بسم الله الرحمان الرحيم
تحولت البلاد التونسية بالنسبة للسجناء السياسيين المسرحين إلى سجن مفتوح في الهواء الطلق بحدود الوطن , أما السجن المضيق فإنه أصبح للكثيرين أرحم من “الحرية ” التى لا تتجاوز الفرحة التى تغمر الخارج من السجن المضيق بلقاء الأهل والأحبة بعد سنوات طويلة من فقدهم وفراقهم , وسرعان ما تتوارى تلك اللحظات التاريخية السعيدة بعد بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع معدودة في خضم السجن الذى يستقبله , هذا إذا لم نقل بضعة أيام أو حتى ساعات . ونحن لا نبالغ حين نقول أن السجين السياسي التونسي المسرّح يدخل فعلا في سجن من نوع آخر لعله أشد عليه وطئة في الكثير من جوانبه من السجن المضيق الذى غادره
ما من شك فإن الشعور بالتخلص من جدران السجن شعور لحظي رائع للغاية
فلأول مرة يجد الإنسان نفسه بعد سنوات طويلة يتنفس بملإ رأتيه , حتى ليشعر بأن الهواء يصل إلى جوف رأتيه باردا نقيا بطعم الماء الزلال كما يصل الأكل والماء إلى قاع معدته
ولأول مرة بعد سنوات طويلة خلت يحتضن أفراد أسرته بلا حاجز من حديد , ومن غير حضور عون السجن الرقيب , فتعتمل الأشواق وتُطفىء لوعة الفراق الطويل , وتغرق العيون والمآقي في دموع الفرحة الحرى , وقد يشوب تلك الفرحة حزن على فقد عزير في الأسرة غادر الدنيا أثناء سنوات السجن
ولأول مرة يرى حركة الناس في الشارع مشاة أو علي السيارات أو على دراجات أو على الدواب كأمر مثير فعلا وقد يرجع صدى ذلك الشعور إلى أعماق النفس فيشعرها بالأسى أحيانا وبالغبطة أحيانا أخرى
ولأول مرة يرى مشرق الشمس ومغربها , إن أشرقت في الصباح يشعر بميلاده معها وإن غربت أشعرته بأن للغروب سحر لا يقاوم وإن كان يخفي مواعيد غير مرغوب فيها لزوار أثقل من الرصاص وأبغض من الشيطان
إن نزلت المطر إستقبل غيثها بلا مطرية واقية يستعذب سقوط خيوطها على جسده في مشهد قد يراه البعض جنونا أما هو فيراه متعة يغسل بها غبن السنين فينتشي بها جسده
إن زار المسجد أخذه الحنين إلى عذوبة ذكري أيام جميلة , يعيش لحظات يشعر فيها بهيبة المكان في نفسه وتعتمل أشواقه إلى زمن مضى ركلته الدكتاتورية بجبروتها , ولكن عودته بعد كل تلك السنوات تخفف عنه وطئة الموقف
إن ذهب إلى شراء أغراض من السوق أو المتاجر يشعر وكأنه لأول مرة يقوم بهذه المهمة فهو في رحلة إستكشاف للمحلات والسوق والأسعار والناس
إن ضمه مجلس الأسرة وإلتقاء الأحباب في جلسة عائلية موسعة أو مضيقة يشعر بدفىء الجلسة وعبق الأجواء وإختلاف المنزل عن ذاك الذى قطنه مكرها لسنوات طويلة
إن أخلد إلى فراشه شعر بنعومة المضجع و بأن السجن أقسى مما يقدر الإنسان , فالفراش هنا مختلف بل لا يقارن بذاك الذى تركه في منازل الظالمين
إن نظر إلى السماء نهارا أو ليلا رآها بأفقها من كل إتجاه وهو ما كانت أسوار السجن تحجبه فكان المشهد مختلفا لأن الصورة مكتملة
إن تنقل على ساقيه إكتشف لذة السير وإعادة إكتشاف الحارة والمدينة وإسترجع الذكريات قبل دخوله السجن
