لئن انطلقت أحداث العنف الدامية التي يعيشها مركز الولاية منذ أيام والتي اتسعت رقعتها لتشمل أنحاء منها، على خلفية التجمعات الشعبية العفوية المتعاطفة مع الشاب الذي أضرم النار في جسده احتجاجا على إهانته وظروفه السيئة، إلا أن جحافل الغاضبين كانت تستحضر كل المشاكل التي يهجسون بها سرا وعلانية احتجاجا على سوء خدمات إدارية كبر في نفوسهم ليتحول مع الأيام إلى إحساس بالحقرة والإقصاء. ولعل الملفت للانتباه أن من اكتفوا بالمتابعة عن بعد كانوا الأكثر غبطة لما يجري تعبيرا منهم عن حالة الاحتقان التي تقبض على نفوسهم!

Ι – الأسباب المباشرة / إدارة سيـــئة:

1 – التراتيب البلدية والكيل بمكيالين:

أصبحت ممارسات المصالح البلدية محل ضجر يثير حنق المواطنين وخصوصا الشبان الذين اتخذوا من بيع بعض الخضر والفواكه على عربات صغيرة يدفعونها بسواعدهم النحيلة، مورد عيش يقيهم غائلة الجوع ويحفظ كرامتهم بعيدا عن استسهال اللصوصية والخطف طريقا. لقد أصبحت هذه الممارسات في عيون هؤلاء الشبان تمثل عدوانا على قوتهم اليومي بدعوى تطبيق الواجب أو تطبيق القانون، لكنهم في نفس الوقت يرون بعض المتنفذين يحتلون الشوارع ببضائعهم ولا يعرف هؤلاء الأعوان لهم طريقا!

2 – تردي الخدمـــات الإدارية:

كثر تشكي المواطنين همسا وعلنا من تردي الخدمـــات الإدارية بالجهة واستفحال مشكلة الرشوة، والإهمال الذي يلاقونه في المستشفى الجهوي الذي تحول بالنسبة لهم إلى غول يلتهم مرضاهم وخصوصا نساءهم أثناء الولادة، جراء الخدمات السيئة المقدمة لهم‼

3 – سلبية نواب الجهة وأعيانها تجاه مواطنيهم:

كثر تشكي المواطنين همسا وعلنا، تارة سخرية وتارة سبا وتلاسنا, لعدم اهتمام نواب الجهة بمشاغلهم حتى أنهم أصبحوا عائقا أمام انجاز بعض ما تجود به الدولة من مشاريع تنموية. فكم من مسؤول سام بالجهة واجههم علنا أنه لم يصادف أن طالبه أحدهم بمصلحة جماعية. إذ لا هم لهم إلا قضاء مصالحهم الشخصية الضيقة، بل أن المواطنين والموظفين لم يسلموا من اعتداءات واهانات العديد من هؤلاء النواب في الشارع وفي الإدارات، وأصبحوا لا هم لهم إلا الوقيعة بمنتقديهم وخصوصا من الفئات الشابة والتحريض عليهم والوشاية بهم بتلفيق تهم جائرة‼

4 – مشاكـــل قطــــاع الفــــلاحـــة :

