يعد خير الدين التونسي واحدا من أبرز رجال الإصلاح في العالم العربي، كما يصنف كمتحمس للنقل عن الغرب والاستفادة من التجربة الحضارية في أوروبا ضمن ما يسمح بذلك الوضع الذي كان سائدا في تونس في تلك المرحلة من التاريخ، وإن تكن رؤاه الإصلاحية غير مقتصرة على الحالة التونسية وإنما تحمل في داخلها طموحا للتعميم على الدولة العثمانية التي بدأت ممتلكاتها وأراضيها في الشمال الأفريقي تتآكل مع الطموحات التوسعية الأوروبية التي وصلت ذروتها في سنة 1830 مع احتلال فرنسا للجزائر، فالتونسي يتوجه في خطابه الذي بلوره في مقدمة كتابه الأكثر ذيوعا أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك لدعوة الشرق للنهوض والاستفادة من الغرب وذلك ليتمكن الشرقيون من الوقوف بندية والخروج من حالة التخلف ومنافسة الغربيين، ودللت كتابات التونسي وممارسته السياسية كأحد أبرز رجالات الدولة التونسية والعثمانية في النصف الثاني من القرن العشرين على رفضه للتبعية أو الدخول في تحالفات مع الغرب، فمن موقعه وزيرا للمالية في تونس رفض أن يتم الاقتراض من الدول الأوروبية كيلا تقع بلاده في ذلك المدار المغلق الذي يترتب على تسديد الديون والفوائد وفضل التونسي أن تقوم الدولة بالاقتراض داخليا، وبنظرة اقتصادية تبدو ظاهريا غير وثيقة الصلة بالموضوع، فإن التونسي يسعى للإصلاح وذلك لرفع الطاقات الإنتاجية للدولة ولا يتوجه بالنقد لسياسة الإسراف التي اتبعها حكام تونس في تلك المرحلة والطبقات المرتبطة بها والتي أرهقت كاهل الدولة، فهو في النهاية أحد أفراد تلك الطبقات المؤثرين ويرى من موقعه في السلطة التنفيذية إمكانية تحقيق ذلك التغيير دون الدخول في صدام مع السلطة أو ثورة عليها كما فعل علي بن غذاهم في الستينيات من القرن التاسع عشر.
ولا يمكن قراءة فكر التونسي بمعزل عن الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في تلك المرحلة، فتونس التابعة شكليا للإمبراطورية العثمانية وقعت بين التركز العثماني في ليبيا والاستعمار الفرنسي للجزائر، ولذلك توجه التونسي بفكره أن الصراع يتمثل بين الدولة العثمانية الساعية للإصلاح منذ عصر السلطان محمود الثاني وولديه عبد المجيد وعبد العزيز والفرنسيين الذين وصلوا إلى مرتبة راقية بمقاييس عصر التونسي من التقدم والتمدن، ويرى أن الأخذ بالطريقة الفرنسية في التنظيمات السياسية والإدارية من شأنه يرتقي بأداء تونس والدولة العثمانية.
تولى التونسي العديد من المناصب الرفيعة في تونس منها وزيرا للحربية والمالية ووزيرا أولا، وأدت محاولاته للإصلاح أثناء وزارته للمالية إلى اعتزاله العمل الرسمي لفترة أفادته في تأليف كتابه الشهير خاصة أنها منحته فرصة السفر للعديد من البلدان الأوروبية في مهمات بروتوكولية عمقت فهمه للسياسة والإدارة في تلك البلاد، وبعودته إلى الحياة السياسية سنة 1869 بعد تردي الأحوال في تونس وغرقها في محنة مالية كبيرة كانت أمامه الفرصة لوضع بعض من إصلاحاته ورؤاه موضع التطبيق، ومن الجدير بالذكر أنه عمل على تشجيع الانتاج الوطني بسياسات مالية محكمة.
هذه الاصلاحات لم تستكمل لخلاف بين التونسي والباي محمد فاستقال التونسي مرة ثانية ليستدعيه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1877 لإدارة المالية ومن ثم ينصبه صدرا أعظما ، وهي أعلى سلطة تنفيذية في الدولة العثمانية، وحاول التونسي في هذا المنصب أن يضع بعضا من الخطوط العريضة من برنامجه الإصلاحي في بنية الدولة، ولكن الظروف الدولية التي كانت سائدة في تلك المرحلة لم تمكنه من المضي في إقناع السلطان بإجراء الإصلاحات السياسية مما فتقدم باستقلالته في سنة 1879، وإن بقي عضوا في مجلس الأعيان حتى وفاته سنة 1890 عن سبعين عاما من العمر.
