بسم الله الرحمن الرحيم

عزيزي برهان بسيس

قرأت مساهمتك القيمة وشجاعتك النادرة التي كسرت بها كل الحواجز وتحديت بها الخطوط الإعلامية والأمنية الحمراء، وكتبت من على صفحات جريدة الصباح العريقة التي أسكتتها حسابات السياسيين وألجمتها ضوابط أمنهم القومي الذي زعزعته قصيدة شعرية للبحري العرفاوي أو مرافعة قانونية لعميد المحامين التونسيين وأقدمهم وأكثرهم شهرة وقدرة على البلاغة والتأثير ولا أعني به غير ثاني اثنين ممن أسسوا للنهوض الإسلامي والفكري المعاصر في إفريقية الصغرى، الشيخ الجليل عبد الفتاح مورو مد الله في عمره، وطالبت من غير مراوغة ولا تلعثم بأن يهدي الله الأخ الأكبر فيصدر أوامره المسموعة بعد أن حان الوقت لفتح السجون وإخلائها من نزيلين طالت بهما مدة المقام…

تحيط بي الثلوج هذه الليلة من كل جانب في قرية نائية بأحد المحافظات الشمالية بمملكة الدنمارك أين استقر بي المقام وأنا التونسي الذي لم يألف قساوة البرد إلا في هذا المكان، فقد كانت ثلوج مدينة “مكثر” في الشمال الغربي بتونس أكثر رأفة وأشد حرارة من ثلوج اسكندنافيا، فالأهل والخلان كما تعلم عزيزي برهان يضفيان على المناخ دفئا فقدناه في غربتنا هذه… كنت أريد أن أوقظ عائلتي وأعلمهم بالخبر المفاجأة أن كاتبا تونسيا نطق أخيرا وحز في نفسه أن يكتب مقالاته الأسبوعية الطافحة بأشواق الحرية والكرامة وبالقرب منه رفاق درب يعيشون منذ حرب الخليج الثانية ـ التي اندثرت معالمها وسكن أصحابها القبور ـ وراء قضبان حديدية قرأوا عنها في روايات تولستوي ودوستوفسكي ونجيب محفوظ، أيام الشيوعية الحمراء…

سامحك الله عزيزي برهان… فقد هيجت مشاعري وأيقظت في آلامي وذكرتني بأيام كنت أحلم فيها بعناق أم لم يبق لي من حنانها إلا معاني دافقة تلقيتها عبر الأثير ولازلت أستظل بها من غدر الزمان على الرغم من أنني ثكلت فيها منذ سنتين…

آه يا برهان… في بيتي المسيج بجبال ثلجية بيضاء هذه الليلة، وهي ثلوج بيضاء لم تنزل على الدنمارك مثلها هذا العام، وللبياض كما تعلم عزيزي دلالات لا تخفى على نابه مثلك، ترقد صورة لأمي قبل موتها، عانقتها ونقلت إليها ما كتبت أخيرا عن أيام التنوع والتعدد الفكري يوم أن كان العالم يقف على ساقين واحدة في غرب الأرض وأخرى في مشرقها…

لازلت أذكر وأنا أخاطب صورة والدتي الثاوية تحت اللحود طيب الله ثراها، أن الأمل في اللقاء معها قد يتم هذه المرة فأتمكن من زيارتها حتى في القبر وأقرأ من على تخومه آيات بينات من الذكر الحكيم يؤنسها في قبرها ويكون لها ثوابا يضاف إلى ثواب صبرها على فراقي… وهو أمل لا يعارض معاني الحداثة ولا يتناقض مع متطلبات الزمن الجديد حتى بعد أن سقطت الشيوعية وتيتم أبناؤها ولحقت بهم دول وبلدان…