تعد الفلاحة في سيدي بوزيد النشاط الرئيس الذي ترتكز عليه العملية التنموية القادرة على تشغيل اليد العاملة النشيطة بالجهة. ولئن عرف هذا القطاع عديد النجاحات طيلة عقود الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي مما جعل من ولاية سيدي بوزيد رقما صعبا في قطاع الحليب واللحوم الحمراء والأشجار المثمرة والخضروات، فإن الأمر لم يطل إذ بدأت بوادر الأزمة تطل برأسها كاشفة عديد المصاعب بفعل عديد التجاوزات في حــق الفــلاحين:
* التلاعب بمصالح منتجي الطماطم: لئن أنفقت الدولة مئات الآلاف من الدنانير لمساعدة الفلاحين على الاستقرار بأراضيهم طيلة الثمانينات وتطوير أنشطتهم الفلاحية، فيما عرف ببرنامج التنمية الفلاحية. لكن إستفراد أصحاب المعامل التحويلية بمنتجي الطماطم واجبارهم على الانتظار لمدة سنتين أو أكثر لإستخلاص مستحقاتهم المالية التي كثيرا ما يحصلون عليها سلعا يفوتون فيها بأبخس الأسعار، فتضاعفت خسائرهم وعجزوا عن خلاص الديون المترتبة عليهم لدى البنوك على مرأى ومسمع من اتحاد فلاحين يفترض أنه مؤسسة مدنية تأسست للدفاع عنهم وحماية مصالحهم من المضاربين‼
* التلاعب بمصالح مربي الأبقار: كثيرا ما يرفض أصحاب مجمّعات الحليب تسليم أثمان الحليب للفلاحين بتعلة أن بضاعتهم فسدت قبل أن تصل إلى معامل الحليب! ومازالت عملية تحويل وجهة مشروع معمل حليب سيدي بوزيد إلى ولاية مجاورة تمثل ذكرى موجعة لفلاحي الجهة!
* التلاعب بمصالح مربي الدواجن: لئن مثل هذا القطاع نشاطا فلاحيا واعدا بولاية سيدي بوزيد التي تصدرت المرتبة الثانية في إنتاج اللحوم البيضاء على المستوى الوطني، لكن قرار منع بيع الدجاج حيا جعل المربين في قبضة بعض المضاربين في الذبح المخصص للغرض، إذ يقبل منهم الدجاج بما لا يتجاوز دينار واحد و600 مليم ويباع إلى المستهلكين بما قدره ثلاثة دنانير و900 مليم، مما جعل المربين والمستهلكين يرددون عبارة ساخرة “إنه يذبحنا عوض ذبح الدجاج”!
* التلاعب بالمساعدات المخصصة للفلاحين: أمام استفحال ظاهرة الجفاف وغلاء أسعار المحروقات تأزمت وضعية مربّي الماشية الذين كثيرا ما يضطرّون إلى التفويت في قطعان أغنامهم بأسعار بخسة مما يعرّضهم إلى خسائر فادحة كثيرا ما تتدخل الدولة لمساعدة هؤلاء الفلاحين الفقراء بتخصيص بعض كوبونات المحروقات والأعلاف المدعومة لفائدتهم، إلا أن المسؤولين المحليين يتلاعبون بهذه الإجراءات فتذهب إلى غير أصحابها، والفلاحون يتابعون ذلك بمرارة ولا أحد يجرؤ على الاحتجاج خوفا من الانتقام بل يعمدون إلى منح الرشوة لينالهم بعض الفتات من مساعدات هي في الأصل مخصّصة لهم لإعانتهم على تجاوز الأزمة!
* كهربة آبار الفلاّحين: أدخل القرار الذي اتخذته الدولة القاضي بكهربة آبار الفلاّحين بهدف مساعدتهم على مجابهة غلاء المحروقات إلا أن العديد منهم اصطدموا بعائق أن آبارهم ليس مرخص فيها رغم أنها محفورة منذ أكثر من 15 سنة بتعلّة أنها حفرت في مناطق مصانة، والحال أنهم كلهم حصلوا على تراخيص من مندوبية الفلاحة ! فما ذنب هؤلاء الفلاحين؟
* الجمعيات المائية: حفرت الدولة آبارا للمياه لمساعدة الفلاحين الفقراء، إلا أن المتسلّطين عليها تلاعبوا بموازناتها المالية بلا رقيب ولا حسيب!
* تعاضديات الفلاحين: أنشئت لمساعدة الفلاحين الفقراء لمجابهة غلاء الأعلاف والمحروقات والأدوية الكيميائية وترويج منتوجاتهم بشكل جماعي يقيهم غائلة الغلاء والمضاربين، إلا أنها لم تسلم من سطو المتسلطين عليها الذين تلاعبوا بموازناتها المالية فأفلست وضاعت أرباح الفلاحين وأموالهم التي تمثل رأسمالها، ولعل “تعاضدية قمودة للحليب” تمثل المثال الصارخ على هذه التجاوزات. ورغم أن ملفها معروض على أنظار العدالة وكل تقارير المراقبين الماليين تشهد بصحة التجاوزات إلا أنه لم يتخذ في شأن من تلاعبوا بها وبأموال الفلاحين أي إجراء لإنصاف الفلاحين المتضررين‼
* تسوية الوضعية العقارية: تمثل الوضعية العقارية لأراضي الفلاحين أهم عائق في سبيل تطوير أنشطتهم الفلاحية، إذ أنهم فوجئوا بإغلاق ملف تسويته الذي فتحت الدولة في شأنه فرصتان خلال السبعينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، إلا أنه لم ترافقه عملية تحسيس فعلية، مما جعل الإقبال عليه ضعيفا، ليفاجؤوا بغلقه نهائيا منذ التسعينات دون مزيد توفير الفرصة أمام الفلاحين وإقناعهم بضرورة تسوية أوضاع أراضيهم وتخفيض الرسوم المترتبة على ذلك‼
ولعل الاحتجاجات العنيفة التي عرفتها منطقة المكناسي خلال الصيف الماضي، هي إحدى علامات التململ الرافض لإبقاء هذه الوضعية معلقة في كامل ما كان يعرف بإقليم قمودة الممتد من الفج حتى جلمة، مما حال دون رغبتهم في الحصول على قروض لتطوير أنشطتهم الفلاحية.
* ديون الفلاحين الشبان لدى البنوك: إن الصرامة التي تعامل بها البنك الوطني الفلاحي مع الفلاحين الشبان الذين راموا الاستثمار في قطاع الفلاحة بجهة الرقاب، لكنهم كانوا عرضة لتقلبات الجفاف القاسية مما جعلهم يتأخرون في سداد بعض ما عليهم من أقساط لفائدة البنك المذكور في آجالها، لكنه سارع إلى استصفائها لاستخلاص ديونه بطريقة شابها الكثير من الغموض إذ رفض البنك قبول ما عيهم من أقساط متخلدة وإعادة جدولة بعضها، في حين استفاد منها عدد محدود من المستثمرين الوافدين على المنطقة في ظروف هي معروضة أمام أنظار العدالة لتبين أبيضها من أسودها.
إن هذا القطاع الذي يعتبر النشاط الاقتصادي الأهم في الجهة من حيث قدرته التشغيلية ومساهمته الهامة وطنيا في قطاع الخضروات والألبان واللحوم والفواكه في حاجة إلى مبادرة جادّة لحمايته من جشع أصحاب المعامل والمجمّعات ومن النّهب المنظّم الذي يمارسه القائمون على المصالح والمؤسسات المحلية.

