المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
بقلم أيمن بالحاج،

في البدء أريد أن أوضح نقطة مهمة و هو أن الذي استفزني لكتابة هذا المقال ,إنما هو هذه المقابلة المغلوطة التي صرت أشاهدها طيلة هذه الأيام بين فكر تحرري منحل و متآمر على هويتنا العربية الإسلامية و على أخلاقنا الاجتماعية و بين فكر أصولي و متجذر يدافع عن هذه القيم و يتشبث بأصالة المجتمع التونسي و بانتمائه إلى هذا الأفق الحضاري و الأخلاقي السليم والرصين
إني أعتبر أن هذه الثنائية المقيتة التي يريد أن يقحمنا فيها أصحاب هذه الجمل المتطرفة بشقيها الأصولي والتحرري لا يعبران في شيء عن فكر الغالبية العظمى من الشعب التونسي و لا عن تطلعات الانتقال الثقافي التي نريدها أن ترافق و تصاحب هذا الانتقال
السياسي العظيم الذي تعيشه البلاد

فالأولون يريدون بكل ثمن أن يعودوا بنا إلى كهوف التاريخ و سراديب الماضي المظلمة ممتطين في ذلك شعار الهوية العربية الإسلامية لشعبنا , و الطرف الثاني يريد من عشرة ملايين تونسي مسلم أن يتركوا إسلامهم و ثقافتهم و أن يعبدوا نظرية لنشوء والارتقاء, والانفجار العظيم حتى يرضوا غرورهم و نرجسياتهم

إذن فإن حديثي عن قناة نسمة يتنزل في هذا السياق , إذ و بعد إمعانها في المنحى التفسخي الذي سلكته منذ بداية شروعها في البث نشبت حملة محمومة من طرف الأولياء الصالحين يهاجمون فيها القناة و ينددون ما تقدمه من برامج تخدش حياء العائلة التونسية المحافظة , و هو ما أراه صحيحا و مشروعا لولا أني أعرف أنه يختفي وراء هذه الحملة الأخلاقية في الظاهر بروباغندا سياسية مقيتة تريد أن تلعب على كل النقاط التي من شأنها أن تستفز عاطفة الجماهير و شعورهم الأخلاقي و الديني.
في المقابل و بعقلية الحملة المضادة التي تحرك الضفة الأخرى انطلق المساكين في تعبأة الحجج و البراهين للدفاع عن الخط التنويري لقناة نسمة

ومن تصادم المتناقضين عشنا كابوسا مرعبا نشاهد وقائعه دون أن نقدر أن نوقفه و لا أن نصدح بأصواتنا و لا أن نندد بأزمة الغباء التي خلنا أنها ستولي مع انتهاء الساعة الأخيرة من مساء 14 جانفي حين حطت طائرة المخلوع بعد تحليق طويل
و لذلك فقد أردت أن أقدم رأيا متواضعا حول قناة نسمة و حول ما يتجاذب حولها من جدل في الآونة الأخيرة :
أولا إن قناة نسمة لا تمثل في شيء الأفكار التحررية والتقدمية التي تدعي التكلم باسمها فلا أضن أن هناك قاموسا من القواميس بأي لغة من اللغات يجعل من التقدمية و الحداثة و ما خالف ذلك من المصطلحات رديفة للعراء و التفسخ و الانحلال الأخلاقي لذلك فإن الإسلاميين الذي يريدون أن يتخذوا منها مدخلا للقدح في هذه القيم- التي لا تتمايز فقط عن المضمون المائع لقناة نسمة بل تتناقض معه -عليهم أن يعرفوا أين يوجهوا تهمهم لأننا مللنا هذه الديماغوجيا القاتلة , كذلك فإن الذين يقدمون أنفسهم على أنهم تقدميون ثم ينخرطون في الآن ذاته في دفاع مستميت عن هذه القناة و على القذرات التي تقدمها عليهم أن يراجعوا جيدا مقولاتهم أو أن يكفوا عن الانتساب لهذه الأفكار

أما عن الأفق الفكري الذي تصدر عنه قناة نسمة فأرى أنه ليس من العسير جدا أن نتعرف على مدلولاته و طبيعته , فيكفي فقط أن ننظر إلى مالكي هذه القناة من المافيا الإيطالية ” برلي سكوني و أثرى أثرياء البلاد ” طارق بن عمار و “نبيل القروي ” فهذه التشكيلة المتورطة في الفساد المالي و الأخلاقي و التي تجمع بين المتاجرة في السلع و المتاجرة في البشر لا يمكن أن تقدم إلا مضمونا منحطا و هابطا و لا يمكن أن تنظّّر إلا للثقافة التي تخدم هيمنة رساميلهم على الشعوب , لكن المصيبة هي أن هذه المشاريع اللا إنسانية والمتوحشة تقدم نفسها دائما تحت يافطات الحداثة و العقلانية والتقدمية و هي الأفكار التي ابتدعها الفكر الإنساني الأصل ليحمي إنسانيته منهم

ومن هنا فإنه من الطبيعي أن يثور المشاهد التونسي العادي على الفكر التقدمي و يعتبره فكرا مسموما و كريها إذا ما كان يقدم الدعارة رديفا لتحرر الإنسان من عقده , والعلاقات البربرية والوحشية الغير خاضعة لأي أدنى عاطفي أو أخلاقي رديفا لتجاوز ممنوع عقدة الجنس و ما إلى ذلك من أمراض و تشوهات نفسية تصب جلها في خانة التأسيس للأخلاق اليبرالية ولثقافة الاستهلاك التي تضرب البنية الذهنية والفكرية للشعب و-خصوصا الشباب منهم- لينشأ بذلك جيل مشوش التفكير متداخل المفاهيم غير مستند إلى أي رابط فكري أو أخلاقي و هو الطراز الذي تبحث عنه الرأسمالية لتأبيد نفوذها على الأجساد و العقول

إن الفكر التقدمي على عكس ما تصوره قناة ” العاصفة” هو نظرة للعالم تقوم على التسليم صيرورة التاريخ و تطوره, و بأن حركة الإنسان في هذا التاريخ محكومة برغبته في تحقيق شروط بقاء أفضل للإنسانية عبر النضال ضد التمييز بكل أشكاله العرقي أو الطبقي أو الجنسي , و عبر النضال ضد الهيمنة التي تريد أن تفرضها قوى الحرب و الدمار والجشع من عبدة الدولار, حتى لا يعود أباطرة القرون الوسطى إلى السيطرة تحت عباءات جديدة و حتى لا يتحول الإنسان إلى شيء يتساوى مع غيره من الأشياء أمام القانون العاتي “لسوق الجملة

فلنصرخ إذن بصوت واحد لا لميوعة قناة نسمة , لكن باسم العقل و مقاوة تشويه المفاهيم لا باسم الانتكاسية وثقافة الكهوف