إن شاهد التلفاز شاهد القنواة التى لم تكن متاحة في السجن من غير القناة التونسية فقفزت إلى ذهنه المقارنة بين القناة الأخيرة وغيرها من الفضائيات التي أحدثت ثورة في الإعلام بينما ظلت القناة التونسية صورة للإعلام المزيف , ولعل السجين ينبهر خاصة حين يتابع قناة الجزيرة فيشعر أن الزمن مر وأن واجبه الملح هو تقدير الزمن كي لا يشعر بالإغتراب المبطن عن الواقع الذي يعيشه وذلك ما يجعله يكتشف في كل مرة أن الظلم الذى تعرض له يكبر كل يوم بعد خروجه من السجن المضيق مع كل إكتشاف لمرور الزمن أو مواجهة صعوبات في الحياة أو غير ذلك من الأسباب التى تشعره بأن جريمة الإعتقال والسجن كانت أفضع مما قدر بأشواط كثيرة … إلى غير ذلك من مشاهد الحياة الطبيعية التى تراها عين الخارج من السجن بحدقة الإكتشاف والإنبهار وحتى الطرافة . ذلك أن كل تفاصيل الحياة اليومية خارج أسوار السجن المضيق هي بالنسبة للمسرّح ليست حياة عادية , ومهمته بعد سنوات الغياب الطويلة هي إعادة إكتشافها مرة أخري بكل تفاصيلها المملة وهي تجربة فريدة
إذا كان الزمن قد مرّ بمقدار السنين فإن السجين الخارج من السجن مهما نفخ في مرور الزمن فإنه يحتاج بعض الوقت كي يشعر فعلا بأن الزمن مر خارج السجن المضيق أيضا وليس داخله فقط , وبالرغم من ذلك لعله يبقى طوال حياته يشعر بأن سنوات السجن التى قضاها هي الوقت المستقطع من حياته الذى سيرافقه بقية العمر حتى يغادر الدنيا , لأن السجين يحمل معه إرث السجن آثارا في بدنه وفي شعوره ومن الصعب للغاية التخلص منه مهما كانت قوة الشكيمة وعلوّ العزيمة وخاصة على المدى القريب والمتوسط على الأقل
يخرج السجين من السجن المضيق لا يرى الواقع بكامل تضاريسه , أو لعله يريد أن يرى الجانب المشرق فيه لأنه يريد أن يستأنف حياته , ولكنه يجد السبل قد سدت في طريقه وهذا ما يجعله يلج إلى سجن جديد
أول أبواب السجن الجديد هي المراقبة الإدارية التى يخضع لها السجين السياسي حتى وإن لم يكن له حكم في ذلك , حيث يُلزم يوميا بتسجيل حضوره في أكثر من مركز أمني ليوقع في دفتر حضور معد للغرض , وهذه المراقبة الأمنية لا تتم باليسر المطلوب وإنما تتحول إلى عذاب يومي بأتم معنى الكلمة , ذلك أن عدد مرات تسجيل الحضور قد لا تقتصر على مكان واحد بل أمكنة كثيرة , كما أن عدد مرات الحضور اليومي في أي مكان من تلك الأمكنة قد لا تقتصر على مرة واحدة وإنما مرات متعددة , ويصاحب ذلك الحضور معاملات مهينة وسلوكات شاذة ورخيصة تستهدف إهانته والنيل منه وقهره وإذلاله , وهنا وجب التنويه إلى أن هذه السطور لا تتسع للإحاطة بهذا الجانب من الموضوع والذى يدمى القلوب , وسيبقى وصمة عار على جبين نظام لا يعرف الرجولة ولا يعرف قدر الرجال
كما يجد السجين السياسي المسرح نفسه أيضا أمام تحديات أخرى كثيرة
فهو ممنوع من الحركة والتنقل داخل البلاد إلا بإذن مسبق من مصالح الداخلية التونسية , مما يجعله تحت إقامة إجبارية مموهة , وأي إنتقال إلى أي منطقة أخرى يجد إشتراطات ومضايقات أمنية تبدأ من الإلزام بالحضور للتوقيع في دفتر الحضور , إلى المضايقات في الشارع إلى الإحتجاز والإهانات والتعذيب , إلى إجباره على العودة من حيث أتى