إذن فالتونسي يقدم برنامجا قائما يمكن أن تلخص أسسه الرئيسية فيما يلي:
– الإصلاح السياسي القائم على تقييد الحكم المطلق وإطلاق الحريات على مراحل متدرجة وصولا إلى تفعيل مفهومي الحرية الشخصية والسياسية.
– وضع القوانين ورعايتها من خلال العدل والمشورة ووضع الأسس الرقابية التي تحول دون الاستبداد في الحكم والرأي على أساس وضع واجبات واضحة ومحددة وحقوق معروفة ومحدودة لكل من الحكام والمحكومين.
– التركيز على المعارف الدنيوية بما يحقق التقدم الاقتصادي ويمكن الدول الإسلامية من التخلص للتبعية للغرب ومنافسته.
– تطويع العلماء لدعم المشروع الإصلاحي بفك الاشتباك بين الشريعة والمعاصرة.
نخلص أن التونسي وضع الإصلاح السياسي كمقدمة للإصلاح الإقتصادي، ومع أن هذا لا يتم بطريقة آلية في المجتمعات وليس بالضرورة بنفس الترتيب الذي تصوره، ولكن ذلك يدلل على حماسه للإصلاح السياسي وحقوق الإنسان من حرية ومساواة وتقديره لدور هذه العوامل في تحقق التقدم الذي يراه متمثلا في التمدن على النمط الأوروبي، ولتوضيح موقف التونسي من الغريب جدير بالذكر رفضه التبعية للغرب في أكثر من موقف منها عمله على خلع الخديوي اسماعيل في مصر لميوله تجاه الغرب ومنحه للدول الغربية امتيازات استثنائية تضرب الاقتصاد المصري وتهدد استقلالية بلاده.
يعلي التونسي في كتابه الشهير أقوم المسالك من شأن نعمتي العدل والعقل فالأولى فأساس العمران والثانية مدخل لحسن التدبير، وما يستلزم ذلك من تعاون، ويرى أن الشريعة لائقة بكل زمان، ولكنه يعلن عن سعيه في دراسة أسباب تقدم الأمم وخاصة في مجال التمدن وليس يمكن ذلك إلا بمعرفة أحوال الأمم الأخرى، وكذلك التعاون الاجتماعي بما يحقق الفوائد العمومية، ويغمز التونسي في قناة رجال الدين في عصره وكذلك منهجهم النقلي وعدم مراعاتهم للتقدم، لذلك يقدم تجربته التي نتجت عن مشاهداته في أوروبا وتفكيره في ظاهرها وجوهرها متوجها بذلك إلى العلماء والساسة.
لذلك كان للكتاب هدفين أساسيين في نظر التونسي:
أولا: حث رجل السياسة والعلم إلى العمل على تقدم الأمة الإسلامية وتمدنها وثرائها (الإنتاجي) وذلك باتقان العمل على الطريقة الأوروبية.
ثانيا: يتوجه إلى المسلمين الذين يرفضون الأخذ عن الغرب بإطلاقه خاصة فيما يتفق بالأدلة مع الشريعة الإسلامية، ويذكر أن الأوروبيين فعلوا ذلك سابقا فإن الأمر إذا كان صادرا عن غيرنا وكان موافقا للأدلة، لا سيما إذا كنا عليه وأخذ من أيدينا، فلا وجه لإنكاره وإهماله، بل الواجب الحرص على استرجاعه واستعماله .
يستشهد التونسي بالتراث وخاصة مشورة سلمان الفارسي للنبي في غزوة الخندق ومقولة الإمام علي لا تنظر إلى من قال وأنظر إلى ما قال وأيضا موقف الغزالي من علم المنطق الذي ليس إسلاميا، ويورد جانبا من الفتاوى المتعلقة بالأمر، ويهاجم المنكرين للأخذ عن الغرب الذين يعمدون إلى تقليدهم في الضار دون النافع، وبلغة عصرية النزعة الاستهلاكية التي تدفع إلى الاعتماد على الغرب في اقتناء الملبس والأثاث وحتى الأسلحة الحربية، ويحاجج بمنطق الفلاح الذي يضحي بعمل سنة كاملة ليذهب محصوله للمصنعين الأوروبيين فيعود لشراء المنتج النهائي بثمن باهظ، والتونسي يعرض بوعي رجل الدولة لمفهوم الميزان التجاري ثم إذا نظرنا إلى مجموع ما يخرج من المملكة وقايسناه بما يدخلها فإن وجدناهما متقاربيت خف الضرر، وأما إذا زادت قيمة الداخل على قيمة الخارج، فحينئذ يتوقع الخراب لا محالة.
