أني آمل كثيرا في وجود العاقلين والراشدين عند كل طرف وفي كل ضفة، وعليهم ينبني صرح الأمل في الخروج من هذا النفق الذي يصاحبه الظلام ولن ينتهي إلا في الظلام، وليعلم الجميع سنة وشيعة أنه لن يكون هناك منتصر من بينهم فكلهم مهزومون أو كلهم منتصرون، فالإنسان واحد والإسلام واحد والقضية واحدة والعدو مشترك حتى وإن خيل لدى البعض أن الشيطان يبتسم!
المصدر : موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي
www.liqaa.net
الجعد بن درهم قتل على ذندقة لانه كان من المبتدعين الضاليين امثال جهم بن صفوان