تعجبت لحالنا في بلاد صغيرة، لا مذهبية فيها ولا طائفية يستباح العرض فيها من دون مراعاة للأخلاق ولا للدين ولا للأعراف القبلية، هل تحتاج جريدة الصباح الغراء التي تعاقبت على الكتابة فيها أقلام كبيرة من مختلف المدارس الفكرية، إلى كل هذا الوقت ليسمح رقيبها أخيرا لمدادك بأن يخط كلمات استعطاف بعد نوم عميق، عن العجمي الوريمي وعبد الكريم الهاروني فك الله أسرهما وبقية إخوانهما! أشد على يديك في توجيه الالتماس إلى سيادة الرئيس بأن يلتفت بعد هذه السنوات إلى هذا الاستعطاف ويأخذه على محمل الجد فيتخذ قرار العفو الذي لن يكلفه مجرد إمضاءة قلم…

الديار وعماراتها عزيزي برهان، لم تعد تغري أحدا، لكن كم من الأشعار صيغت على أماكن لم يبق منها إلا الأطلال، وسلبت لباب البشر من العرب والعجم بمن فيهم برهان بسيس والعجمي الوريمي وعبد الكريم الهاروني والأمين الزيدي والدكتور صادق شورو، أيام قضاها الشباب هنالك، وأقصد الجامعة التونسية… ولا أظنك جانبت الصواب حين أغمضت عينيك عن ضوابط الرقيب فانساب مداد كلماتك يحكي ذكريات جميلة عن أيام التعددية والخلافات الفكرية التي سبق بها التونسيون جيرانهم من العرب والأفارقة، حتى أنها تمكنت من إماطة اللثام على عين الرقيب فسمح بمرورها من دون تشفير… ملعونة هي السياسة، ولكن خلافها منتج على الرغم من غلاء الثمن، فالسجن كما الغربة صنوان لعملة واحدة، والسلطة التي احتوت فريقا من خصوم الأمس كلهم رصيد للوطن، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم…

حركتا حماس وفتح، واحدة إسلامية تمتد بجذورها إلى تيار الإخوان المسلمين والأخرى خليط ينظر له يسار يضرب بعمق في تاريخ الفكر الإشتراكي الوافد وإن كان روادها الاوائل غير ذلك، حركتان تقالتا حتى شبعتا، وأثخنتا دما، لكن نهض العاهل السعودي وناداهم إلى جوار مكة المكرمة فتصافحا وتصالحا، ولم يحل وجود محمد دحلان رغم ما قاده من أعمال فتنة كادت تودي بالجميع إلى حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس، لم يمنع كل ذلك من عناق الإخوة الاعداء وإعلان الصفح وبداية صفحة جديدة قبل أن يترافق الجميع في الطواف بالبيت المعمور…

ترى يا برهان، هل نحتاج نحن في تونس إلى وساطة مثيلة لرأب الصدع بيننا ورفع أسماء بعضنا من القائمة السوداء على جهاز كومبيوتر أمن الدولة؟ ومن تراه سيكون الوسيط بيننا حتى نحقق حلما بكاه كثيرون وكتبت فيه أنت مرثيتك حتى وإن بدت مراوغة في بعض الأحيان ومخاتلة أحيانا أخرى؟

عزيزي برهان

لا أشاطرك الرأي في الوقوف على الأطلال، وكأن التجربة التي أنجبتك وأنجبت أمثالك قد ولت إلى غير رجعة، وأن الحرم الجامعي الذي استوعبك أنت والوريمي العجمي وعبد اللطيف المكي، قد انطفأ بريقه، فلا زال في الحبر بقية لتكتب أنت ورفاقك عن الحرية التي حلمتم بها يوم أن كنتم طلابا في الجامعة، لو صدقت النوايا وطهرت القلوب من الضغائن الأيديولوجية البغيضة، واحترم الكل التنوع والإختلاف الذي أفرزكم…فما بينك وبين هؤلاء لا يرقى إلى العداوة المؤبدة والطلاق البائن…

لهذه المعاني النبيلة التي احتوتها مقالتك أناشد معك قائد البلاد الرئيس زين العابدين بن علي أن ينهي هذا الملف، ويفتح صفحة جديدة قوامها المساواة على أساس المواطنة…

والله من وراء القصد.