5- الأسباب التي تضاعف مشكلة التشغيل لدى الشباب وخصوصا حاملي الشهادات:

* قطاع الخدمات: لئن أصبح قطاع السياحة أحد أهم القطاعات قدرة على التشغيلية العالية للفئات الشابة من الحرفيين وحملة الشهادات، إلا أن جهة سيدي بوزيد بقيت غير مستفيدة منه، إذ لم يتم تفعيل القرارات أعلن السيد وزير السياحة التجاني الحداد عقب الدراسة التي أنجزها مكتب دراسات حول آفاق السياحة بجهة سيدي بوزيد سنة2006، القاضية ببعث شركة تنمية سياحية بالجهة وتخصيص أراضي لفائدة النشاط السياحي بمدينة سيدي بوزيد واستثمار الثروات السياحية البيئية والتراثية الهائلة بالجهة.
* بنك التضامن: لئن بعث هذا البنك لمساعدة فئة غير قادرة على توفير الضمانات، إلا أنه بهذه الجهة يتلكؤ في منح القروض للباعثين الشبان ويغلق الباب في وجوههم، باشتراط توفير من يضمن فيهم، والحال أن هذا البنك جعل لمساعدة فئة غير قادرة على توفير الضمانات، إذ ما كان اتخاذ فشل بعض المقترضين في سداد ديونهم ذريعة لغلق الباب أمام الآخرين، وإنما مساعدة العاجزين على تخطي الصعوبات التي يواجهونها‼
* ندرة مواطن الشغل بالجهة:
– انعدام تركيز معامل ذات صلة بالأنشطة الرئيسة التي تمثل خصوصياتها وعماد اقتصادها.
– عدم استفادة الجهة من أرباح المستثمرين الوافدين على الجهة الذين لا يوظفون أي جزء منها لإعادة استثماره في الجهة، وإنما يتعاملون معها بعقلية استنزافية لطاقاتها من نشاط فلاحي ومقاطع.