وهو ممنوع من التواصل مع الآخرين إلا أسرته والمقربين منه من ذوي القربى , وحتى علاقة القرابة قد لا تشفع له في بعض الأحيان عند البوليس التونسي , كما أن من يحاول التواصل معه من معارف وأصحاب وأصدقاء مهددون هم الآخرين من قبل البوليس الذى يخضعهم للتفتيش والمسائلة أو حتى التوقيف والملاحقة والإستدعاء إلى المراكز الأمنية
ويتواصل حرمان السجين السياسي المسرح من حقه في العمل خاصة في مؤسسات وأجهزة الدولة , كما تمارس ضغوط على من يوظفه , ويتعرض للعرقلة والمضايقات حتى في الأعمال الحرة , كما توضع أمامه المطبات والصعوبات في كل محاولاته الهادفة إلى إعادة تأهيل نفسه لإستئناف حياته من جديد
كما يُحرم من حقه في جواز السفر , والسفر خارج البلاد
كما يحرم من حق الإستفادة من أي خدمات تقدمها الدولة للمواطنين كالرخص والقروض والمنح والمساعدات الإجتماعية في الأعياد والمناسبات , فهو موضوع على القائمة السوداء من المغضوب عليهم لدى الدوائر الرسمية وأولهم العمدة
وهو ممنوع من أي نشاط سياسي أو حقوقي أو إجتماعي ليس تحت طائلة القانون الدستوري وإنما بحكم قانون الغالب الظالم الذي يحرّم على مخالفيه أي مساحة من الحرية والنشاط العام , ومن يفعل يعرض نفسه إلى إستهداف ممنهج
وليست لحياته الخاصة حرمة من طرف البوليس , فهو معرض للإعتقال مجددا في كل وقت , ناهيك عن المداهمات والزيارات البوليسية إلى مقر سكناه
كما أنه لا يُعامل معاملة إنسانية كمواطن تونسي وإنما يُعامل كشخص مستهدف دائما , يتعرض إلى المضايقات من طرف البوليس حتى في الشارع أمام الناس والهدف من ذلك عزله عن الناس وتخويفهم من التواصل معه
كما أنه ليس له جهة رسمية في البلاد يتظلم إليها لمقاضاة المتجاوزين بحقه والمعتدين عليه خاصة من أفراد القوى الأمنية وهو ما يجعله فريسة لكل التجاوزات دقيقها وعظيمها دون أن يجد أي جهة في البلاد تنصفه ويقاضي المتجاوزين بحقه
وهو محروم أيضا من حق النظر في ملف إسترداده حقوقه المدنية وكأن تلك الحقوق الطبيعية قد سلبت منه وإلى الأبد وليس من أمل في إسترجاعها في ظل هذا العهد الظالم
وفوق كل هذه المظالم وغيرها التى تطال المسرح من السجن المضيق شخصيا فإن بقية أفراد أسرته وحتى بعض أقاربه يحرمون من حقوق كثيرة كجواز السفر والعمل في مؤسسات الدولة إلى غير ذلك من أشكال المظالم والحرمان
إن مصطلح السجين السياسي السابق تسمية غير دقيقة , لأنها أصبحت لا تعكس توصيف واقع حال المسرحين من السجن المضيق في تونس , فالسجين السابق يفترض أن يتمتع وبشكل آلي بحريات وبحقوق طبيعية في الحياة كانت مسلوبة منه بحكم وجوده وراء القضبان وبسبب العقوبة السجنية التى كان يخضع لها , فإن خرج من السجن تمتع بها كأي مواطن . لكن السجين السياسي في تونس اليوم يدخل سجنا آخر حال خروجه من السجن الأول , والمعاناة التى يستقبلها المسرح بعد أن إستدبر سنوات السجن المضيق المريرة لهي وجه العملة الآخر من المحنة السوداء الحالكة التى مرت وتمر على المساجين السياسيين بتونس وهو ما يجعل الخروج من السجن المضيق ليس نهاية المطاف وإنما بداية خوض تجربة أخرى صعبة إلى أجل غير مسمى
صــابر : سويســرا
iThere are no comments
Add yours