بقلم زياد الهاني

بعد كل مداولات برلمانية يتعرض عدد من المواطنين لأعضاء برلماننا التعددي الموقر بالنقد الذي يبلغ أحيانا درجة التندر والسخرية. ووصل الأمر بالبعض حدّ الترحم على أيام برلمان اللون الواحد والحزب الاشتراكي الدستوري الواحد عندما كان للكلام وزن ومعنى.

لكن خلافا لمن يردده البعض بأنك في برلماننا “تسمع جعجعة ولا ترى طحينا”، أؤكد بأن “الطحين” موجود وبكميات وفيرة تفيض عن حاجاتنا الوطنية، حتى لو ثبت أن باخرة القمح الذي استوردته بلادنا تبخرت في الطريق مثلما تؤكده مصادر سويسرية؟

فهاهي ذي سيدي بوزيد بعد خمسة أيام من اشتعال أحداثها يحط رحالها في رحاب قصر باردو العامر، بعد أن كدنا نشك بأنها “محافظة” في دولة قطر وليست ولاية تونسية وجزءا لا يتجزأ من تراب تونس الغالي. وذلك بمناسبة مناقشة مشروع القانون الأساسي المتعلّق بتركيبة المجالس الجهويّة. حيث أكد السيد وزير الداخلية والتنمية المحلية في كلمته لأعضاء مجلس النواب بأن ” القضية بدأت بمشكل عادي يتمثل في محاولة أحد شباب المنطقة إحراق نفسه لأسباب فردية ترتيبية خاصة بعمل بلدي، لكن أطراف معروفة ركبت الحادث وحاولت أن تشكك في خياراتنا وتوجهاتنا”..

وإذا كان النائب عن حركة التجديد عادل الشاوش قد تعرض للتعميم الغبي على الأحداث قائلا: « ما يؤسفنا أن نكرر أخطاء سابقة ونفسح المجال للشائعات والصيد في الماء العكر وأن المشكلة ليس في وجود المشكل بل في كيفية التعاطي معه ولا يمكن حل القضايا إلا في إطار الشفافية. فلكل دولة مكتسباتها ومشاكلها”. فقد تدخل النائبان التجمعيّان سعيد الأسود وصالح الطبربي بكل حزم وحسم وروح وطنية عالية ليعيدا النقاش “الوردي” إلى مساره، مؤكدين بأن: “الإعلام التونسي إعلام حر والمسار التعددي في تونس ثابت وديمقراطي وحادث سيدي بوزيد هو حادث عادي ومعزول لكن القنوات التي تناولت الموضوع بكثير من المبالغة أهدافها وأغراضها معروفة ولا مجال لفسح المجال إلى أي كان للمس من مكتسباتنا وتوجهاتنا وخياراتنا التي كرست للديمقراطية والتعددية… وبأن الحادث عرضي ومعزول صدرت بشأنه توضيحات رسمية لكن بعض الأطراف استغلته وأولته وشكلته كما ترغب هي في ذلك لأسباب معروفة”.

ويدخل قيام نائبي الشعب الكريمان بتكرار موقف الحكومة في باب الإفادة من خلال الإعادة، وتأكيدا بأن الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لا يمنع ارتباطهما بوشائج المحبة والتماهي؟

في واد آخر مختلف تماما وبعيدا عن الخطب الوطنية الرنانة الملقاة من أعلى المنابر الوثيرة، واصلت الحشود الغاضبة التي رأيناها في سيدي بوزيد والمكناسي وسيدي على بن عون والرقاب مسيراتها الاحتجاجية المطالبة بالكرامة والحق في التنمية. تلك الوجوه الكالحة الشاحبة التي أجج الشقاء ولفح الشمس سمرتها ليست تونسية، إذا صدّقنا الخطاب الرسمي؟ أو قد تكون مجرد أشباح لا وجود لها في الحقائق التي أوردها البلاغ العبقري للمصدر الرسمي. قد تكون لفارين من جحيم الديمقراطية في ساحل العاج، أو لعلها لمرتزقة ليبيريين أو أنغوليين تائهين من أولئك الذين استقدمهم الرئيس العاجي المتخلي الرافض تسليم الحكم لوران غباغبو لدعم سلطته بقوة السلاح بعد أن خسرها عبر صناديق الإقتراع، ووظفتهم الجهات المناوئة التي تحدث عنها السيد وزير الداخلية؟

بعض المتابعين لاحظوا غياب “المناضلين التجمعيين” في سيدي بوزيد عن ساحة الأحداث؟ وليس في ذلك أيّ عجب.. فكما أسلف القول فالأمر لا يتعلق بزردة أو غنيمة سهلة، بل بحادثة شخصية بسيطة ومعزولة لا تتطلب تدخلهم ونزولهم بثقلهم للميدان. ثم لعلهم الآن بصدد الإعداد وتحيّن الفرصة المناسبة للخروج في مظاهرة ضخمة للتمجيد وتجديد البيعة والولاء والمناشدة، والتهليل لإنجازاتنا المعجزة التي أشادت بها منظمات دولية كانت سياساتها وراء تفقير العالم وتجويعه؟

في كل هذا الخضم يبقى سؤال مركزي دون جواب:

ماذا لو وجد الشاب محمد البوعزيزي من يصغي إليه ونحن نعيش على وقع السنة الدولية للشباب؟؟؟

فهذا الشاب الجامعي الذي يعاني البطالة منذ سنوات وألجأته الفاقة لبيع الخضر، لا أظنه يجادل بأن أعوان التراتيب البلدية تصرفوا معه في حدود القانون عندما طالبوه برخصة الانتصاب. وعند تحوله إلى مقر الولاية قد لا يكون ذلك أساسا للتشكي منهم، بل بحثا عمّن يمكنه أن يستمع إلى شكواه. لو أن الوالي أو أحد المعتمدين استقبله وهدّأ من روعه ووعده خيرا مع تسهيل حصوله على رخصة انتصاب مؤقتة لحين تسوية وضعيته، فهل كان سيحصل ما حصل ويتطور الوضع المأسوي أصلا، إلى ما آل إليه؟ لكن هل مثل هؤلاء مؤهلون لمثل ما انتدبوا له؟

أدعو من كل قلبي لهذا البلد الأمين أن يظل آمنا لأهله الطيبين، وسالما من كل الشرور..