II – الأسبـاب العـميقـة / الغبـــــن التنمــوي:

لئن حملت ظروف بعث ولاية سيدي بوزيد بوادر ضعف بنيوي منذ البدايات، إذ تكونت من المعتمديات الطرفية في الولايات التي كانت تعود إليها بالنظر – صفاقس والقيروان وقفصة والقصرين- مضافا إليها نشأتها المتأخرة نسبيا مما حرمها من الاستفادة من أول مخطط وطني للتنمية، وبقاء أغلب مصالحها الإدارية تابعة لإدارات إقليمية خارجها جعلها ولاية في وضعية ذوي الاحتياجات الخصوصية، لكن وضعيتها ازدادت ضعفا منذ بداية تخلي الدولة عن دورها في العملية التنموية وخصوصا مسألة التشغيل لفائدة الخواص الذين تفننوا في الاستفادة من الآليات التي خصصتها الدولة لإدماج طالبي الشغل فحولوها إلى مورد مضاف لمزيد تركيم أرباحهم ولفظ هؤلاء الشبان‼
– إن ولاية سيدي بوزيد محتاجة إلى تدخل الدولة لتنفيذ برنامج تنموي، يجيب على بعض – غير قليل – من المطالب الملحة لدى أجيال جديدة ما عادت ملحمة النضال الوطني التي كان آباؤهم وأجدادهم فرسانها، قادرة على تعبئتهم وتشكيل عنصر دائم لترويضهم. فانفجروا غضبا في وجهها، محاصرين قدرتها على المناورة والاستيعاب وأجبروها على مواجهتهم في دورات عنف متبادل، وقودها جيل تعتصره مشاعر “الحقرة” ولا يملك من الوعي إلا ثقافة مدارج ملاعب كرة القدم‼

– إن نزع فتيل الأحداث الدامية التي تعرفها هذه المدينة يكمن في الالتفات الجاد لهذه المشاكل المزمنة التي حولت هذه الولاية إلى نقطة سوداء في هذا الوطن، تصدر العنف والجريمة( سرقة، قتل، تهريب، وتخريب المواقع الأثرية)!!

– أليست الدولة القوية المطمئنة إلى قوتها في الداخل، هي التي لا تخاف مجتمعها ولا تخشى على نفسها من حراكه الاجتماعي والسياسي؟؟

– أليس يرتفع معدّل قوة الدولة كلما ارتفع معدل شرعيتها في نفوس مواطنيها، ويُصيب قوتها هزال كلما اهتز ذلك؟؟

– أليس انسحاب الدولة من حياتهم وتركهم يواجهون وحشية اقتصاد السوق وتلاعب المضاربين أحد أسباب هذا الاهتزاز؟؟

– إن القوة الحقيقية لأي دولة هي قوتها الإنجازية بما هي مجموع القدرات الشرعية التي تملكها ويسلم لها بها المجتمع (بما فيها العنف الشرعي). والتي بها فقط تحقق الاستقرار الاجتماعي وتضمن بها عقدا اجتماعيا مع مواطنيها، إذ ما الذي يبقى للدولة بعد أن تنسحب من الميدان الاقتصادي؟ بل ما الذي يبقى للمجتمع بعد ذلك الانسحاب؟ إن التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي اللذين بهما تُبنى الأوطان وتقوم الدول، لا يتحقّقان إلاّ في كنف دولة تنهض بالتنمية وتحمي الحقوق الاجتماعية لمواطنيها. فإذا توقّفت مؤسّسات الدولة عن أداء هذا الدور فالشرّ المستطير ينتظرها. وهل ما يحدث هذه الأيام غير ذلك؟؟؟

ترى هل نستمع إلى زرقاء اليمامة أم نعمد إلى سمل عينيها مرة أخرى؟

الأمين البوعزيزي
المقال منشور بصحيفة الموقف لهذا الاسبوع