ثم يطور فكرته ليؤكد على التبعية السياسية المترتبة على الحاجة إلى التسلح، خاصة في أوقات الحرب ليدلل على مدى الحاجة إلى التقدم في التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية.
يختار التونسي من الشريعة ومن التراث ما يعزز فكرته، ويعرض لتاريخ أوروبا وثمة ما يدلل على ميل من التونسي لدور فصل الدين عن الدولة، فالمسألة في العمران هي العدل والأمن، وذلك ما يتفق مع الموروث الإسلامي أيضا.

يتفق التونسي مع ابن خلدون في علاقة الظلم بخراب العمران، ولذلك فهو يحمل إطلاق يد الملوك الأوروبيين دون وجود مقيد قانوني (عقلي) أو شرعي (ينتفي في الديانة المسيحية) مقارنة بالحالة في بلاد المسلمين المقيدين بقوانين الشريعة الدينية والدنيوية.

يرى التونسي أيضا أن الله أمر النبي وهو المعصوم بالمشورة وعليه فالأولى أن تكون واجبة على الحكام من بعده، ويستشهد بدلائل ذلك من التراث، والمشورة عند التونسي ليست سلبية إنما تكتسب بعدا ايجابيا في تغيير المنكر ويتساوى عنده في ذلك الكلمة والسيف، وهو ما يسميه بالوازع الذي يكون شرعا سماويا أو سياسة معقولة، وإذا كانت تلك مسؤولية المجالس في فأوروبا، فإن ذلك يقع ضمن مسؤولية العلماء والأعيان، ويجترح التونسي مفهوما اسلاميا موازيا وهو الاحتساب عى الدولة.

يصنف التونسي الملوك إلى ثلاث فئات بمقتضى الطبيعة البشرية كما يلي:
– ملك كامل المعرفة والحب للوطن يقدر على رعاية المصالح بمراعاة الأصلح، – ملك كامل المعرفة تحول مطامعه وشهواته عن تحقيق المصالح العمومية.
– ملك ناقص المعرفة ضعيف المباشرة.
وذلك أيضا ينطبق على الوزراء، ولذلك تصبح المشورة أدعى لإدراك المصالح العامة، وذلك يمكن الملوك من حفظ الحكم في أسرهم لأن وجود المشورة يمكن أن يوازن أداء الملك ووزرائه، وكأنه يؤشر إلى ضرورة وجود المؤسسة المستندة إلى القانون والحدود مقابل الحكم الفردي المطلق.
كما يؤكد التونسي أن وجود الوزراء المقتدرين ليس كافيا في غياب الحل والعقد، ففي ظل العلاقة مع الملك فإنه محصور بين خيارين أن يوافقه حتى في ضرر المملكة أو أن يخالفه بما يدفع إلى تهميشه وربما ابعاده عن الخدمة.
ومن وجهة نظره تتطلب إدارة الممالك أولا وجود القوانين وثانيا وجود من يقومون على رعاية هذه القوانين وهم أهل الحل والعقد، وعدا ذلك فإن الخير والشر للملكة منحصر في شخصية الملك، ويورد مثالا بالممالك الأوروبية قبل تأسيس القوانين حيث لم يؤد توفر الوزراء القديرين حيث يطغى الملوك باستبدادهم على عمل الوزراء، ويدافع عن مشاركة أهل الحل والعقد وينفي أن في ذلك تضييق على الحاكم وتصرفه العام، ويستشهد في ذلك بالأحكام السلطانية للماوردي لأهمية الوزراء ودورهم محاولا أن يسحب الأمر على أهل الحل والعقد، مع ملاحظة أن هذا المفهوم هو المقابل الموضوعي عند التونسي للمجالس النيابية في أوروبا.
يربط التونسي في فكره بين ماضي الأمة الإسلامية المزدهر بالثروة والقوة واحترامها للأصول الشرعية التي تتسق مع الأمور التي عرضها، ولما كان العمران أحد المساعي الأساسية للشريعة، ولا يعدم التونسي من شواهد في التراث تدلل على ثراء الأمة فيما يورده عن المقريزي من أخبار ثروة مصر أيام الخليفة العباسي المأمون، وما يدلل على قوتها في موجات الفتوحات الإسلامية، ويربط بين هذين الأمرين وأسس العدل واجتماع الكلمة واتحاد الممالك والعناية بالعلوم والصناعات.

المصدر: جريدة الرأي، الأردن